وجد الإسلاميون أنه لا يمكن لأفكار من القرن الماضي كان دعا إليها حسن البناء وسيد قطب، تحث الشباب على الانعزال عن المجتمع، أن تجد مكانا في القرن الحادي والعشرين، لذلك لعبوا على استثمار الوضع الاجتماعي ليسوّقوا لأفكارهم في استقطاب الشباب عماد المستقبل.
أعاد الجدل الذي ثار في العاصمة التونسية بشأن شراكة بين وزارة الشؤون الدينية وجمعية خيرية محسوبة على حركة النهضة ذات الخلفية الإخوانية، إلى الواجهة دور الجمعيات الخيرية في اختراق النسيج الاجتماعي العربي بشكل ناعم وخدمتها لأجندات الجماعة سواء كأذرع محلية، أو كتنظيم دولي.
وقاد انكشاف اتفاق بين جمعية مرحمة للمشاريع الاجتماعية والخيرية، ومديرها التنفيذي العضو السابق في مجلس الشورى بحركة النهضة محسن الجندوبي، ووزارة الشؤون الدينية في تونس، إلى ردود فعل في وسائل إعلام مختلفة، ودعوات إلى استقالة وزير الشؤون الدينية أحمد عظّوم.
وكشف متابعون لأنشطة مرحمة أنها ساهمت في بناء مساكن اجتماعية ومدارس ومراكز صحية، وأنها تتحرك بحرية تامة، وتختار بنفسها المشاريع التي تنفذها تحت ستار العمل الخيري، فيما تغيب الرقابة الحكومية عن أغلب المشاريع بسبب تشتت جهود الدولة في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والخلافات السياسية لما بعد ثورة 2011.
ويقول المتابعون إن الجمعيات الخيرية انتشرت بكثرة مباشرة بعد الثورة، وخاصة بين سنتي 2012 و2013 فترة حكم الترويكا بزعامة حركة النهضة، لكن ليس هناك جهة سياسية أو حكومية تتبنى أيا من هذه الجمعيات التي تقول تقارير إن عددها بالآلاف، وأنها تتلقى تمويلا من جهات وكيانات موجودة في تركيا وقطر ومنظمات إسلامية عابرة للدول.
ولا شك أن الحالة التونسية جزء من حالة أشمل في المنطقة، وأن الأمر يتجاوز الشرق الأوسط إلى أماكن أخرى مثل أفريقيا وأوروبا وجنوب شرق آسيا، ما يعني أن الرهان على الجمعيات الخيرية هو جزء مفصلي في استراتيجيات الحركات الإسلامية للتمكين والاستقطاب.
ويعتقد خبراء في الجماعات الإسلامية أن مواجهة الشبكات المتشددة التي تتولى الاستقطاب لفائدة داعش أو القاعدة لا يمكن أن تحقق نجاحا في تفكيك هذه الشبكات ما لم يتم فهم سياقات الدعوة وأوجهها المتعددة في تفكير تلك الجماعات.
ويوظف الإسلاميون الأموال التي يجمعونها بأشكال مختلفة في الدعوة والاستقطاب، وبعض هذه الأموال معروف مثل تبرعات الأعضاء، وتجميع أموال الزكاة، وتمويل جمعيات إخوانية عابرة للدول، وتبرعات رجال أعمال وتوظيفها في مشاريع ربحية، وبعضها الآخر غير معروف وسط تقارير تفيد بمتاجرة بعض الجماعات في السلاح أو المخدرات، وغسيل الأموال.
ولا يكمن خطر هذه الجمعيات في استقطاب الفقراء والمهمشين في توظيف أصواتهم خلال الانتخابات مثلما جرى في تونس 2011، فهذا أمر محدود التأثير ويمكن للأحزاب المدنية والليبرالية تداركه بسهولة، وهو ما حصل في الانتخابات الموالية، حيث نجح حزب نداء تونس في الفوز بالانتخابات، إنما يلفت خبراء في الإسلام السياسي إلى أن الجمعيات الخيرية مع مرور الوقت بدأت تأخذ مكان الدولة في المناطق المهمشة، أو ما يطلق عليه مناطق الظل التي لا تصل إليها برامج الحكومات، أو أنها توكل مهمتها لمسؤولين محليين دون أن تراقب أداءهم ليثيروا الغضب بين الناس عبر منظومة فساد قديمة نجحت في الاندماج بيسر مع المنظومة الجديدة، منظومة ما بعد الثورة، حيث تضاعفت أشكال الفساد واحتكار الموارد والدعم والإعانات الموجهة من المركز إلى هذه المناطق، خاصة خلال الشتاء مع نزول الثلج.
ويستفيد الإسلاميون من غياب أي تيار اجتماعي حيوي يسند دور الدولة خاصة بعد انقلاب اليسار من حركة اجتماعية تساند الطبقة المهمشة/ البروليتاريا، إلى بورجوازية صغيرة منكمشة على ذاتها داخل الطبقة الوسطى، وانحصر دور اليسار في النضال من داخل الاتحاد العام التونسي للشغل لتمكين الموظفين من زيادات وعلاوات دون أي دور عملي نضالي إلى جانب الفئات العاطلة عن العمل، أو محدودة الدخل.
ويحذر الخبراء من أن انسحاب اليسار، وضعف تأثير الدولة يحولان المناطق الفقيرة إلى أرضية خصبة لثقافة التيارات المتشددة، مشيرين إلى أن الدور الحيوي الذي لعبه السلفيون في 2012 و2013 في نجدة مناطق الشمال الغربي والوسط في تونس خلال موجة البرد والثلج عبر تكثيف الإعانات وفي وقت سريع سهّل استقطاب شباب الجهة لقيادة العمليات التي تنفذها جماعات متشددة ضد الدولة في جبال الشمال الغربي والوسط الغربي.
ويمثل شباب محافظات جندوبة والكاف والقصرين، وهي مناطق حدودية مع الجزائر، العنصر الرئيسي في كتيبة عقبة بن نافع الإرهابية التي استهدفت عملياتها قوات الجيش والحرس في سلسلة جبال الطويرف والشعانبي وسمامة ومغيلة، وقد نجحت القوات التونسية في توجيه ضربات قوية لها في الأشهر الأخيرة.
وركز المتشددون في عملية الاستقطاب على خريجي الجامعات العاطلين عن العمل مستفيدين من الغضب على أداء الدولة ما بعد الثورة في توفير مواطن العمل، فضلا عن سهولة إقناعهم بالأفكار والقيم المتشددة حيث نشطت في السنتين الأوليين بعد الثورة ظاهرة ارتداء النقاب بين طالبات الجامعة، فضلا عن الزواج العرفي، واستهداف رموز الدولة مثل محاولات نزع العلم وتعويضه براية التنظيمات المتشددة، ومهاجمة التظاهرات الثقافية والفنانين ودور السينما.
ويعتقد متخصصون بظاهرة الإسلام السياسي أن أخطر مشاريع الجمعيات الخيرية أنها تغري الشباب بتبني الأفكار المتطرفة والتخلي عن القيم المدنية السائدة، وأنها توظف المال، الذي تحصل عليه بكل يسر، في عمليات التأثير على الشباب عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبر أكبر عناصر الجذب للتطرف والعنف عبر نشر أشرطة الفيديو الحماسية، ونقل الفتاوى، واختلاق قصص وحكايات للترغيب في الانتماء إليها.
ويرى المتخصصون أن تجميع أموال التبرعات بمختلف الطرق صار أولوية لدى الجماعات الإسلامية المختلفة لدوره الأهم في الاستقطاب الحزبي والتنظيمي، وخاصة في جذب الشباب الغاضب للمشاركة في العمليات العسكرية والتفجيرات التي تنفذها تنظيمات مثل داعش والقاعدة في سوريا والعراق وليبيا، وأن تغيير الأولويات تم بعد أن فشل أسلوب الدعوة التقليدي الذي تتبعه هذه الجماعات في جذب شباب متأثر بالقيم الغربية التي تشيع بين الناس بتطور وسائل الإعلام، وخاصة الإعلام الاجتماعي.
ووجد الإسلاميون أنه لا يمكن لأفكار القرن الماضي التي دعا إليها حسن البنا وسيد قطب، والتي تحث الشباب على الانعزال، ومقاطعة الثقافة الاجتماعية، أن تجد مكانا في القرن الحادي والعشرين، لذلك لعبوا على استثمار الوضع الاجتماعي وحاجة الناس إلى المساعدة ليسوقوا أفكارهم.
ويهدد التغاضي الرسمي عن أنشطة هذه الجماعات في مختلف الدول العربية -وهو تغاض يعود في جانب منه إلى سلبية الحكومات وحساباتها الآنية وبينها ضمان صمت اللوبي الإسلامي في مؤسساتها واستقطابه لدعمها- الدولة بأن تفقد هويتها الوطنية، خاصة أن هذه الجماعات تمتلك من الوسائل المتجددة ما يمكنها من التأثير بعيد المدى، وخلق أجيال جديدة لديها قابلية للتطرف والعيش في الماضي، والرغبة في الاتكاء على الأموال الخيرية بدل الاجتهاد في العلم والعمل، أي خلق جيل سلبي جاهز للتطرف والموت العبثي.
مختار الدبابي - عن "العرب" اللندنية