عبدالجواد يس
التنوير مصطلح إشكالي في حد ذاته، لا في الثقافة الإسلامية التي تتوجس من مفردات القاموس الغربي فحسب، بل في الثقافة الغربية التي أنتجت المصطلح في القرن الثامن عشر، ثم عادت فتجاوزته في سياق النقد الذي طال مفاهيم الحداثة برمتها في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ظهر مصطلح التنوير ليشير إلى أهداف وآليات الحركة العقلانية/ الإنسانية التي نشطت في القرن الثامن عشر، في إطار عملية التطور الكلي الشاملة التي كانت تجتاح أوروبا منذ عصر النهضة. أخذت الحركة شكل المعارضة الجذرية لأسس النظامين الديني والسياسي، وعبرت عن نفسها في مواجهة القوى السلفية المهيمنة التي تمثلها الكنيسة وأنظمة الحكم التقليدية.
كمفهوم نظري –مستمد من هذا السياق التاريخي- يرتبط التنوير بفكرة التطور. هو يهدف إلى تغيير النظام الاجتماعي السائد من خلال التأثير في الثقافة. فهو عملية “تبشيرية” تشتغل على الوعي العام لتنشيط قدراته على صناعة التغيير أو القبول به. بهذا المعنى كان التنوير موقفاً تفكيرياً مقابلاً للموقف “السلفي” المحصن من قبل السلطتين الدينية والسياسية. ومع ذلك بدا الموقف التنويري وكأنه موجه بالأساس ضد سلطة الدين باعتبارها السلطة الأشد سلفية، والأوسع هيمنة على المجالين العام والخاص.
وبهذا المعنى أيضاً ارتكز التنوير على فكرتين متلازمتين: العقلانية والحرية. أو على فكرة أساسية مزدوجة هي التعقل الحر، أو حرية التعقل. يشرح كانط: “بالنسبة للتنوير لا شيء مطلوباً غير الحرية بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تؤدي إلى استخدام علني للعقل في كل الميادين..” عصر التنوير هو خروج الإنسان من حالة “القصور” التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان إلا من خلال إنسان آخر. الإنسان مسؤول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب الفكر (العقل) بل في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته بغير توجيه من الآخرين. لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير.
وبحسب كانط يرجع هذا القصور إلى سببين: الخمول والجبن، “فالناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من وصاية غريبة عنهم، لكنهم ظلوا قصراً طوال حياتهم عن رضا منهم، بحيث يسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم”. لكن المسؤولية عن هذا القصور تقع أيضاً على هؤلاء الأوصياء “الذين صمموا على ممارسة سلطة عليا على الإنسانية. فبعد أن أطبقوا قيود البلاهة على قطعانهم، وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة حتى لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهروا لها الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها. لكن الخطر ليس كبيراً في حقيقة الأمر لأنها لو أقدمت عليه فسوف تتعلم السير بعد عثرات قليلة”.
من بين الوصايات القابضة التي كرست قصور الإنسان عبر التاريخ يشير كانط إلى الوصاية الدينية باعتبارها “الأكثر ضرراً، والأشد خزياً”. وهي الفكرة التي سيطورها نيتشه بعد قرن في إطار نظريته الثورية عن “إرادة القوة” مقابل الوصاية الأخلاقية التي تكرست على يد الكهنة بوجه خاص.
-2-
التطورات البنيوية الهائلة في القرن العشرين جلبت تحولات أنطلوجية وأدت إلى إعادة النظر في المفاهيم التقليدية التي قامت عليها حركة التنوير الأوروبي، بما في ذلك مفهوم “العقلانية” الذي تغيرت دلالاته مع تراجع المنطق الصوري، وظهور النتائج العلمية التي أفرزتها النظرية النسبية ونظرية الكم. وبما في ذلك أيضا مفهوم “الحرية” الذي أدت تداعياته المفرطة إلى فوضى حسية وعنف سياسي واجتماعي. وحتى مفهوم “التجريبية” الذي أسفر عن آلوية شاملة فرضت المعايير النفعية على مضمون الأخلاق، وانتهت إلى “تشييء” الإنسان أي جعله شيئاً -على حد تعبير أدورنو.
بوجه عام وجهت سهام النقد إلى النتائج التي أسفرت عنها الحداثة على المستوى الروحي والاقتصادي والسياسي. جرى الحديث إجمالاً عن المادية الحسية، والفوضى، والحروب، والمركزية الأوروبية، وفشل الأيديولوجيا: الرأسمالية عجزت عن تحقيق وعد الوفرة والرفاهية الشاملة. والاشتراكية عجزت عن تحقيق وعد العدالة الاجتماعية. ألقيت المسؤولية في ذلك على الحداثة، وصرح فوكو بأن “الحدث التاريخي للأنوار لم يجعل منا أسياداً”.
-3-
ندرك الآن أن النقد ما بعد الحداثي اشتغل على السياقات الاجتماعية المتطورة في الغرب، وليس على السياقات الاجتماعية الحاضرة في المحيط العربي الإسلامي، الذي لا يزال يسكن، تقريباً، في ظروف القرن الثامن عشر الأوروبي. ما يعني أن المسألة هنا لا تتعلق بإشكاليات ما بعد الحداثة بل إشكاليات ما قبل الحداثة. النقاش الراهن حول التنوير يشبه نقاش القرن الثامن عشر بأجوائه المشحونة وقضاياه المحورية التي فرضها الحضور الطاغي للدين على مجمل الثقافة، حيث السؤال عن “مشروعية” التغيير من حيث المبدأ لا يزال مطروحاً. ومع ذلك فالجدل الإسلامي الراهن يجري في ظل هوامش جديدة تضفي على النقاش تعقيدات إضافية لم تكن حاضرة في سياقه الأوروبي:
1- فكرة “الفشل الحداثي”، التي راجت في الثقافة الغربية ذاتها قبل أن يوظفها الوعي الإسلامي، بشكل تعويضي، في تبرير مواقفه التقليدية. طالت هذه الفكرة الموقف الأنواري القديم من الدين بوصفه موقفاً أيديولوجياً خاسراً، خصوصاً في نبوءته “المتسرعة” عن تراجع متواصل للدين ينتهي بزواله مع تقدم العلوم.
2 - فكرة “الهوية الخاصة”، التي تتحسس من التعاطي مع مصطلح وافد من ثقافة ليست أجنبية فحسب، بل أيضا مخالفة دينيا ومعادية سياسياً. تشير الفكرة إلى نوع مركب من “الإثنية” الثقافية، يتغذى على مثيرات دينية (ضد الآخر المسيحي)، وسياسية (ضد الغرب الاستعماري).
بوعي أو بغير وعي، يتم الخلط بين مدلول الحداثة ومدلول الغرب. ويغيب الوعي بمفهوم التطور كفعل اجتماع ضروري ومحايد في ذاته. الحداثة هنا تطرح بما هي “مفهوم” ثقافي تاريخي خاص (أيديولوجيا) لا بما هي صيرورة طبيعية متكررة تعني الحدوث الزمني، أي بما هي مرادف للتطور. وبوعي وبغير وعي يؤدي الخلط إلى تأجيل حدث التطور.
التفاقم الأصولي، الذي جرت قراءته في الغرب تحت عنوان “عودة المقدس”، باعتباره نوعاً من الهجوم المضاد من قبل الدين بعد تراجعه النسبي أمام الحداثة، أو بوصفه شكلاً من رد الفعل الاجتماعي حيال “أزمة” الحداثة. وهي قراءة لا تتوافق تماماً مع حيثيات الحالة الإسلامية التي لم تتراجع “أصلاً” أمام حداثتها الخاصة، ولم تنغمس “بما يكفي” في أزمات الحداثة.
الحالة الأصولية التي نجحت أخيراً في إحراز نقاط سياسية، تشرع في فرض بصمتها داخل الثقافة، وفي استدراج النقاش إلى فضاءاتها الاصطلاحية الخاصة. وهي تعود بالمسألة إلى المربع الأول: هل يجوز التغيير؟ وهو سؤال يعني الخلط بين فكرتين متوازيتين، الإمكان الشرعي والإمكان المادي، بما أن التطور قانون اضطرار طبيعي.
هذه الهوامش “الإضافية”، التي تلقي بظلالها على مصطلح التنوير وسمعته النظرية، تبدو في الجدل الإسلامي الراهن أكثر أهمية من “متن” الموضوع. حيث يطغى النقاش حول تاريخ المصطلح على النقاش في مضمون العملية التغييرية، التي صار يفرضها قانون التطور، وهو قانون اجتماع كلي لم تخترعه الثقافة الغربية.
هذا هو جوهر المسألة: قانون التطور الذي يفرض نفسه، وليس مصطلح التنوير الذي يمكن الاستغناء عنه.
التنوير بما هو ثقافة دافعة هو آلية من آليات التطور، ينشأ ويشتغل كجزء منها. وهو بمفرده لا يصنع التطور العام، الذي لا يتحقق بالإدارة المنفردة للفكر، بل بنضوج الهياكل الكلية للاجتماع (الاقتصادية/ الاجتماعية/ العقلية). الأمر الذي يشير إلى حجم القوة الحقيقية للفكر، بوصفه واحداً من عوامل الاجتماع لا يستغرق بنيتها الكلية. ولكنه يستطيع أن يلعب دوراً تحفيزياً أو تنشيطياً لاستعجال حركة التطور. وفي هذا الإطار يلزم الوعي بالدور الوظيفي للعملية التنويرية، وبالطبيعة الأولية للصعوبات التي تلازمها.
عن"المسبار"