الجزر اليونانية المحيطة بتركيا... نزاع تاريخي بأبعاد متجددة

الجزر اليونانية المحيطة بتركيا... نزاع تاريخي بأبعاد متجددة


29/03/2021

تنتشر على امتداد سواحل غرب وجنوب غرب تركيا العشرات من الجزر الخاضعة للسيادة اليونانية رغم ابتعادها مئات الكيلومترات عن البرّ اليوناني، وهو ما يطرح تساؤلات حول الخلفية التاريخية التي فرضت هذا الواقع، ويبرز أيضاً التساؤل حول أهمية الجزر والأبعاد والمضامين المتجددة للنزاع حولها.

بداية النزاع

خاض اليونانيون حرب استقلال عن الدولة العثمانية، انطلقت عام 1821، واستمرت حتى نالت اليونان استقلالها ونالت الاعتراف الدولي بها دولة ذات سيادة عام 1832، وذلك بموجب بروتوكول لندن الموقع بين الدول الكبرى عام 1830. إلّا أنّ الجزر المنتشرة في بحر إيجة والبحر المتوسط والمحيطة بشبه جزيرة الأناضول (تركيا اليوم) لم تكن جزءاً من الدولة اليونانية الوليدة، وبقيت جزءاً من الدولة العثمانية، وذلك باستثناء جزر محددة انتقلت إلى اليونان عند الاستقلال كـ "سبوراديس الشمالية"، ومجموعة جزر "سيكلاديس"، من الجزر القريبة جداً من الساحل اليوناني.

خريطة اليونان (باللون الأبيض) ويظهر العدد الكبير من الجزر اليونانية في بحر إيجة والبحر المتوسط

"احتلال" إيطالي ويوناني

في عام 1912 وفي أثناء الحرب العثمانية الإيطالية في ليبيا قام الأسطول الإيطالي باحتلال أرخبيل جزر "دوديكانيسيا". ومع اندلاع حرب البلقان في تشرين الأول (أكتوبر) 1912، اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيع معاهدة "لوزان الأولى"، واتفقت فيها مع إيطاليا على انسحاب القوّات العثمانية من ليبيا مقابل انسحاب الإيطاليين من الجزر التي احتلوها، إلّا أنّ إيطاليا لم تنسحب من الجزر بذريعة أنّ انسحابها يعطي الفرصة لليونان لاحتلالها، ومن جهتها، رأت الدولة العثمانية أنّ بقاء إيطاليا في الجزر إلى حين انتهاء حرب البلقان أفضل من احتلال اليونان لها.

استغلّت اليونان حرب البلقان عام 1912 وقامت باحتلال عدة جزر في بحر إيجة والبحر المتوسط

وكانت اليونان قد استغلّت فترة حرب البلقان وقامت باحتلال عدة جزر في بحر إيجة، مثل؛ ليمنوس، وميديللي، إضافة إلى جزر في البحر المتوسط كجزيرة "كاستيلوريزو". وفي نهاية حرب البلقان عقدت معاهدة لندن بين الدولة العثمانية ودول البلقان في أيار (مايو) 1913، وتنازلت الدولة العثمانية فيها عن جزيرة كريت لليونان، مع ترك تحديد مصير الجزر الأخرى لقرار الدول الـ6 الكبرى (فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والنمسا-المجر، وروسيا، وإيطاليا). وفي شباط (فبراير) 1914 أبلغت الدول الـ6 الكبرى كلاً من الدولة العثمانية واليونان قراراتها بخصوص جزر بحر إيجة، والتي نصّت على عودة 3 جزر إلى الدولة العثمانية، ومنح دولة اليونان باقي الجزر.

اقرأ أيضاً: مقبرة عُثمانية تُثير أزمة جديدة بين تركيا واليونان

خلال أعوام الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أصبحت جزر دوديكانيسيا قاعدة متقدمة لإيطاليا ودول الحلفاء في مواجهة الدولة العثمانية التي كانت جزءاً من تحالف دول المحور. وعقب انتهاء الحرب وهزيمة العثمانيين جرى توقيع معاهدة "سيفر" عام 1920، وبموجبها أجبرت الدولة العثمانية على التنازل عن كثير من أراضيها، وغالبية حقوقها بالجزر المحتلة من قبل إيطاليا، وكذلك التنازل عن الجزر التي احتلتها اليونان، وهو ما جرى تثبيته رسميأ في معاهدة لوزان عام 1923.

جزر دوديكانيسيا (باللون الأحمر) انتزعتها إيطاليا من الدولة العثمانية عام 1912

الحرب العالمية الثانية وما بعدها

خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) استخدمت إيطاليا وحليفتها ألمانيا جزر دوديكانيسيا منطلقاً لعملياتها في منطقة البحر المتوسط. وبعد هزيمة إيطاليا وخروجها من الحرب عام 1943 تحولت الجزر إلى ساحة معركة بين الحلفاء والألمان، وظلّت كذلك حتى نهاية الحرب عام 1945، وبعد هزيمة ألمانيا، سلمت الجزر للبريطانيين. وفي شباط (فبراير) 1947 وقعت اتفاقية السلام بين إيطاليا والحلفاء، والتي نصّت على تسليم إيطاليا الجزر إلى اليونان.

تهديد استراتيجي

من منظور تركيا فإنّ هذا التسليم للجزر لم يتم برضا الأتراك، ولم يأخذ بعين الاعتبار أيّ أسس جغرافية أو عرقية أو تاريخية، وإنما جرى بفرض من قوى دولية. وقد اكتسب النزاع على الجزر حساسية بالغة بسبب انتشار الجزر بالقرب من السواحل التركية، وهو ما ولّد نزاعاً وتداخلاً في السيطرة على المجال البحري والجوي بين البلدين في بحر إيجة والبحر المتوسط.

اكتسب النزاع على الجزر حساسية بالغة بسبب انتشار الجزر بالقرب من السواحل التركية، ما ولّد تداخلاً في السيطرة على المجال البحري والجوي بين البلدين

وقد تزايد حضور البعد العسكري للنزاع تحديداً منذ عام 1960، بعد أن اتجهت اليونان لنشر السلاح في العديد من الجزر في بحر إيجة، وذلك بالرغم من أنّ معاهدة لوزان (عام 1923) نصّت على نزع السلاح من الجزر. وقد احتجت اليونان بمعاهدة مونترو لعام 1936، وهي المعاهدة التي أعطت لتركيا الحق بتسليح المضائق التي تسيطر عليها، فاعتبرت أنّ ذلك كان خرقاً كذلك لما قرّرته لوزان.

اقرأ أيضاً: طائرات تجسس تركية تخترق مجال اليونان... هل تؤثر على المفاوضات؟

وفي الآونة الأخيرة، وبدافع من زيادة التنافس بين البلدين، أصرّت تركيا على امتلاك منظومة للدفاع الجوي لمواجهة أي خروقات محتملة من قبل سلاح الجو اليوناني، خاصّة بسبب التداخل في المجال الجوي بين هذه الجزر وتركيا، وبسبب امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن تزويد الأتراك بمنظومة صواريخ باتريوت الدفاعية، كان الخيار التركي هو القيام بشراء منظومة صواريخ (400S-) الروسية.

موقع جزيرة كاستيلوريزو... تبعد عن مدينة "كاش" التركية أقل من 2 كم

البعد الاقتصادي

بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، فإنّ المناطق الاقتصادية الخالصة، التي يجوز للدولة استغلالها والاستفادة من مواردها، تكون ممتدة إلى غاية مسافة (200) ميل بحري، مقيسة من خطوط الأساس الذي يبدأ منها قياس البحر الإقليمي، بما في ذلك سواحل الجزر. وفي حالة تركيا، فإنّ ذلك يعني أنها محاصرة بعشرات الجزر الصغيرة التي تحرمها من مدّ منطقتها الاقتصادية في عمق البحر الأبيض المتوسط، وهذا هو السبب في أنّ تركيا امتنعت، وما تزال، عن الانضمام إلى الاتفاقية الأممية، بسبب رفضها مثل هذه الصيغة التي تراها ظالمة.

تتسبب الجزر في تقليص مجال تركيا البحري، وهي تمنع تركيا من الحصول على منطقة اقتصادية بحرية أوسع

وبالتالي، فإنّ النزاع اكتسب أبعاداً استراتيجية أخرى، فهذه الجزر تتسبب في تقليص مجال تركيا البحري، وهي تمنع تركيا من الحصول على منطقة اقتصادية بحرية أوسع، تسمح لها بالتنقيب عن الغاز والموارد الطبيعية واستغلالها ضمن نطاقات أوسع. والمثال الأكثر ذكراً واعتراضاً من قبل الأتراك هو جزيرة صغيرة اسمها "كاستيلوريزو"، التي تُعتبر من أصغر الجزر اليونانية في أرخبيل جزر "دوديكانيسيا"، وهي آخر امتداد لهذه الجزر من جهة الشرق، وهي كذلك قريبة جداً من الساحل التركي، لا يفصلها عنه سوى مسافة تقلّ عن 2 كم، في حين أنها تبعد عن البر اليوناني قرابة الـ(550) كم.

اقرأ أيضاً: تركيا واليونان.. أزمات تاريخية لا تنهيها مفاوضات الأمر الواقع!

إنّ ضمّ كاستيلوريزو إلى الحدود الاقتصادية الخالصة لليونان يعني فقدان تركيا مساحات كبيرة  في شرق البحر المتوسط، وذلك بسبب موقعها القريب جداً من الساحل التركي (في مركز الدائرة الصفراء بالصورة أدناه) ما يسبب تقليصاً كبيراً في المساحة المخصصة لتركيا، وذلك ما يصطدم مع ما تعوّل عليه السلطات التركية من الحصول على الغاز الطبيعي لمواجهة الاحتياجات المتزايدة للاقتصاد التركي إلى مصادر الطاقة، في ظل استيراد معظم الاحتياجات من الخارج، ما يسبب عبئاً دائماً على مجمل الاقتصاد التركي.

باللون الأحمر... المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية من المنظور اليوناني

يعتبر الأتراك أنّ مثل هذا الضم لهذه الجزر الصغيرة البعيدة عن البرّ اليوناني يهدف إلى تقليص الحدود والمناطق البحرية المخصصة لتركيا، وبالتالي، وردّاً على ذلك، قامت الحكومة التركية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2019 بإبرام اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية. في حين جاء الرد اليوناني عبر عقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع مصر في مطلع آب (أغسطس) من عام 2020، وما يزال النزاع، حتى الساعة، في طور التصاعد وعدم الحسم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية