
مثل كل الأحزاب القائمة على مشاريع مناقضة للدولة، كان اعتماد أحزاب دينية في الجزائر مُجازفة أثبتت مع السنوات خطأها، ذلك أنها تأسست على إحيائها لميراث هامشي في تاريخ المسلمين السياسي القديم، ودفع المجتمع إلى صراع دموي ظاهره دعوة الجزائريين إلى الالتزام “بالدين”، وباطنه الوصول إلى الحكم، حتى لو أدَّى ذلك إلى القضاء على مقاصد الشريعة ذاتها.
وقد قلّص السماح بقيام تلك الأحزاب الدينية في البداية، حريّة تعاطي كل فرد جزائري مع القضايا المصيرية الكبرى، ثم أصبح حجر عثرة أمامها، وهكذا تكيَّفت الأحزاب الدينية من خلال التحايل مع القوانين التي نظمت اعتماد الأحزاب، سواء تلك التي ظهرت قبل القانون، وأسهمت في الإرهاب، أو تلك التي تحولت من جمعيات ثقافية واجتماعية إلى تنظيمات حزبية وازداد نشاطها حين وضعت الحرب الأهلية أوزارها في الجزائر، ومنها بوجه خاص”حركة مجتمع السلم”(حزب الإخوان المسلمين في الجزائر).
وهو ما ركزت عليه دراسة حديثة نشرها "مركز ترندز للدراسات والبحوث" تحت عنوان "الإخوان المسلمون في الجزائر.. تناسل الأحزاب ووحدة المقاصد"، واعتبرت أن القضية تتعلق أساسًا بدور “الإخوان المسلمين” السياسي لجهة الشراكة في الانتخابات وفي الحكم، وخروج عدد من الأحزاب الإسلامية من تحت عباءتهم، في“مسار تناسلي“.
الأحزاب الدينيّة.. الملامح والتشكيل
الدراسة أكدت أن التنظيمات الدينية –التي كانت تعمل في السرية– طوّعت الغضب الاجتماعي لمصلحتها، مع أن” الغضب مخلوق وحشي”، وكانت تلك بداية بَوْحِها بما يختلجُ في صدور قادتها لعقود مّرت في انتظارها لمواجهة تكون مدعومة من غالبية الشعب أو على الأقل مبررة.
بالرغم من موقف جماعات الإسلام السياسي من الرئيس الشاذلي بن جديد، فقد كانت ترحب بما يقوم به أحيانًا على عكس موقفها من الرئيس بومدين
وقد شكل كسْر حواجز الخوف، والمطالبة بالتغيير في سياق خطاب جديد، حالة وجودية للجماعات الدينية مناسِبة لتحقيق اقتناعاتها واعتبار نفسها “جماعات خيريّة صاحبة الصحوة والضمير”، مهمتها محاربة فساد النظام والحكم، وخصوصًا في الجانب الأخلاقي، حتى لو كانت تكلفته بعد ذلك فتنة كبرى جاءت أشد من القتل، وما كان ذاك تحايلًا منها بقدر ما بدا جهرا باقتناعات لم تستطع تحقيقها خلال 26 عامًا.
مُحاربة الفساد في عمومه –بعد عقد كامل من وجود الرئيس الشاذلي بن جديد في الحكم– لم تكن مهمة الجماعات الدينية وحدها، بل شاركتها فيها قوى سياسية أخرى، منها التيار الوطني –بما فيه عناصر قيادية من جبهة التحرير الوطني– وكذلك التيار اليساري، غير أن أسلوب المعارضة كان مختلفًا بينها.
وأعطت الجماعات الدينية لمحاربة الفساد بعدًا أخلاقيًّا، مما أكسبها جماهيريّة واسعة، مع أن الرئيس الشاذلي بن جديد، قد زاد من الجرعة الدينية داخل مؤسسات الدولة، وخصوصًا الجامعات، مثلما أتاح مساحة حرية لقادتها للتعبير عن اجتهاداتهم وآرائهم، التي كان بعضها مخالفًا لتوجُّهات الدولة، ومُزْعجًا لنظام الحكم.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها الرئيس بن جديد، والقرارات التي أعلنها، والمواقف التي اتّخذها، لمصلحة هويَّة الشعب وانتمائه من خلال تبنِّي قضايا الإسلام المصيرية داخل الجزائر، فقد عملت الجماعات الدينية المختلفة على توسيع الفجوة بين الشعب وبين نظام حكمه، وفقا للدراسة.
“الإسلام الرسمي”.. وموقف الجماعات
الدراسة ذكرت أن الخلاف بين الجماعات الدينية والنظام السياسي في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، رغم التقارب بينهما أحيانًا، والاعتراف المبطن وغير الثابت بمساحة الحرية التي أتاحها النظام لتلك الجماعات للقيام بما اعتبرته “دعوة” أحيانًا أخرى، جاء من ثلاثة عوامل، أوّلها: أن الرئيس الشاذلي قادم من المؤسسة العسكرية، وثانيها: أنه من حزب جبهة التحرير، وثالثها: أنه لا يتمتع بثقافة دينية مرجعية بالرغم من استعانته بعلماء جزائريين وعرب.
بالرغم من إدراك الرئيس الشاذلي لخطورة الإسلاميين فإنه عمل بقصْدٍ على ترجيح كفَّة النشاط المجتمعي لمصلحة التيار الديني
وبالرغم من موقف جماعات الإسلام السياسي من الرئيس الشاذلي بن جديد، فقد كانت ترحب، أو تستحسن، ما يقوم به أحيانًا، وهذا على عكس موقفها من الرئيس بومدين، مع أنه الأقرب إليها من ناحية المعرفة الدينية والثقافية، فقد كانت تخشى آراء بومدين، خصوصًا تلك الرافضة لنشوء “طبقة رأسمالية في الجزائر”.
غير أن تفصيل جبهة التحرير الوطني للإسلام على مقاسها، بما يناسب أطروحاتها السياسية، لم يلق قبولًا لدى تيار الإسلام السياسي منذ السنوات الأولى للاستقلال، وهكذا توسَّعت دائرة الاختلاف مع الجماعات الدينية بعد تبنّي الجزائر للاشتراكية، مع أنها صبغتها بطابع ديني، وسمّتها “الاشتراكية الإسلامية”.
كما لفتت الدراسة إلى أنه ومن نتائج النقاش حول الهوية الإسلامية للدولة الجزائرية، نشأت معارضة سلمية للسلطة منذ يناير 1964، تمثلت في نشاط جمعية القِيَم حين عقدت اجتماعًا حضرته ألوف عدة، اعترضت فيه على النفوذ المستمر للثقافة الفرنسية في الجزائر المستقلة، وطالبت الحكومة باتخاذ خطوات عملية لتعزيز اللغة العربية واحترام القيم الإسلامية.
وفي وقت لاحق تبنّت جمعية القِيَم الفكر الإسلامي المتطرف، لاسيما رئيسها هاشمي التيجاني؛ إذ أصبح يشارك حسن البنا وسيد قطب أفكارهما.
وانتهى الأمر ببعض أعضائها بالتورط في هجوم شن على التماثيل الرومانية في البلاد، ثم تطور أسلوب الخطاب عندها متّجهًا نحو العنف ورافضًا للتعايش السلمي بين الأحزاب، معتبرًا” خطرًا وغير شرعي، كل حزب سياسي، وكل نظام، وكل قائد، ما لم تركز قواعده على الإسلام”، الأمر دفع الرئيس هواري بومدين إلى حل جمعيّة القيم في سبتمبر 1966.
كان ترجيح السلة في الجزائر لكفة الإسلاميين قبل أحداث أكتوبر 1988 فعلًا سياسيًّا بل مشروعًا استراتيجيًّا على غرار تجارب دول عربية أخرى
وفي تلك الفترة ـ أي أثناء فترة حكم بومدين ـ بدأت المعارضة الإسلامية السلمية، تتفرع إلى” جماعات متعددة، منها ما هو مرتبط بالخارج، وتحديدًا بجماعة الإخوان المسلمين في مصر”.
وبحسب الدراسة، فإنه وبالرغم من إدراك الرئيس الشاذلي لخطورة الإسلاميين، فإنه عمل بقصْدٍ على ترجيح كفَّة النشاط المجتمعي لمصلحة التيار الديني، في وقت لم تتبلور بعد جماعاته في أحزاب معترف بها، أو حتى تنشط في السر، ولا حتى أبدت تشكّلها في تنظيمات تعدُّ أو تسعى لتكوين أحزاب، ومن مارس منها معارضة اختار طريق العنف.
لقد كان ترجيح السلة في الجزائر لكفة الإسلاميين قبل أحداث أكتوبر 1988، فعلًا سياسيًّا، بل مشروعًا استراتيجيًّا، على غرار تجارب دول عربية أخرى، شكل فيها تيار الإسلام السياسي قوة منافسة للسلطة، لكن اتّضح بعد ذلك أنه مشروع فاشل.
لقد انتظر تيار الإسلامي السياسي، وفي مقدمته جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر، أكثر من ربع قرن، حتى يصبح مؤثرًا في صناعة القرار، وذلك حين وظف الغضب الشعبي، الذي بدا عارمًا في أحداث أكتوبر 1988، ووصل إلى درجة الانفجار.
الأحزاب الإسلاموية.. وانفراد الإخوان
كانت التنظيمات الإسلامية تسير بحذر نحو تحقيق أهدافها، ويسعى كل منها للسيطرة على الساحة، وإن عملت على محاولة التجمع في تكتل واحد، مع المحافظة على خصوصيّة كل تنظيم، وعلى هذا الأساس ظهر أول حزب إسلامي معترف به حمل اسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ برئاسة عباسي مدني، وبموازاته ظهرت جمعية الإرشاد والإصلاح برئاسة محفوظ نحناح، وجبهة النهضة الإسلامية برئاسة عبد الله جاب الله، ورابطة الدعوة الإسلامية برئاسة أحمد سحنون، وفقا لما ورد في الدراسة.
وذكرت الدراسة أن الإخوان المسلمين رفضوا في البداية تشكيل حزب سياسي، كما رفضوا الانضمام للجبهة الإسلامية للإنقاذ أيضًا، ثم انتهوا إلى قناعةٍ مُفادُها أنه لا جدوى من السعي لتحالف إسلامي، مادامت الجبهة الإسلامية للإنقاذ هي الأقوى، فضلًا عن أنها سلكت طريق المغالبة والأحادية في مواجهة الجيش، خصوصًا بعد فوزها في الانتخابات البلدية.
صفوف التنظيم شهدت مؤخرًا في الجزائر رجة قوية أحدثتها الانتخابات الرئاسية المقبلة أفضت إلى انشطار التيار بين مؤيد لمرشح السلطة وبين معارض لها
وبحسب ما ورد، فإن الإخوان المسلمون في الجزائر أنشأوا حزبهم عام 1990، وأطلقوا عليه اسم حركة المجتمع الإسلامي تيمُّنًا بـ”حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) في فلسطين، لكنهم وطبقًا للتغيرات القانونية التي طالت الأحزاب في العام 1996، بحيث لا يسمح بأن تحمل الأحزاب اسمًا إسلاميًا أو قوميًا أو جهويًا، غيّروا اسم حزبهم ليصبح، كما هو في الوقت الحالي، (حركة مجتمع السّلم) (حمْس).
وفي العام 1996شارك الإخوان في الحكومة بوزيرين كأول تجربة لدخول الإسلاميين الجزائريين إلى الجهاز التنفيذي، إذ كان من نصيبهم وزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكتابة الدولة للصيد البحري.
وفي عام 1997 شاركوا في الانتخابات البرلمانية التعددية، وكذلك في المحليات (البلدية والولاية)، وحصلوا على 71 مقعدًا في المجلس الشعبي الوطني(البرلمان)، ونحو 1100 منتخب محلي منها، وبفضل هذه النسبة ارتفع عدد الوزراء إلى 7 حقائب وزارية.
وفي الانتخابات الرئاسية عام 1999، وقف الإخوان إلى جانب المرشح عبد العزيز بوتفليقة، وبفوزه وقعوا عقد ائتلاف حزبي وتحصلوا على وزارة العمل والحماية الاجتماعية، ووزارة الصناعة، ووزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ووزارة الصيد والمنتجات الصَّيْديَّة.
واعتبرت الدراسة أن الانتخابات قد ساعدت مختلف تنظيمات الإخوان المسلمين في الجزائر على الولوج إلى السلطة، حتى لو تراجعوا أحيانًا، من ذلك فوز (حمس) في الانتخابات التشريعية التي جرت في 12 يونيو 2021 بـ 65 مقعدًا، وفوز حركة البناء الوطني، بـ39 مقعدًا، وهذا يعني فوز الإخوان بربع المقاعد البرلمانية تقريبًا.
لكن صفوف التنظيم شهدت مؤخرًا في الجزائر رجة قوية أحدثتها الانتخابات الرئاسية المقبلة، أفضت إلى انشطار التيار بين مؤيد لمرشح السلطة وبين معارض لها، قبل أن يتم انقلاب أبيض داخل الحركة الأم، التي رشحت رئيسها الحالي، بدل السابق الذي كان يهيئ نفسه لخوض الاستحقاق قبل أشهر عدة.