التنظيمات الدينية المتطرفة وسياسة المراوغة

التنظيمات الدينية المتطرفة وسياسة المراوغة


10/04/2021

منير أديب

من العلامات الدالة على التنظيمات الدينية أنها تنظيمات مراوغة، هذه المراوغة لا تقتصر على سلوكها السياسي وإنما تقفز إلى أدائها الدعوي والخدمي أيضاً، فكثير منها لديه أهداف سياسية من وراء العمل الخيري ولا يبديها، والبعض منها يوظف الدور الدعوي لخدمة أهداف سياسية بعيدة من الدعوة نفسها. 

أغلب التنظيمات الدينية متطرفة فيأتي سلوك المراوغة جزءاً من تطرفها، سواء في استخدام النص الديني أم في تحقيق أهدافها البعيده كل البعد من الدين الحقيقي؛ خطورة هذه التنظيمات أنها صاحبة خطاب مراوغ قد ينخدع فيه بعض النّاس ربما لبعض الوقت، فتتعامل هذه التنظيمات من خلال هذا الاعتقاد الخطأ، ويبدو هنا خطاب المراوغة الممزوج بالكذب والتضليل، هذا الخطاب لا يدوم ولكنه بات مؤثراً وباتت أغلب التنظيمات في حاجة إليه. 

تُعاني الكثير من التنظيمات الدينية من الضعف بعد سلسلة المواجهات التي تهدف الى تفكيكها، وهو ما حَوّل بُوصلتها من العنف إلى اللاعنف، ثم عادت إلى وجهتها الأولى مره ثانية، وهنا نكتشف أن إيمانها بالمراجعات الفكرية والفقهية كان مجرد مراوغة هدفها الخروج إما من السجن أو الإستفادة من عدم التعقب الأمني، هذا النوع من المراوغات تقوم به جماعات كبيرة وتابعين من كل التنظيمات. 

تعني ثقافة المراوغة الهروب من الواقع، صاحبها يتسلح بأدوات تتيح له ممارسة كل الموبقات مثل الكذب والتضليل والتزييف وإخفاء الحقيقة، وكل هذه الصفات متأصلة في البنية الفكرية لأغلب من تربى على أفكار التنظيمات الدينية، فما بالك بمن يؤمن بنزاهة فكرته بينما يُكفر من يختلف معه، وهنا يكون مضطراً لأن يكون مراوغاً متلوناً مثل الحرباء وقد يرى في ذلك تقيّة، يظهر من خلالها بخلاف ما ينبغي أن يكون عليه، وهو هنا مؤهل لأن يكون مراوغاً طالما آمن بأفكار هذه التنظيمات

كان المؤسس الأول لحركة "الإخوان المسلمين" حسن البنا مراوغاً في خطابه العام، ويبدو ذلك أكثر وضوحاً حين قال لأتباعه: "اشغلوا النّاس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة"، فهنا يكتفي بأن يعرض فكرته على النّاس والتي يعتقد أنها صحيحه طبعاً عن مناقشة الفكرة الباطله من وجهة نظره، وبالتالي يرفض المناقشه من أساسها أو التعرض لها. 

ومراوغة الرجل تبدو في هروبة من المواجهة أو النقاش أو الحوار، فيبدو كلامه من الناحية النظرية معتبراً، فهو يريد أن يشغل أتباعه بالفكره الصحيحة ولكن الحقيقة أنه يريد أن يبعدهم عن أي نقاش، ففضلاً عن الخطورة التي يراها متجسدة من وراء الجلوس على أي مائدة حوار، فهو مراوغ يذهب بعقل أتباعه بعيداً من أهدافه الحقيقية التي قد لا يصرح بها. 

بدا ذلك واضحاً عندما قرر في رسالة المؤتمر الخامس عام 1939 العمل في السياسة ففاجأ أتباعه الذين عاهدوه على العمل الدعوي منذ أن انضموا للتنظيم واستمروا معه طيلة 10 سنوات كاملة، ليخرج معلناً استخدام القوة بقوله: "سوف نستخدمها حين لا يُجدي غيرها"، ومن هنا قرر استخدام العنف من خلال تشكيلات سرية أطلق عليها وقتها "النظام الخاص"، وقد كانت بمثابة ذراع عسكرية للجماعة

حسن البنا راوغ الجميع، الكبير والصغير، راوغ المنتمين كما رواغ العامة والمثقفين، الذين وقعوا أسرى فهم خاطئ للتنظيم على وقع ما كان يردده وهو بعيد كل البعد من الحقيقة، وقد ساعده على ذلك اتقانه استخدام اللغة، فكان يسمع له عندما كان يتحدث، وكان حديثه ينساب كما ينساب الماء بين جدلات الزهور ممتلئاً بالتعبيرات والصور الإيضاحية، والحقيقة الواضحه أنه كان يراوغ في ذلك مستخدماً ملكاته اللغوية، موظفاً قدرته على الخطابة للهروب بالمتلقي إلى معاني مزيفة غير حقيقية. 

ويمكن أن نسمي هذه الحالة بالاستعلاء، تلك الحالة التي سماها سيد قطب بالاستعلاء الإيماني، اذ يعتبر عضو "الإخوان المسلمين" أنه صاحب الحق مستعلياً بهذا الاعتقاد عن أي مناقشه، مكتفياً بعرض ما يؤمن به فقط بطريقة ملتوية، وأي نقاشات أخرى ليس الهدف منها سوى المراوغة فقط، فالحق هو ما امتلكته الجماعة وأعضاؤها. 

"الإخوان" دليل كل التنظيمات الدينية التي ترفض المناقشة وتصف أي حوار بأنه جدال منهي عنه، لأنها تؤمن بعصمة الأفكار التي بين يديها أولاً، ولأنها تجيد المراوغة ولا تدخل في نقاش حقيقي يثمر نتيجة. 

كل التنظيمات الدينية تُجيد فكرة العمل السري أيضًا وربما تُحصن أتباعها بأفكار كهذه بحسب قراءتها للنصوص الدينية، حتى صنعت شرعية العمل السري، وتقوم من خلال ذلك بتعبئة الجماهير، فكلما غاب سلوكها عن النّاس كلما غاب رشدها عنهم وزادت أخطاؤها، وهذه طبيعة من يعملون في السر. 

كثير من التنظيمات الدينية انحرفت عن مسارها الدعوي، وهذا الانحراف يعود للسرية التي اعتصمت بها هذه التنظيمات ومارست دعوتها من خلالها، فقامت بعمل تشكيلات عمل سرية مسلحة، عندما غاب نقد النّاس لها أو اتجهت للابتعاد عن النّاس عن عمد ففقدت البصلة. 

فأي تنظيم ديني منحرف طالما عمل بصورة سرية، وأي عمل سري فهو غير شرعي وأصحابه فقدوا الحقيقة، وهذه التنظيمات تأخذ النّاس إلى الجحيم حتى ولو رفعت آيات قرآنية وأدعت أنها جاءت لتطبيق الإسلام، وهذه المراوغة دليل على فساد الفكرة التي تؤمن بها، ولعل هذا هو السر وراء بقاء تنظيم "الإخوان المسلمين" طوال هذه الفترة الطويلة. 

كثير من مجتمعاتنا العربية تتفاجأ بسلوك التنظيم وكثير من المجتمعات الغربية غير مدركه لخطورته، ولم تصل إلى القراءة الدقيقة له، مثلها مثل كثير من الأنظمة السياسية التي احتضنت التنظيم لعقود طويلة ثم توجهت لمواجهته عندما انكشفت لها حقيقته وما أخفاه عن نفسه عمداً، وهو ما نضعه تحت عنوان عريض يسمى المراوغة أو السرية. 

وظفت تيارات العنف والتطرف النصوص الدينية لمصلحتها وأعطت لنفسها هذا الحق وقامت بتأصيل هذه المفاهيم، وكان "الإخوان" بين هذه التنظيمات الأكثر استخداماً للمراوغة، ولذلك هي بمثابة دليل للكذب والتضليل، لا يمكن لك أن تفهم "الإخوان" من دون أن تفهم هذه النقطة على وجه التحديد ولا يمكن لك أن تواجه التنظيم من دون أن تواجه عقم الأفكار التي سارت بها هذه التنظيمات نحو عالم المراوغة والسرية. 

إذا كان ذلك خطاب "الإخوان المسلمين" الدعوي، فما بالك بخطابهم السياسي؟، وكيف تطمئن لمراجعات التنظيم أو نقده لنفسه، وهو ما لم يحدث، طالما كانت المراوغة شعاراً للتنظيم يمكن أن تفهمه من سلوك المؤسس الأول ومن أفكاره أيضاً، ولعل أجيال "الإخوان" ساروا على النهج نفسه، وعليه سارت بقية التنظيمات الدينية التي نشأت في مرحله لاحقه للجماعة الإم. 

آفة التنظيمات الدينية عدم وضوحها، سواء الوضوح الداخلي، وضوح القيادة أمام قواعد التنظيم أم وضوح الأفكار نفسها، وهو ما أدى إلى انجراف التنظيم بالكلية، تنظيم يروغ المجتمع الذي يتواجد فيها، كما تراوغ فيه القيادة أتباعها مراوغة تنتهي باختفاء الحقيقة أو بغيابها. 

التنظيمات الدينية لا يمكن أن تصحح مسارها إذا أخطأت، فمراوغتها تُخفي جزءاً من الحقيقة بل الحقيقة كاملة سواء لدى الأتباع أو الحواريين داخل التنظيم أم عن التنظيم تجاه المجتمع الذي تعيش فيه، ويظل هذا المجتمع أسيراً لتنظيم مراوغ، نتيجته أن المجتمع لا يعرف عنه إلا القليل وقد لا يعرف عنه شيئاً وهنا نجحت التنظيمات في إخفاء وجهها الحقيقي. 

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية