البكتاشية في ألبانيا تعرقل مشروع أردوغان الإسلاموي

البكتاشية في ألبانيا تعرقل مشروع أردوغان الإسلاموي


22/12/2021

ترجمة: علي نوار

بينما يموّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسجد تيرانا الكبير لتوسيع نفوذه في البلاد، يبعث الألبان البكتاشيون رسالة تسامح هي خطّ الدفاع الأول في مواجهة الأصولية السلفية و"العثمانية الجديدة" التي تمارسها حكومة أنقرة، وقد أجرت صحيفة "بوبليكو" الإسبانية مقابلة مع زعيم هذه الطائفة "بابا موندي".

يقول حاجي إدموند براهيماج موندي: "ماذا أقول حين يصفنا مسلمون آخرون بالمهرطقين؟ لديهم مُطلق الحرية في احترامنا من عدمه". وعن رؤيته للإسلام التي توصف بأنّها تنتمي للمذهب الشيعي العلوي، يؤكّد عدّة مرّات "لسنا مذهباً"، وبعد دقيقتين من الحوار معه يمكن استنتاج بسهولة أنّ التسامح يغلب بوضوح على إجاباته.

وكان موندي ضابطاً بالقوات المسلحة الألبانية في عهد الرئيس السابق أنور خوجة، لكنّه يكشف مفاجآت عديدة عن الطريقة البكتاشية التي لا يرى أتباعها غضاضة في شرب الخمر، كما لا يصلون في المساجد بل داخل تكايا، يرفضون تعدّد الزوجات والفصل عن النساء داخل أماكن الصلاة، ويقدّرون أهمّية حرية المعتقد.

اقرأ أيضاً: نموذج أردوغان الاقتصادي الذي سيؤدي إلى الكارثة

يقول: "لا ترتدي نساؤنا غطاء ويصلّون معنا"، عالماً أنّ هذه الجزئية لا تُسهم سوى في تصنيف طريقته بمنطقة بعيدة عن باقي فرق الإسلام، علاوة بالطبع على عدم إصدار الأحكام نحو الآخرين أو فرض معتقد بعينه عليهم.

"لسنا مذهباً منفصلاً عن الإسلام"

ويتمسّك البكتاشيون بانتمائهم للإسلام، رغم أنّ السنّة يشكّكون في ذلك، ليس فقط بسبب إيمان أتباع الطريقة بالأئمّة الإثني عشر وتأثّرهم بالمعتقدات الشيعية، بل كذلك بسبب طبيعتهم المنفتحة والرافضة للعقيدة في مسارهم الروحاني القائم على أسس السلام والتسامح والحب. ويوضح بابا موندي: "لسنا مذهباً منفصلاً عن الإسلام لكنّنا نحترم جميع الأشخاص، بغضّ النظر عن أفكارهم السياسية أو عرقهم أو معتقداتهم، لدينا واجبات أكثر من بقية المسلمين والمبدأ الأساسي الذي نسير عليه هو التصرّف وفق تعاليم الكُتب المقدّسة الأربعة، احترام الآخرين وحبّهم ضروريّ بالنسبة إلينا". ويشدّد: "مسيحيون، يهود، سُنّة.. جميع البشر هم أشقاؤنا".

لا يرى أتباع الطريقة البكتاشية غضاضة في شرب الخمر، كما لا يصلون في المساجد، ويرفضون تعدّد الزوجات والفصل عن النساء داخل أماكن الصلاة، ويقدّرون أهمّية حرية المعتقد

وعلى مسافة غير بعيدة من مقرّ الطريقة، يموّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن طريق منظمة معروفة باسم "ديانت"، ما يحاول جعله أكبر مسجد في ألبانيا على مساحة عشرة آلاف متر مربع وإلى جواره علم تركيا بالحجم الكبير.

ضدّ إسلام أردوغان

"ديانت" هي المؤسّسة الرسمية التركية المسؤولة عن الملفّات الدينية وإدارة المنشآت المقدّسة، لا غبار في ذلك. لكنّ المشكلة أنّ ما يحدث هو أنّ هذه الجهة تعمل أيضاً بوصفها مسؤولة عن المسائل الدينية للأتراك في الخارج، ما يمنحها القدرة لأن تكون أداة في يد أردوغان وإسلامويته.

ودفع ذلك الوضع المستشار النمساوي سباستيان كورتس، عام 2018، لإغلاق سبعة مساجد أنشأتها "ديانت" وترحيل 60 رجل دين على صلة بتركيا من بلاده، وقبلها بعامين كانت الشرطة الألمانية قد كشفت أنّ رجال الدين الموالين لأردوغان كانوا وراء عمليّات التجسّس على أنصار فتح الله غولن، المعارض لرئيس تركيا. ووصل الأمر بالصحافة التركية المستقلة لانتقاد "ديانت" واستغلالها كمنظمة استخبارات في خدمة أردوغان وحكومته.

المصالح السياسية تلوّث جوهر المعتقدات

مسجد ألبانيا هو أحد الوقائع التي تظهر بجلاء توظيف أردوغان لأموال الأتراك بهدف إعادة الوجود العثماني في منطقة البلقان وإعلاء النزعات الموالية لتركيا ونشر رؤيته الشخصية للإسلام في دول مثل ألبانيا. وقد خرجت من "ديانت" أفكار مثل قدرة الفتيات على الحمل عند بلوغهن التاسعة من عمرهن وإمكانية تزويجهن عند هذا السنّ من فتية فور وصولهم لسنّ الثانية عشر.

مسجد ألبانيا يظهر بجلاء توظيف أردوغان لأموال الأتراك بهدف إعادة الوجود العثماني في منطقة البلقان وإعلاء النزعات الموالية لتركيا ونشر رؤيته الشخصية للإسلام في تلك المنطقة

لذا لا يخفى على أحد كراهية البكتاشيين لأردوغان؛ لأنّهم يرون فيه تجسيداً للسلاطين العثمانيين أو أسوأ من ذلك: مشروع فاشي بامتياز، كما أنّ أشقّاءهم العلاهيين في تركيا أقرب تاريخياً لليسار، ليصبحوا بالتالي ألدّ أعداء حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بقيادة أردوغان.

وثمة كذلك أسباب تاريخية تفسّر الخلاف بين الطريقة الصوفية الألبانية وأي شيء يذكّرها بالسلطة العثمانية التي يحاول الرئيس التركي الحالي إعادة إحيائها واسترداد أمجادها الغابرة في خضم أزمة اقتصادية طاحنة وغير مسبوقة. ويقول أحد البكتاشيين: "صحيح أنّ العلاهيين يكرهون أردوغان والعدالة والتنمية حتى لو كانوا أتراكاً مثلهم، خاصّة إن كانت لديهم توجّهات قومية".

"جراح قديمة"

وفي حالة البكتاشيين، فإنّ مردّ الخلاف يعود إلى الإيذاء الذي عانوا ويلاته في تركيا. والحقيقة أنّ الطريقة تأسّست في شبه جزيرة الأناضول في القرن السادس عشر على يد باليم سلطان كحركة صوفية وبدأت في الانتشار في شرق إسطنبول ومنها إلى منطقة البلقان التي كانت تحت سيطرة الانكشارية وهي نخبة قوات المشاة العثمانية المكوّنة من المسيحيين المختطفين والتي كانت تعتنق الطريقة البكتاشية.

اقرأ أيضاً: بعد أردوغان.. تركيا بين الاسلامية المتشددة والعلمانية الحازمة

وأمر السلطان محمود الثاني، عام 1826، بحظر الطريقة البكتاشية تماماً في جميع أنحاء الإمبراطورية؛ بسبب صلاتها القوية بالانكشارية، وتعرّض الكثير من البكتاشيين للقتل ودمّرت أماكن عبادتهم بمساعدة النخبة السُنّية وطُرق صوفية أخرى أكثر تطرّفاً، واضطرّ البكتاشيون للجوء إلى البلقان، وبعد قيام الجمهورية في تركيا، أعلن كمال أتاتورك، عام 1925، منع جميع الطرق الصوفية وإغلاق مقرّاتها، لم ينسَ البكتاشيون أبداً ذلك.

المشكلة ليست في الدين بل في المتعصّبين

وبسبب الطبيعة المنفتحة لأفكارهم وميولهم العلمانية، بات هؤلاء المسلمون الألبان هدفاً لغُلاة المتطرّفين، ويصرّ بابا موندي على أنّ العنف الذي يلصقه البعض بالإسلام منافٍ تماماً لرسالة القرآن، ولا يتردّد في نسب ذلك الاتهام إلى الجهل.

ويعرب موندي عن أسفه لـ "استغلال بعض الأئمة للمساجد في بثّ رسائل الكراهية وترسل دول مثل قطر رجال دين بهدف خدمة مصالحها، إلّا أنّ أبرز المشكلات الكامنة وراء هذا العنف المنسوب للمسلمين هي الجهل والفقر والتطرّف. ينبغي أن تبذل الدول مزيداً من الجهد لتوعية شعوبها. المصالح السياسية لبعض الدول تلوّث جوهر المعتقدات التي يدّعون الإيمان بها".

اقرأ أيضاً: كيف تهدّد منصات التواصل الاجتماعي ديمقراطية أردوغان؟

ويستطرد: "نؤمن بأنّ ما يهمّ حقاً هو الإنسانية والحبّ والاحترام المتبادل بين جميع البشر. لكن المشكلة ليست في الدين أو الإسلام، بل هؤلاء المتعصّبين منعدمي الإنسانية، المجتمع أيضاً يعاني الفشل".

لا توجد إحصاءات رسمية موثقة لتعداد البكتاشيين في ألبانيا، لكنّ إحصاء دينياً أُعدّ عام 2011 يقدّر أنّ أكثر من نصف سكّان ألبانيا (56.7%) البالغ عددهم 2.8 مليون نسمة يعتبرون أنفسهم مسلمين وأغلبهم من السُنّة، بينما يدين 10% بالمسيحية الكاثوليكية، و7% بالمسيحية الأرثوذكسية، و5.5% لادينيين، و2.5% ملحدين، وكشف 2.1% أنّهم بكتاشيون.

كما يُعتقد أنّ تراجع أعداد أتباع الطريقة البكتاشية يعزى في جانب منه إلى خوجة؛ فقد فرض الديكتاتور خلال عقد الخمسينات قيوداً مشدّدة على الطرق الصوفية. ثم وفي 1967 قرّر حظر جميع الديانات، وكان مصير مئات من رجال الدين من جميع المذاهب إما القتل أو السجن أو الاختباء قسراً، ورغم كلّ هذه الإجراءات الوحشية، حافظت الكثير من العائلات على تقاليدها الصوفية وواصل الشيوخ مهمّتهم سرّاً، عارفين بمغبّة ذلك إذا تمّ ضبطهم.

ويروي بابا موندي: "كانت فترة حالكة احتمت فيها طريقتنا بمنازل الناس، كنّا نصلّي كعائلات فقط وبشكل خفي داخل بيوتنا".

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/3J98QGD




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية