التنمر: الكلمة أيضاً تقتل

التنمر: الكلمة أيضاً تقتل

التنمر: الكلمة أيضاً تقتل


01/05/2023

الكلمة تقتل، هذه العبارة تلخص مضمون قصة الفيلم البلجيكي، الناطق بالفرنسية، "مقربان" (Close) للمخرج البلجيكي لوكاس دونت 2022. قصة الفيلم عن الصداقة الأخوية القوية بين طفلين في الـ (13) من عمرهما: ليو وريمي. يبدو للمشاهد أنّه لا شيء يمكنه أن يعكّر صفو هذه الصداقة، لكن بعد انتهاء عطلة الصيف يسأل أحد زملاء المدرسة عن طبيعة العلاقة ملمحاً إلى علاقة مثلية. بعد هذه الملاحظة اللئيمة -التي لا تبدو أنّها غير مقصودة، وقيلت في سياق أشبه بالمزاح- بدأ ليو بالابتعاد التدريجي عن صديقه؛ تجنباً لأيّ شبهة، بينما ظل ريمي محافظاً على طبيعته ووفيّاً لصديقه حتى النهاية. إزاء هذا الابتعاد يحاول ريمي فهم ما يحدث. تتعكر حياته ويشعر بالحزن، وبينما ليو وبقية رفاق الصف في نزهة مدرسية يطلق ريمي على نفسه الرصاص. وبهذا تكون مجرد كلمة عابرة قد قتلت اثنين: ريمي، وليو الذي لم يعد إلى حياته كما كانت.

والحرب أوّلها كلام

ليس هذا الفيلم وحده من ينبه إلى خطورة الكلمة ضمن سياق فنّي عن الصداقة. هناك مسلسلات وأفلام كثيرة عن التنمر في المدارس أشهرها مسلسل "ثلاثة عشر سبباً" (Thirteen Reasons Why). ويتحدث عن أسباب انتحار هانا بيكر في (13) شريط كاسيت سجلت فيها هانا الأسباب والأشخاص الذين دفعوها إلى ذلك.

 الفيلم البلجيكي، الناطق بالفرنسية، "مقربان" (Close) للمخرج البلجيكي لوكاس دونت 2022

يعرف المشاهد منذ البداية أنّ هانا قد انتحرت، وما يتبقى هو معرفة الأسباب التي دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار. (13) دافعاً للموت كان يمكن أن تكون دوافع حياة، سيخمّن المشاهد الأسباب المحتملة لهذا القرار وسيكتشف أنّ التنمر هو السبب، بعد أن تراكم وشكّل عبئاً لم تستطع هانا معه التحمل. لم يكن اتخاذ هذا القرار سهلاً على هانا، فقد حاولت التمسك بأيّ قشة. ومن موقعها كضحية أرادت هانا قتلهم معنوياً، أن تجعلهم يختبرون مشاعرها وهم يقتلونها بنظراتهم وهمساتهم وكلماتهم. وهناك هدف آخر هو تصحيح صورتها التي شُوِّهت. ولم تستعمل هانا وسيلة حديثة لإيصال رسالتها؛ لأنّ تلك الوسائل أسهمت في تدمير حياتها. استعمالها لأشرطة التسجيل ينسجم مع شخصيتها، فهي كما تصف نفسها: تحب قراءة الكتب الورقية والكتابة على الهوامش. جاءت هانا من خلفية أسرية تقدرها وتحبها، واختيار هذه الخلفية يراد به استبعاد أثر الأسرة فيما أقدمت عليه، فيسلط الضوء على جانٍ واحد هو التنمر.

قصص من واقعنا اليومي

ليست هذه القصص بعيدة عن واقعنا العربي. مؤخراً قرأنا قصة ردينا أسامة، (16 عاماً)، التي توفيت بأزمة قلبية بعد أن تعرضت لتنمر زميلاتها بعبارة: "إنتِ إزاي مستحملة شكلك؟"، مع أنّ شكلها جميل، لكنّ المتنمر هدفه الأذى لا الحقيقة. هناك قصة مشابهة لفتاة يمنية كان يمكن أن تلقى المصير نفسه لو لم تكن قوية، تقول صاحبة القصة:

منذ صغري والجميع يتنمرون على لون بشرتي السمراء، المختلف عن بشرة أمي وأخواتي. وكان هذا يحزّ في نفسي ويؤلمني. في مرحلة المدرسة الابتدائية وصفتني معلمتي بأنّني "خادمة"، وهو وصف يطلق على ذوي البشرة السوداء في اليمن. هذا الوصف أكثر شيء دمّرني وأنا طفلة. كلمات أمي ونظراتها كانت كالسم، وهذا أيضاً أوجعني، لكنّني اليوم قد سامحتها. وعندما كنّا نزور أهل أمي كانوا يسخرون من بشرتي وشكلي ويدعون أن يرزقني الله بوظيفة مريحة بدل الزوج الصالح؛ لأنّه مستحيل، من وجهة نظرهم، أن يتزوجني رجل، مع العلم أنّني كنت ومازلت جميلة جداً. بقيت أعاني لفترة طويلة إلى درجة حاولت الانتحار وأنا في أول ثانوي بقطع وريد يدي، لكنّني خفت وبكيت. وعندما التحقت بالجامعة صاحبتني عقدة نفسية لدرجة امتنعت عن الاهتمام بمظهري. كنت أقول لنفسي: مهما حاولت، فلا أحد سيرى أنّني جميلة! تخرجت في الجامعة، وحصلت على وظيفة مريحة، ومع الوقت بدأت ثقتي بنفسي تزداد، وبدأت أهتم بنفسي وأحبّ شكلي وتزوجت رجلاً يحبني.

مسلسل "ثلاثة عشر سبباً" (Thirteen Reasons Why)

موت رُدينا دفع المؤسسة التعليمية للتنبيه إلى كبح التنمر في المدارس بتوجيهات لا يبدو أنّها ستثمر مثلما هو حال القرارات ومشاريع القوانين التي أعقبت موت المغنية والممثلة الكورية الجنوبية السابقة المعروفة باسمها الفني سولي. قبل وفاتها في 2019 عن 25 عاماً، تحدثت سولي بشدة ضد التنمر الإلكتروني. قالت: "معذرة، أنا لست شخصاً سيئاً. لماذا تقولون أشياء سيئة عنّي؟" ثم تساءلت: "ماذا فعلت لأستحق هذا؟" وقال زملاء وخبراء: "إنّ وفاتها كشفت عن وابل مستمر من التعليقات الخبيثة عبر الإنترنت التي تواجهها الفنانات الشابات".

ثمّة وجه للتنمر يكشف عن أشخاص ينصِّبون أنفسهم رقابات أخلاقية، والحال هذا، نحن أمام جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك رقابة أخرى تمارسها بعض مؤسسات الدولة تصبّ في الاتجاه نفسه وهو تقييد الحريات

ارتبط موت سولي بالاكتئاب الناجم عن التنمر عبر الإنترنت. وبعد وفاتها تم الكشف عن أنّها طلبت مراراً من وكالتها اتخاذ تدابير ضد التعليقات الخبيثة. وبعد وفاتها نُشرت (7) التماسات على موقع المكتب الرئاسي في كوريا الجنوبية "تطالب بعقوبات أكثر صرامة على التنمر عبر الإنترنت وتعزيز استخدام نظام الاسم الحقيقي عند نشر التعليقات وإنشاء الحسابات. كما ناقشت الدائرة السياسية طرقاً مختلفة لمنع تكرار هذه المأساة، ومنها مقترح قانون باسم "قانون سولي"؛ وذلك لزيادة مسؤولية التعليقات من خلال إدخال نظام الأسماء الحقيقية في الإنترنت".

كما اقترح أحد النواب تعديلاً لقانون استخدام شبكات المعلومات والاتصالات وحماية المعلومات، بفرض التزام على مقدّمي خدمات المعلومات والاتصالات بحذف التعليقات التي تحض على الكراهية. وتضمن التعديل وضع علامة على التعليقات الخبيثة على أنّها معلومات غير قانونية، وتزويد أيّ شخص يرى التعليقات الخبيثة بالقدرة على طلب حذفها. واقترح نائب آخر تعديل القانون ليسمح بالكشف عن الأسماء الكاملة للأشخاص الذين ينشرون التعليقات بأسماء المستخدمين ويعزز المساءلة عن التعليقات عبر الإنترنت من خلال الكشف عن عناوينهم.

مضمون قصة فيلم (Close) حدثت لي شخصياً حين كنت في بداية المرحلة الثانوية، وهي قصة تتكرر كثيراً مع اختلاف النتيجة. منها قصة أخوين؛ أحدهما وسيم جداً وأبيض البشرة والآخر (عادي)، وكان هذا يدعو لاستغراب المحيطين. المقارنة بين الأخوين والإعجاب بأحدهما، واستنكار أن يكون الآخر أخاه، ولَّد فجوة بين الأخوين، وتسبب بمشاكل كبيرة في البيت، دفعت أحدهما لقضاء أغلب الوقت برفقة أصدقائه، بينما الثاني يتعالج اليوم عند طبيب نفسي.

ارتبط موت سولي بالاكتئاب الناجم عن التنمر عبر الإنترنت

أغلب ما وصلني من قصص تتحدث عن تنمر يبدأ من البيت، إمّا بشكل جاد، وإمّا على شكل مزاح، وفي كلتا الحالتين يكون للكلمات تأثير سيّئ على نفسية المتلقي. المتنمرون هنا لا يدركون أنّ لكل شخص طاقته في الاحتمال، فهناك من تقوّيه كلمة، وهناك من تعذبه الكلمة نفسها، هناك من يقاوم ويتجاوز، وهناك من تظل العقدة ملازمة له على الدوام. ثمّة قصة في هذا السياق عن فتاة يمنية كانت نابغة في كل المواد ومن أوائل الصف، كما تصفها معلمتها، إلى أن أبدت معلمة أخرى ملاحظة حول أسنان الفتاة جعلتها أضحوكة أمام زميلاتها. ويبدو أنّ تلك الملاحظة كانت القشة التي قصمتها. توقفت الفتاة عن الدراسة، التزمت البيت وأصيبت بحالة نفسية دفعت عائلتها إلى محاولة إقناعها بإصلاح أسنانها وإعادتها إلى الدراسة، لكن على ما يبدو كانت الفتاة قد وصلت إلى قناعة أنّه ما من شيء يمكن علاجه، ولمّا تفاقمت حالتها النفسية ذهبوا بها للعلاج عند مشعوذ، وخوفاً من طريقة العلاج القاسية قبلت العودة إلى المدرسة مُنقبة، حتى أنّها كانت ترتدي النقاب في البيت. ثم انقطعت نهائياً عن الدراسة وتراجعت حالتها إلى أن أصيبت بالجنون.

تطبيع التنمر

التنمر يبدأ في البيت، والحدّ منه يبدأ من البيت. فالتنشئة لها دور مهم في تكوين شخصية قوية وخلوقة تمنع الأبناء من ممارسة التنمر وتستقبحه. ومن جهة ثانية ليستطيعوا مواجهة العالم الذي يبدو كغابة، بلا أخلاق وقوانين تجرّم التنمر، سواء على أرض الواقع أو على المنصات الإلكترونية.

هناك شكلان لتطبيع التنمر وجعله مقبولاً: الأوّل بحسبانه شكلاً من أشكال النقد والفكاهة والسخرية، إلى درجة تُخصص له مجموعات على منصات الفضاء الإلكتروني، مثلما هو حال "جُروب" يمني اسمه "مملكة المتنمرين".

بهدف الإعداد لهذه المادة انضممت إلى هذه المجموعة التي تهدف، كما هو مكتوب في قائمة الشروط، إلى: "نشر الابتسامة والضحك والسعادة والحب والاحترام والتعامل الراقي بين الأعضاء". وتشترط: "عدم الإساءة للأديان والأحزاب والأفراد والمجتمعات، وعدم انتهاك معايير الـ (فيسبوك) في التعليقات والمنشورات، وعدم استخدام الكلمات بقصد الإساءة والتجريح لأيّ شخص..."، لكنّها تسمح بـ: "السخرية الراقية التي لا تحمل حقداً أو إساءة أو كلمات جارحة".

عندما تتحجب أو تتنقب ممثلة يبارك المتنمرون هذا التحول ويختمونه عادة بعبارة "دعوا الخلق للخالق"، لكنّهم لا يُفعِّلون العبارة الحسنة نفسها عندما تخلع ممثلة أخرى الحجاب

وبعد قراءة بعض المنشورات وجدت أغلبها لا تتقيد بالهدف ولا بالشروط. وبعض المنشورات تثير النزعة المناطقية، تنمّر مناطقي ينطوي على مقارنة نمطية تعلي من شأن جهة وتحط من شأن جهة أخرى بساكنيها. كتبت منشوراً أذكّرهم بهدف المجموعة وشروطها، وبالأثر السلبي الذي يتركه التنمر في حياة المستهدفين، فضلاً عمّا يخلقه من بغضاء، وبأنّ تفعيل السخرية كأداة للنقد ينمّ عن عجز؛ فيلجأ المرء للهجوم بدلاً من النقد البنّاء الذي يستهدف المواضيع لا الأشخاص. ومن ملاحظتي لمرجعيتهم الدينية والاجتماعية ذكّرتهم بموقف الدين من السخرية وبالطريقة المثلى في الدعوة والإصلاح، ثم ختمت المنشور بملاحظة أنّ أغلب المنشورات تتنمر على النساء، وبمجموعة من الأسئلة تتعلق بكون التنمر، في حدّ ذاته، مسيئاً وجارحاً وتدخلاً في خصوصيات الغير، وأنّ التنمر لا يجتمع مع "نشر الحب والاحترام والتعامل الراقي". والنتيجة كما توقعتها هي المزيد من السخرية في دلالة على أنّ "من شبّ على شيء شاب عليه،" وبأنّ الرهان على التوعية وحدها لن يحدّ من التنمر، ما لم يرافق هذا الجهد الثقافي عصا قانونية تربط حسابات المستخدمين بالهوية الشخصية ورقم الهاتف وحرمان المسيء من استعمال هذا المنبر حتى يدرك حدود الحرية، وأنّ هذه المنصات ليست للتنمر بل للتعبير المسؤول.

التنمر والبلطجة

الشكل الآخر لتطبيع "التنمر" مرّ عبر الكلمة نفسها التي لها أصل عربي قديم، لكنّ سياقها ومعانيها تلك لا تستقيم مع سلوكيات اليوم. إحالة الصفات البشرية السيئة إلى أصل حيواني بريء عادة بشرية، وفي هذا الاستعمال تبرير للفعل البشري المستهجن بإحالته إلى مُسمّى حيواني. وهذا ما لم تكن تفعله كلمة "بلطجة" وصفتها "بلطجي". هذه الكلمة، برأيي، هي الأصح، سواء بترجمتها من الكلمة الإنجليزية (Bullying) أو بمطابقتها بالسلوكيات القائمة. ترجمة Bullying إلى "تنمر" أدت إلى تلطيف معناها الكامن في كلمة "بلطجة"، التي كانت مستقبحة، حتى من قبل البلطجيين أنفسهم، بينما لا تؤدي كلمة "تنمر" تلك الحمولة المتضمنة في كلمة "بلطجة" وصفتها "بلطجي".

التنمر يبدأ في البيت، والحدّ منه يبدأ من البيت

ثمّة وجه للتنمر يكشف عن أشخاص ينصِّبون أنفسهم رقابات أخلاقية، والحال هذا، نحن أمام جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد استفحلت الظاهرة، ممّا يحتم ضرورة العمل على التخلص منها. وثمّة رقابة أخرى تمارسها بعض مؤسسات الدولة تصبّ في الاتجاه نفسه، وهو تقييد الحريات.

عندما تتحجب أو تتنقب ممثلة يبارك المتنمرون هذا التحول ويختمونه عادة بعبارة "دعوا الخلق للخالق"، لكنّهم لا يُفعِّلون العبارة الحسنة نفسها عندما تخلع ممثلة أخرى الحجاب. هذا التباين في السلوك يكشف لنا الخلفية التي يأتي منها المتنمرون: خلفية اجتماعية متطرفة ودينية متشددة، وأُسرية لم تغرس فيهم قيماً أخلاقية. والحل يكون بإصلاح هذه المؤسسات: مؤسسة الأسرة، بتربية أبناء أقوياء وخلوقين؛ ليتمكنوا من مواجهة ما قد يعترضهم من بلطجة لفظية أو بدنية، وفي الوقت نفسه يحترمون خصوصيات الآخرين ولا يتدخلون فيما لا يعنيهم. والمؤسسة الدينية، باتباعها لنسخة دينية تحترم الخصوصيات والحريات، وتبتعد عن توزيع صكوك الغفران. والمؤسسات الثقافية والإعلامية والتربوية ممثلة بوزارة الثقافة والإعلام والتربية والتعليم، بتوعية الناس والطلاب. إضافة إلى ضرورة استصدار قوانين تُجرّم التنمر أينما كان: على أرض الواقع، أو على الواقع الإلكتروني.

مواضيع ذات صلة:

بعد وفاة رودينا... كيف نحمي أبناءنا من التنمر القاتل؟

التعصب والتنمر.. هل من رابط؟

التنمر بين الأطفال.. ليس مجرد عنف لحظي.. هذه أضراره



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية