سمحت لي الحياة أنْ أزور أهم متاحف الدنيا، وأهم مناطق الآثار القديمة، في بلاد الشام ومصر واليمن، وليس لديّ تفسير دقيق للحب الذي أكنّه لعالم المتاحف والآثار، منذ كنتُ تلميذاً طفلاً يعيش في حوران المثقلة بالآثار، ويسعد بالرحلات التي كانت تقليداً مدرسياً إلى بصرى والحمّة وأرواد.
لكنّني متيقّن من أمر؛ هو أنّ الحفاظ على آثار الوطن والاهتمام بها، وخلق الوعي بأهميتها التاريخية والجمالية، هو تعبير عن حبّ الوطن، وتأكيد الانتماء إليه، والاعتداد الكبريائي بالجذور بوصفها حالة إنسانية، وليس هذا فحسب؛ فإنّ أحد مظاهر السيادة الوطنية، هو عدم السماح لأيّ عنصر خارجي بالعبث بالآثار الوطنية وسرقتها، وسنّ قوانين لمعاقبة كلّ من يقوم بسرقة الآثار والاتجار بها.
بعد هذا الكلام العام، الذي لا يأتي بجديد، لننتقل إلى الخاص، وعلاقة النظام وحاشيته بالآثار السورية، كإحدى الدلائل على معيار اللاوطنية.
الحفاظ على آثار الوطن والاهتمام بها، وخلق الوعي بأهميتها التاريخية والجمالية، هو تعبير عن حبّ الوطن
دعوني من قول عالم الآثار الإسباني "رودريغو مارتن" الذي قاد العديد من بعثات التنقيب في سوريا: "الحقائق تبيّن أن الحكومة تعمل مباشرة ضدّ التراث التاريخي للبلاد".
ومن قول المؤرّخ العالمي "أندرياس كيلب"، بأنّ تهريب الآثار السورية والاتّجار بها كان من اختصاص "رفعت الأسد" في ثمانينات القرن الماضي، الذي "خرج من سوريا بثروة هائلة، جناها من عمليات التهريب لسنوات طويلة، مكّنته من شراء شارع كامل في باريس".
ودعوني من حديث أهل حوران، عن نهب آثار (تل أم حوران)، من قبل قائد سرايا الدفاع سيئة الذكر، وإحدى النقاط السوداء في تاريخ سوريا، ودعوني ممّا أُشيع حول أساليب سرقة الآثار وتهريبها، فليس لدي من الوثائق الدالة على كلّ ما سبق.
لكن لديّ ثلاث وقائع يقينية: الأولى: أنّه توجد في متحف الإيرميتاج واللوفر والمتحف البريطاني آثار سورية هي ملك المتاحف الثلاثة. وعندما كنت أسأل عن سبب وجودها، يقال لي إنّ هذا أمر قد يكون عائداً بعضه إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، وبعضه ثمرة الاتجار بعد ذلك.
الثانية: فقد حدثني عميد كلية العمارة، الدكتور طلال عقلي، بحزن شديد، بعد زيارة قام بها إلى لندن، عن تمثال كبير لسيدة تدمرية تجلس مضطجعة، معروض للبيع في أحد محلات بيع الآثار، وبسعر باهظ، وقد قام بتصويره.
وعندي بأنّ تمثالاً كهذا، ولا شك، لا يمكن تهريبه إلّا من جهة ذات ارتباط بالسلطة.
حين يتحول أصحاب القرار في السلطة لتجار آثار، فهذا يعني أنّ هذه السلطة لا تنتمي للوطن الذي تحكمه
لكنّ الواقعة الثالثة، وهي الأدق: فقد روى لي شخصان مسؤولان مسؤولية مباشرة عن الآثار، قائلَين: وصلت المعلومات التي تؤكّد أنّ ستّ شاحنات كبيرة، محملة بالآثار، متجهة الآن إلى طرابلس الشام في لبنان؛ حيث سيتم تهريبها من هناك، وجرى الاتصال برئيس الجمهورية آنذاك، حافظ الأسد، مباشرة، فهو الوحيد القادر على منع هذه الجريمة؛ لأنّ المجرم يخصّه، وحصل أن أُنقذت شاحنتان، أمّا الشاحنات الأربع الأخرى، فقد ذهبت في طريقها للتهريب.
عندما تسلك سلطة على هذا النحو المشين، ويتحول أصحاب القرار فيها إلى تجار آثار، فهذا يعني، دون أيّ شكّ، أنّ هذه السلطة لا تنتمي إلى الوطن الذي تحكمه، وعندما لا يكون هناك انتماء إلى الوطن، فكلّ شيء مباح، وإنّ ما جرى بعد الثورة من استباحة يؤكّد هذا.
في الصفحة الأخرى من المسألة؛ فإنّ الدواعش جعل منهم وعيهم الزائف بالانتماء الديني فقط، أعداء مدمرين للآثار السورية، هنا عاد تدمير آثار تدمر والرقة والدير إلى سبب أيديولوجي متخلّف، وإلى عدمية تجاه كلّ ما هو قبل إسلامي من التاريخ، وهذا السلوك البربري الداعشي بحق الآثار السورية أقلّ خطورة من الاتجار الوضيع بالآثار السورية، فتدمير داعش الهمجي للآثار، لم يتم بدافع الربح والاتجار، فيما تمّت سرقة الآثار المنظمة بهذا الدّافع الوضيع.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنّ مديرية الآثار في السلطة الفلسطينية، قد جعلت من ترميم الآثار الفلسطينية والحفاظ عليها مسألة وطنية كفاحية، لتأكيد الانتماء الوطني، فرغم الأموال المحدودة الموظَّفة لهذا الأمر، فإنّ جهداً مشكوراً قامت به السلطة في الحفاظ على آثار أريحا القديمة، وترميم قصر ملك العرب والمسلمين هشام بن عبد الملك الأموي، الذي حين تجوّلت في رحاباته الواسعة سقيت جذوري كي تظلّ يافعة، وكم شعرت بالفرح وأنا أتجوّل في بيت لحم، أرى ما قامت به السلطة من ترميم آثارها الكثيرة.
الوعي الزائف بالانتماء الديني فقط جعل من الدواعش أعداء مدمرين للآثار السورية فدمروا تدمر والرقة والدير بدافع أيديولوجي متخلّف
ويعذرني القارئ، إذا أخبرته أنّني كم شعرت بالكبرياء والاعتداد فوق كبريائي واعتدادي، الذي أنا عليه حين دخلت قلعة جدي الشيخ ناصر البرقاوي، المعروفة بقلعة البرقاوي، في شوفة، وقد أعادت السلطة ترميمها، وجعلتها محجّة للزائرين.
وكذلك الشعور نفسه، عندما زرت قلعة جدي الشيخ مصطفى البرقاوي، في كفر اللبد، وقد أعادت مديرية الآثار لها بهاءها القديم، وكم تألّمت عندما وجدت قلعة وقصر الشيخ موسى البرقاوي في ذنابة في حالة خربة.
إنّ الاعتداد بالجذور "الآثارية" هنا، ليس موقفاً سلفياً؛ بل هو موقف من قوة الانتماء للوطن، وموقف جمالي من إبداع الأسلاف.
فحين حاول البروليتاريون الثائرون في سان بطرس بورغ، في تشرين أوّل (أكتوبر) عام 1917، تحطيم القصر الشتوي المعروف بالإيرميتاج، كان وزير الثقافة آنذاك لوناتشارسكي، الذي سرعان ما أبلغ لينين عن رغبته بالاستقالة إذا مُسَّت آثار سان بطرس بورغ، فنزعته الأممية الشيوعية، وثورته، لم تمنعاه من أن يكون وطنياً روسياً في العلاقة مع إنجازات روسيا القيصرية، فأعطى لينين أوامره بعدم التعرض لأيّ أثر من آثار هذه المدينة العظيمة.
أمّا المجازر الآثارية التي نفذتها السلطة في دمشق وحلب؛ فلها حديث آخر.