
ثمة أزمات أمنية تتصاعد وتيرتها وتتباين مصادرها على خلفية التهديدات الإسلاموية في الغرب، منذ اندلاع حرب غزة، وتفشي مخاطر "الذئاب المنفردة". ويشير تقرير سابق لـ "هيئة حماية الدستور" الألمانية إلى أنّ التيارات الإسلاموية ما تزال تمثل تهديدًا مستمرًا. ففي عام 2023 قدّرت السلطات الألمانية عدد السلفيين بنحو (11) ألف شخص، وتم تصنيف أكثر من (2000) ضمن العناصر المتشددة المرشحة للانخراط في أعمال عنف.
ورغم الجهود الكبيرة لتفكيك الشبكات الإرهابية، تبقى "الذئاب المنفردة" التحدي الأكبر، إثر صعوبة تعقبهم وافتقارهم إلى البنية التنظيمية التقليدية. وقد وقعت سلسلة هجمات فردية في مدن ألمانية مثل فورتسبورغ، وهامبورغ، ودريسدن، واستخدم الجناة السكاكين أو السيارات موجهين ضرباتهم بشكل عشوائي بدوافع إيديولوجية متشددة، ولهذا أغلقت الحكومة الألمانية العديد من المساجد والمراكز الثقافية التي ثبت تورطها في نشر الفكر المتطرف أو الارتباط بجماعات جهادية، مثل "مسجد الفرقان" في برلين الذي كان يُعدّ معقلًا لتجنيد المقاتلين للالتحاق بتنظيم (داعش).
تصاعد مخاطر الإسلاموية
مخاطر الإسلاموية في ألمانيا وأوروبا عمومًا ازدادت حدة مؤخرًا، وذلك نتيجة التوترات الإقليمية وتداعياتها على المجتمعات المسلمة في الغرب، فضلًا عن تصاعد خطاب الكراهية والتحريض الذي أعاد شحن الخطابات المتشددة والتحريضية، وقد استغلت الجماعات الأصولية الصراعات المحتدمة في غزة والمنطقة لتأجيج المشاعر وتحفيز الشباب على العنف بدعوى "نصرة فلسطين".
ويضاف إلى ذلك تعبئة الأفراد، خاصة من الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، بخطاب إيديولوجي عنيف وراديكالي، ووضعهم في سياق انعزالي عن المجتمعات الأوروبية وعدائي لقيمها الليبرالية ومبادئها الديمقراطية والعلمانية، وبالمحصلة في صدام تام معها على مستوى الأفراد والمؤسسات. فقد شهدت ألمانيا مظاهرات مؤيدة لفلسطين، لكنّ بعض التنظيمات الإسلاموية تسللت إليها للترويج لمواقفها المتطرفة، وتجنيد أفراد جدد. بعض هذه المسيرات شهدت شعارات تحريضية ومظاهر عداء للسامية، ممّا زاد المخاوف الأمنية. في حين أسهم الإسلامويون في خلق سردية تضخيمية تعتبر ألمانيا "عدوًا للإسلام"، وهو ما يزيد من عزلة بعض الشباب المسلم، ويضعف الاندماج ويغذي الانغلاق والهويات الانفصالية.
إذًا، حرب غزة كانت ذريعة للأئمة والدعاة المسيسين لابتعاث رسائل تعبئة وتحريض داخل مساجدهم والمراكز الثقافية والدعوية الدينية، لتقوية بيئات التطرف المحلية والبحث عن حوامل جدد للتطرف الأصولي.
في مقابل ذلك، قامت السلطات الألمانية بفرض رقابة مشددة على المظاهرات المرتبطة بالقضية الفلسطينية بعد الحرب، وخصوصًا تلك التي نظمتها جمعيات إسلامية. وتم حظر بعض التجمعات التي تم الاشتباه بأنّها موجهة من تنظيمات متطرفة، كما جرى تفريق مظاهرات شهدت شعارات تحريضية أو معادية للسامية. ثم عززت وزارة الداخلية من نشاطها ضد التنظيمات التي تنشر الإيديولوجيا الإسلاموية، مثل "حزب التحرير" المحظور منذ سنوات، وبدأت في التحقيق مع جمعيات جديدة تتخفى تحت غطاء "العمل الخيري لفلسطين". وتم توسيع دائرة حظر بعض المؤسسات التي يشتبه بتمويلها لجماعات إرهابية في الشرق الأوسط.
رفع مستويات المراقبة
رفعت هيئة حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) مستوى مراقبتها للمساجد والجمعيات الدينية، خصوصًا تلك المرتبطة بالاتحاد الإسلامي للشؤون التركية "ديتيب" أو بجمعيات سلفية، بهدف التأكد من عدم استخدام الحرب كمنصة للترويج للعنف أو زرع الكراهية، وتم التنسيق مع الجهات الدينية للاعتدال في الخطاب.
وعليه، ما يزال التطرف الإسلاموي يُشكّل تهديدًا متصاعدًا ومتطورًا، خاصة "الذئاب المنفردة"، إذ لم يعد التهديد مرتبطًا فقط بعدد السلفيين أو "الجهاديين"، بل أصبح يتجسد في ديناميكية التيار الإسلاموي، وانتشاره عبر الفضاء الرقمي، وتفاعله مع الصراعات الدولية، وذلك وفقًا لما ورد في تقرير نشره المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات.
ولفت التقرير إلى أنّه برغم تراجع عدد الأشخاص الذين تشتبه الشرطة في أنّهم قد يرتكبون جرائم سياسية كبيرة، ومع ذلك فإنّ المشهد المتطرف يشهد حراكًا مستمرًا، ويظل الإسلام السياسي المصدر الرئيسي للخطر. وقد حذّر المكتب الاتحادي لحماية الدستور في أحدث تقاريره السنوية من وجود ديناميكية كبيرة داخل المشهد الإسلاموي نتيجة النزاع في الشرق الأوسط. وجاء في التقرير: "الدعاية الإسلاموية لا تروّج فقط لأفكار معادية للسامية، بل كثيرًا ما تدعو صراحة إلى تنفيذ عمليات إرهابية". ويقول التقرير الصادر عن المركز الأوروبي: إنّه "بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 نُفّذت عدة هجمات إرهابية في دول أوروبية، ولأنّ العناصر الخطرين ربطوا أفعالهم بالنزاع في الشرق الأوسط، فإنّ هذا يشير إلى أنّ الدعاية الإسلاموية الراهنة لها تأثير واضح على المتعاطفين معها".
كما ارتفع عدد الأفراد المصنفين كإسلاميين خطرين في ألمانيا من (550) في عام 2015 إلى أكثر من (2000) في عام 2025، ممّا يمثل زيادة تقارب (4) أضعاف خلال عقد واحد. وبالنسبة إلى التيار السلفي "الجهادي"، تشير البيانات المتاحة إلى وجود حوالي (12150) سلفيًا في ألمانيا، مع تصنيف بعضهم كمتطرفين يميلون إلى العنف. وبحسب أحدث البيانات المتاحة حتى نهاية عام 2023 يُقدّر عدد السلفيين في ألمانيا بحوالي (10500) شخص.
وبحسب ما أورده التقرير الصادر عن المركز الأوروبي، يوجد أكثر من (450) شخصًا مصنفين كـ"خطرين" ضمن التيار الإسلاموي في ألمانيا، وفق بيانات المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية (BKA)، وما تزال التهديدات الأمنية قائمة، بل تتصاعد بفعل تطورات دولية، أبرزها النزاع في الشرق الأوسط. ويمثل الإسلامويون أكثر من 79% من إجمالي المصنفين كخطرين، رغم تراجع العدد من (472) في آب (أغسطس) 2024 إلى (458) في نيسان (أبريل) 2025، وما تزال الأرقام مرتفعة.
وخلص التقرير إلى أنّ التهديد الإسلاموي في ألمانيا لم يعد يقاس فقط بعدد المنتمين أو المصنفين كخطرين، بل بقدرة هذا التيار على التجدد والتأقلم، وأنّ التطرف الإسلاموي لم يتراجع، بل يُعيد ترتيب صفوفه في الظل، ممّا يتطلب يقظة دائمة واستراتيجيات استباقية تتجاوز الأرقام والبيانات السطحية.