"التنويريون الأوائل": عمامات ألهمت الثوّار وعشاق الحرية

تنوير

"التنويريون الأوائل": عمامات ألهمت الثوّار وعشاق الحرية


24/01/2018

"العار الذي لا يمحوه كرّ الدهر، هو أن تسعى الأمة، أو أحد رجالها، أو طائفة منهم، لتمكين أيدي العدو، من نواصيهم، إمّا غفلة عن شؤونهم، أو رغبة في نفعٍ وقتي" -"جمال الدين الأفغاني".

لطالما مثّلت الأصولية الدينية، عائقاً أمام التطور الحتمي للمجتمعات الإنسانية، التي يطرأ عليها جديد كلّ يومٍ، يقف أهل الدين عاجزين عن تأويله، حسبما يريد النصّ، ويصبح الأمر شائكاً في عالمنا العربي والإسلامي، عندما يتعلق الأمر بالخروج على النظام القائم، وتحويل الأوضاع القائمة إلى مسار مغايرٍ لإرادة الحُكّام، انطلاقاً من مبدأ السلطة الأبوية التي يعتلي الحاكم هرمها الاجتماعي، ما يجعل الجموع في حالة من الشتات الذهني؛ لأنّها لا تجد ما يُشبع تطلعاتها إلى الكرامة والحياة، دون الخروج عن النصّ، فتفقد الشعوب الأمل والرجاء السماوي، الذي تحتمي فيه على الأرض.

التنوير ليس حديث النشأة؛ بل هو قضية قائمة منذ قرون، ففي كلّ زمان تبزغ نجوم في سماء التجديد، البعيد عن أصولية الجمود، الطيّع لمصالح الناس التي وُجد الدين لأجلهم، ولم يوجدوا هم لأجله. وفي مطلع القرن التاسع عشر، الذي طالعنا بمستجداته التي غيّرت مستقبل البشرية، وأدخلتها في حقبة كونية جديدة، في محاولة لتسليط الضوء على نجومه، التي لا زال كثيرون يهتدون بضيائها. بعد أن جعل روّاد قدماء أوضاع الجموع منطلقاً، استغلّوه لاقتيادها تحت مظلة الدين، بما لا يجعلهم مارقين عن حُكم الله؛ فأخضعوا الأحكام الشرعية، لما يتناسب مع مصالح الجموع البشرية، لا مصالح الحكّام، الذين لا يتطلعون إلّا لمصالحهم السلطوية

الأفغاني "العمامة التي ألهمت الزعماء والثوار"

نشأ الأفغاني وترعرع في أفغانستان؛ حيث درس العلوم الشرعية، وأتقن العربية، وكان يقظ الذهن، حكيماً، متعطشاً للعلم منذ صباه، كما أنّه أجاد الإنجليزية، وترجم عنها الكثير من العلوم الفلسفية، وكان أيضاً محبّاً للسفر والترحال، شغوفاً بالثقافات الأخرى، ما دفعه للهجرة إلى الأزهر، الذي كان، وما زال، قبلة المتعطشين للعلم من منبعه، وحين ورد إلى مصر أحبّ أن يستقرّ فيها، لما أحسّه من بيئة تتأهب للتغيير، وتتطلع للمعرفة، خاصةً بعد النهضة المصرية، التي أحدثها محمد علي، وأبناؤه من بعده.

التنوير ليس حديث النشأة؛ بل هو قضية قائمة منذ قرون، ففي كلّ زمان تبزغ نجوم في سماء التجديد

  هاجر الأفغاني إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وكان له مآخذ عليه، إلّا أنّ إسماعيل كان محبّاً للعلماء، وهو ما دفعه لحسن استضافة الأفغاني، وإكرامه في مصر؛ حيث فُتحت أمامه مجالس العلم، التي كان يحبّذ أن يجتمع الناس حوله فيها، لشغفه بالكلام، ومناقشة الناس لتنوير عقولهم. ولم تقتصر حلقاته العلمية على المساجد؛ بل كان يرتاد المقاهي ودور الثقافة، ويجالس العمال والبسطاء، الطلاب وغيرهم من الفئات المختلفة.

يقول جمال الدين الأفغاني في كتابه "خطابات في مفهوم الجامعة الإسلامية":"إنّنا نحتاج إلى عملٍ جديد، نُربي به جيلاً جديداً، بعلمٍ صحيح، وفهم جديد لحقيقة معنى السلطان الأول على الأجساد والأرواح، وهو الدين، وجمع ما تشتت من الكلمة من أهل الأديان، وتوطيد العزم على قبول الموت في سبيل حياة الوطن".

أبوّة الحرية وريادة الدعوة

في كتابه "الأفغاني بين حقائق التاريخ، وأكاذيب لويس عوض"، يقول الدكتور محمد عمارة: "إنّ أُبوّة جمال الدين الأفغاني لنزعة الحرية، وريادته في الدعوة إلى أن تكون الأمّة هي مصدر السلطات، وأن يكون الحُكم للإرادة الشعبية، في السياسة وتنظيم المجتمع وقيادة الدولة، إنّ أُبوّة الأفغاني وريادته للدعوات والحركات التي نزعت هذا المنزع في عصرنا الحديث، هي ممّا تشهد عليه وقائع هذا العصر، وصدّق عليها الذين أرّخوا لها في تاريخ الفكر الحديث".

يُعدّ الشيخ الأفغاني أوّل من أطلق شرارة التنوير المعرفي الحديث في المنطقة العربية والإسلامية حيث ألهم الثوار وعشاق الحرية

أخذ الأفغاني حمل تجديد الفكر الإسلامي على عاتقه، وفتح آفاقاً جديدة استطاع من خلالها استفزاز الجماهير لمناهضة الاستعمار، وكان أحد علامات الثورة العرابية، التي أُجهضت، واحتلّ الإنكليز على إثرها مصر ما يزيد عن 70 عاماً؛ حيث نفته حكومة الخديوي توفيق إلى الهند، ووصفته بأسوأ العبارات، مثل: "الفاسد، والمفسد في الأرض، وأنّ نفيه خيرٌ للبلاد"، لكنّ تلاميذه وقفوا مدافعين عنه.

جمال الدين الأفغاني رائد في التجديد

ولم يستسلم الأفغاني، ومضى في دربه الثوري الذي تطلّع فيه لتحرير الشعوب من المستعمر، ووطأة الحاكم الظالم، الذي يسلم شؤون بلاده إلى المحتلين، ورافقه في هذا الدرب صعب المراس، تلميذه وصديقه المصري "الإمام محمد عبده".

"العروة الوثقى" صوت الشيخين من المنفى

يقول محمد عبده "صراع العقل أمام جمود النقل": "إنّ أعدلَ الأشياء القسمةُ بين الناس"، قول لديكارت أقنع محمد عبده، ابن مدينة البحيرة المصرية الواقعة على دلتا النيل، فجعله أساساً انطلق منه في دعوته التنويرية، التي استهدفت تغيير العقل المسلم، الذي تسكنه الثوابت المتأصلة، وتفكيك النصّ الجامد الذي يتغيّر تأويله بما تقتضيه مصالح الناس.

   ابن الأزهر، الذي عُيّن مفتياً للديار المصرية، وتتلمذ على يد معلمه ورفيق دربه الشيخ جمال الدين الأفغاني، لكنّه تأثّر بالنزعة الصوفيّة، وكان يميل إلى التيّار الإصلاحي، الذي لم ينأ عن الصدام مع الدولة والحاكم، وهو ما انعكس على موقفه المرتاب من الثورة العرابية إبان قيامها، إلّا أنّ نزعته الثورية غلبت على ممارساته الإصلاحية، فاشترك في الثورة، بعد نفي أستاذه والتنكيل به من قبل الخديوي، وأسّسا معاً صحيفة "العروة الوثقى"، في باريس، بعد أن دعاه الأفغاني إليها، وجسّد عملهما المشترك في صحيفة "العروة الوثقى"، تكليلاً لمسيرتهما النضالية والثورية، بعد أن خابت آمالهما في ثورة الفلاحين التي قادها أحمد عرابي، وكانت الصحيفة صوتهما المنبعث من المنفى، لإلقاء الخطب النارية، والعبارات الثورية، التي توقظ العقل، وتبعث على التفكير الحُرّ، فقد أراد الشيخان أن يكون لهؤلاء الضعفاء، وهم المسلمون، دولاً قوية، تأخذ بأسباب المدنية والعمرانية، التي توصلهم إلى برّ العزّة والكرامة والاستقلال. وقد أسّسا بعدها بعامٍ، في 1885، جمعية تحمل الاسم نفسه.

أراد الأفغاني وعبده أن تكون لهؤلاء الضعفاء دول قوية، تأخذ بأسباب المدنية لتوصلهم إلى برّ العزّة والكرامة والاستقلال

في كتابه "الإمام محمد عبده والقضايا الإسلامية"، يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: "إذا كان الشيخ الإمام قد ثار على التقليد والجمود، ولم يقبل بشيء على أنّه حقّ ما لم يكن كذلك، فإنّ هذا نتيجة ضرورية، لتلك النزعة النقدية التي ظهرت واضحة لديه في مواطن كثيرة؛ حيث يرى أنّ النقد نفثة من الروح الإلهية في صدور البشر، الذين تظهر في مناطقهم سوق للناقص إلى الكمال، وتنبيه يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به".

الأفغاني أوّل من أطلق شرارة التنوير

ويعتبر وكيل كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أستاذ الفلسفة الإسلامية ومقارنة الأديان، الدكتور عبد الراضي رضوان، أنّ "الشيخ الأفغاني أوّل من أطلق شرارة التنوير المعرفي الحديث في المنطقة العربية والإسلامية، بينما تتواجد فكرة التنوير من قبل تجليات متعددة، وأطروحات مختلفة، وأطلق دعوته للعقل الشرقي حتى يستيقظ من سباته ويتخلص من القيود المعرفية، المتمثلة في انسحابه من الساحة الفكرية".

لم تكن ساحة الأزهر مغلقة ضد محاولات التنوير

وقال رضوان لـ"حفريات" إنّ الأفغاني "جسّد كلّ تلك المعاني الانفتاحية، من خلال حواراته وأفكاره والمدرسة الفكرية التي أنشاها، والخطوات التي تلتها، التي ساعده في تعزيز وجودها تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، الذي يعدّ نمطاً جديداً للداعية عن تلك الصورة الذهنية القائمة وقتها، فهو رجل ذو مشروعية للتحدث في الخطاب الديني، فنجده يتحدث عن تحرير العقل، ويأتي بأفكار جديدة، تساعد في تفكيك العقل لهذه المسائل". ولفت إلى أنّ مرجعية الأفغاني تقوم على التدقيق، والتفصيل، والتمعّن في الحواشي لفهمها، "وقد انعكس ذلك على كتاباته وتفاسيره، ومسيرته التي تابعها تلاميذه، وكانت منبراً لكلّ العلماء. وقد قامت أفكاره على نزعة تقديم العقل، فكان هذا الرجل، صاحب المعتقد الأشعري، الذي اتّبع نهج المعتزلة".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية