الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية

الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية


24/03/2022

سمير سليمان

صدر حديثاً، عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع في إسطنبول ، كتاب “الثقب الأسود – أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية”، للكاتب والباحث السوري طارق عزيزة.

يقع الكتاب في260 صفحة، وجاء مقسّماً إلى مقدّمة وأربعة فصول رئيسية وفصل ختامي. يتناول الكتاب دور الإسلام الحركي، بوجهيه السياسي والجهادي، في تفاعله مع تحولات السياسة والاجتماع السوريين، منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى اللحظة الراهنة، مع تركيز على سنوات الثورة السورية.

يفرد الكاتب الفصل الأول لمسائل نظرية وتاريخية، يبيّن فيها بإيجاز تمييزه بين “دين المسلمين”، كعقيدة وساحة شعور وإيمان، وبنية أخلاقية عامة، وبين ما سمّاه “أيديولوجيا الإسلاميين”، وهي، كما يقدّمها، الأيديولوجيا التي شكّل نسيجها إسلاميون من مختلف بقاع العالم الإسلامي، باعتبارها نظرية في الحكم ترتكز على الدين الإسلامي من جهة، ووسيلة للوصول إلى السلطة السياسية، بمشروعية منبثقة من أساس ديني من جهة ثانية، وأداة تحشيد واستقطاب لتحقيق ذلك في الواقع من جهة ثالثة، مع تأكيده أنّه هذا ينطبق على إسلاميي السنّة والشيعة على السواء.

غلاف الكتاب

صحيح أنّ طارق عزيزة ليس أول من يناقش تلك المسائل ولن يكون الأخير، إلا أنّ هذا النقاش سيبقى ضرورة ملحّة أمام المحنة التي تواجه شعوب المسلمين، في صراعها مع أنظمتها.

وفي ما يخص المجتمع السوري، سيبقى موضوع الإسلام السياسي فارضاً نفسه في الصراع الفكري والسياسي والثقافي السوري، إلى أن يتحقق الفصل النسبي المنشود بين الدين والسياسة في الاجتماع السياسي السوري، وما يناظره من فصل بين الدين والدولة في حقل الحوكمة ومحدّداتها الدستورية، فهي مواضيع لاتزال تحتفظ براهنيتها وضرورتها لأجل غير منظور.

في الفصل الثاني، وأرى أنّه الأهم للقارئ السوري غير المتخصّص، يتناول الباحث بدايات ظهور الدعوات الجهادية التي تتبنى العنف كمنهجية أساسية مسنودة فقهياً، ويسلّط الضوء على السياقات التاريخية لتطور الدعوات الجهادية في سوريا، بالترافق مع نشوء دولة البعث، ثم الدولة الأسدية في مرحلتيها، الأسد المؤسس وابنه الوارث، قبل اندلاع الانتفاضة في مارس/آذار 2011، وبعدها.

وتكمن أهمية هذا الفصل في تبيانه بوضوح، أن ما أُطلق عليه مصطلح “أسلمة الثورة” لم يكن ظاهرة تولّدت، بتمامها وبدون تراكمات سابقة، مع الانتفاضة أو في سياقها وحسب، أو أنها تخلّقت بفعل قوى وإرادات خارجية استدعتها الانتفاضة فقط، بل هي تتويج انفجاري لما تراكم في المجتمع السوري خلال عقود سابقة، دون أن ينسى الكاتب الإشارة إلى دور المعارضة والنظام وداعميهما في الدفع بهذا الاتجاه.

يبدو لي أنّ الكاتب أصاب في تحليله، لأنّ التراكمات الصراعية التي فجّرتها الانتفاضة، أتت بعد كبت مديد سبّبه الاستبداد، أوجد شروط نمو سرطاني، انتهى إلى ثمار دموية ناجمة من التقاء موضوعي بين استبداد سياسي طائفي للنظام الأسدي من جهة، وبين نشاط حركي إسلاموي طائفي من جهة مقابلة. وهو الالتقاء الذي، بما لا يخالف أي منطق، حرف الانتفاضة باتجاه صراع مسلّح، لا يخلو من ملامح الحرب الأهلية، وجعلها قابلة لتكون كذلك، عبر تعميقه للتصّدعات الطائفية التي أسّس لها نظام الأسد خلال حكمه القمعي المديد، ما سهّل فيما بعد كلّ أشكال التدخل الخارجي، مالياً وسياسياً وعسكرياً وأيديولوجياً.

استتبع ذلك التدخل تقطيع البلد جغرافياً، وتمزيقه اجتماعياً، وتعدّده سلطوياً. فلا مكان هنا، إذن، من دور لنظرية المؤامرة التي يتمسك بها فقيرو التفكير السياسي، ولا أهمية حاسمة للتخاذل الغربي كما جرى تصوّره، على الأقل في السنوات الأولى للانتفاضة، في التداول السياسي الشائع وقتها، وهو تداول ما زال مستمراّ عند كثير من السوريين المعارضين.

ويعزز الكاتب عزيزة أطروحته بالإشارة إلى ترافق عملية “أسلمة الثورة” السورية بما هو مضاد ومتناقض مع أهم شروطها وأهدافها، وأعني قمع دور المرأة السورية، وتغييبها عن ساحة الفعل والرأي العموميين، بعدما فاجأ هذا الدور، بحيويته ونشاطه التحرري السلمي الواعي، كل المجتمع السوري، بما في ذلك الشريحة الأكثر قرباً ومعرفة بهذا الدور.

هذا التغييب يعني، رفض كل أشكال الديموقراطية السياسية والحقوقية التي كانت أساس الانتفاضة وهدفها. فتجريد المرأة من أيّة فاعلية سياسية أو اجتماعية ترافقَ مع محاربة الميول الحداثية عند الشباب، وبالذات محاربة حسّهم بالحرية الفردية وبالديمقراطية.

هذا كله ساهم في إيجاد الشروط والبيئة الضرورية، لسيادة عنف مسلّح ومؤطّر بأيديولوجيا دينية تستبعد التنوع وتعادي فكرة وروح الاجتماع الوطني، لصالح تسعير الشقاق الطائفي الذي أراده النظام، وأدى، إلى جانب عوامل أخرى مختلفة ومتفاوتة الأهمية، دوراً في بقاء نظام الأسد وفشل الانتفاضة ضدّه.

بالعودة إلى الكتاب، يبدو الفصل الثالث أكثر تشويقاً، وفيه يعرض الكاتب ويوثّق، بسلاسة وتكثيف، نموذجين لتطور الجهادية الإسلامية في سوريا ما بعد 2011، فيدرس فصيلين من أكبر الفصائل الإسلامية التي تكاثرت كالفطر، خلال الصراع، هما “جبهة النصرة” بمراحلها وتسمياتها المختلفة، و”جيش الإسلام” منذ بداياته في غوطة دمشق وحتى ارتهانه للوصاية التركية في الشمال السوري، ثم يختم الفصل بالحديث عن الاقتتال بين الفصائل الإسلامية نفسها.

تجدر الإشارة إلى أنّ الكاتب لم يتناول تنظيم “داعش”، إذ أوضح أنّه لا يعتبره فصيلاً سورياً بالمعنى الصرف. لايحتاج هذا الفصل من الكتاب للتعليق هنا، فهو يوثّق سلوكيات ومنهجيات معلنة، عرفناها جميعاً كسوريين، ترفض الديمقراطية في الحكم، وتحارب التعايش الاجتماعي بشروط الحداثة.

وهي تثبت بذاتها أطروحات الفصل الأول النظري من الكتاب، وتؤكد تحليل الكاتب وفهمه لدور الجهادية الإسلامية في مشروعها السياسي العام، وخطورة حضورها في أية حركة تحررية، حدثت أو يمكن أن تحدث في مقبل الأيام، كما أن تطوّر النموذجين اللذين تناولهما الفصل الثالث، يقدّم مثالاً يجسّد الكلام الذي تصمّنه الفصل الثاني بشأن “أسلمة الثورة”.

ومن خلال السرد المكثّف والموثّق والرشيق، استطاع الكاتب أن يجعل من هذا الفصل مادّة دسمة يمكن أن تفيد الباحث والمؤرخ الذي سيكتب في تاريخ الثورة السورية، وإن كان لا يحل، بعموميته واختصاره، محل التاريخ المفصّل وحوليات الجهادية الإسلامية في الثورة السورية التي لم يُكتب تاريخها بعد.

في الفصل الرابع يعود الكاتب إلى تقديم مناقشة نظرية وسياسية للتوظيف السياسي للدين في المجتمع السوري، من قبل النظام الأسدي أولاً ثم من قبل الإسلاميين، قبل الانتفاضة.

ربما كان من الأنسب، كما أرى، أن يكون هذا الفصل متقدماً على الفصلين السابقين، ويمكن تفسير سبب ترتيب الفصول كما هي في الكتاب، أنها لم تُكتب كمخطط كتاب مقرر سلفاً في تصوّر الكاتب، بل في فترات متباعدة وباستقلال عن بعضها، وفق ما أشار الكاتب في المقدّمة.

على أي حال، المهم في البحث الذي تضمّنه هذا الفصل ما قدّمه حول فكرة التوظيف السياسي للدين، على نحو ما فعلت الدولة الأسدية مع جميع الطوائف والمذاهب لتثبيت دعائمها كدولة تسلطية، وكما سعى المعارضون الإسلاميون في طموحهم الجارف لخلق سلطتهم الخاصة، وبوسائل لا تستبعد العنف. وناقش في ختام البحث طائفية النظام وطائفية الإسلاميين، والفارق بينهما.

في الفصل الأخير الختامي، عرض الكاتب خلاصاته المكثّفة، وتركّزت على ضرورة الإصلاح الديني في الإسلام، وتأثير الإسلاميين في الثورة السورية وتأثّرهم بها، كما خلص إلى وجود ثورتين واحدة سورية وأخرى إسلامية ساهمت في تعثّر الأولى، وختم بالحديث عما ينبغي التفكير فيه لاستئناف الثورة.

إن كتاب “الثقب الأسود” ، الذي انجزه طارق في مغتربه بألمانيا ، من الكتب التي يمكن قراءتها بسهولة، فلغته سلسة ومباشرة، وأفكاره تتقدم برشاقة دون أن تثقلها الاستطرادات والعبارات الاعتراضية، ودون أن تشوبه لغة تخصّ كاتبها وتشوّش ذهن القارئ.

كما أنّ جانبه التوثيقي جعله كتاباً يستحق مكانه في المكتبة الشخصية للمهتمين بالشأن السوري .

عن "الناس نيوز"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية