الإسلام السياسي: يحوّر مفاهيم الشرور إلى فضائل

الإسلام السياسي: يحوّر مفاهيم الشرور إلى فضائل


14/12/2017

 

تحوّل مفهوم "السادية"؛ من كونه حالة نفسية وسلوكية مَرَضِيّة، ليكون مفهوماً سياسياً واجتماعياً إضافةً إلى ذلك، ليطلَق على القسوة تجاه الآخر، بالنظر إليها فضيلةً دينيةً أو وطنيةً. تقتبس "كاثلين تايلور" مقولة "دي ساد"، الذي تُنسب إليه السادية: "نسمع تكراراً الذين يتكلمون ضد المشاعر، ممّن يجيدون الخطابة، ولا يحسنون التفكير، ويغفلون عن أنّ هذه المشاعر تزوّدنا بالشرارة التي تضيء مشكاة الفلسفة"، هي قسوة سادية، إذاً، تزيّنها البلاغة، وتحولها إلى فضائل يتمسك بها الناس؛ بل ويموتون من أجلها!

 

التحليل العقلاني لأفعال غيرنا من الناس يتطلب تفسيرات واضحة بما يتاح لنا من معلومات

النظر إلى الذات، أو الفكرة، أو القوم، نظرة تميزٍ واستعلاءٍ وأفضليةٍ، وفي الوقت نفسه؛ الاشمئزاز من الآخر ورفضه، تشبه في فهمها وتحليلها حالة مشاعر القرف والاشمئزاز بشكل عام، ويجد علماء النفس والأعصاب تطابقاً بين الاشمئزاز السياسي و-أو الديني، والاشمئزاز من القاذورات أو الحشرات، بنفس الدافع والحماس الذي يتحرّك به المشمئز، أو الخائف، من عنكبوت أو ذبابة؛ فإنّه يتحرك لسحق الآخرين الذين يشمئز منهم، ليتخلص منهم.

تعرض كاثلين تايلور، في فهم تشكل العواطف والمشاعر، ثلاثة أنواع من المصادر للنشاط العصبي (المحفزات): العالم الواقعي والدماغ، والجسد، وتبدأ العواطف بإشارات تطلقها تغييرات في أحوال الجسد، وبينما تصل هذه الإشارات إلى الدماغ، تنساب في شبكة قشرة المخ، التي تكون جاهزة بخبرتها لتؤثر في نشاط الدماغ بأساليب قد يشعر بها الفرد، أو لا يشعر، وهذا النشاط؛ الذي غالباً ما يتضمن مكونات حسيّة وحركية، مثل؛ تعبيرات الوجه، وأيضاً مدخلات إدراكية، وعضوية من الأحشاء.

الأحداث تبدو حقيقة أكثر بالنسبة إلينا، إذا كانت تؤثر فينا تأثيراً مباشراً

وقد يندمج ويتحد مع عالم الرموز واللغة في العقل، لينشأ تحليل الذات، الصامت أو المعلن؛ لذلك يمكننا أن نأخذ معنى العاطفة على أنّه: "كلّ، أو أيّ، من تلك الجزئيات الضئيلة المتداخلة، والمؤلفة من نواحٍ حسيةٍ وحركيةٍ وعضويةٍ ومعرفيةٍ وتجريبيةٍ (من الخبرة)"، فالعواطف مرصد الجسد، وتخبرنا، أكثر من ذلك، عن مشاعر غيرنا من الناس، وعن تقييمنا لأشياء نواجهها، وعن تفاعلاتنا الاجتماعية والأحداث التي تنشأ عما نفعله، وتلك التي تحفّزنا للفعل، والعواطف السلبية تمثّل تحذيراتٍ؛ فهي تعطي الأولوية لردّ الفعل السريع تجاه التهديدات، مثل: الهرب والاستسلام والخضوع، والحزن والكرب والتجمّد (الانقطاع عن الحركة أو الكلام)، والغضب (النظرة الغاضبة، أو الأسنان الظاهرة استعراضاً للقوة)، والانسحاب وتجنّب المواجهة، ويمكن ملاحظة مثيرات القرف في مجموعة من ردود الأفعال، مثل؛ تغيّرٍ في معدل ضربات القلب، التنفس، نشاط الدماغ، تعبيرات مميزة على الوجه، غثيان أو قيء، وتؤدي هذه العاطفة دوراً اجتماعياً، رغم أنّها بيولوجيا سلوكٍ دفاعيٍّ لحماية الجسم من التهديد، فالاشمئزاز يؤدي إلى إدانة الفعل أو السلوك.

الطعام الذي سبّب لك القيء ترفضه مستقبلاً لكنك ربما لن ترفض طعاماً عرفت أنّه سبَّب الإعياء لشخصٍ آخر

إنّ التحليل العقلاني لأفعال غيرنا من الناس يتطلب تفسيرات واضحة بما يتاح لنا من معلومات، وتشمل هذه المعلومات المعرفة بالناس أنفسهم، مع قدر من المعارف الاجتماعية المشتركة، والتي تتراكم لدى كل منا بمرور الوقت وكنتاج للتجربة.

إنّ الإشارات الواردة من أجسادنا، تمدّنا بالمعلومات التي تلزمنا، حتى نفهم تأثير الأحداث علينا، وأهميتها بالنسبة إلينا، وتخبرنا منظومة أحاسيسنا الخارجية بما يحدث، أما المنظومة الحركية؛ فتخبرنا بما نفعله تجاهها، وكي تكتمل الحلقة؛ يجب أن نتفهم عواقب أفعالنا، والتغييرات في المعالم المحيطة بنا، ولا يكفي أن نعرف أننا نأكل، أو حتى إن كان مذاق الطعام طيباً، لكنّ ما يلزمنا أن نعرف ما سوف يحدثه فينا، كي نقرّر إذا ما كنا سنأكله مرة ثانية، أو أنّ علينا أن نتحاشاه في المرة المقبلة، هل هذا الطعام يصلِح مزاجنا وحالتنا النفسية، أو يسلّمنا إلى النعاس، أو يجعلنا نشعر بالغثيان أو الانتفاخ، أو بطنين ودوار بالرأس؟ هل نفضّله أم لا؟ وكيف سيكون شعورنا بعده؟ هذا هو مجال التقييم، حيث تسيطر العواطف وتتحكم.

تُقدّم العواطف بعض الأسباب التي تقود الناس إلى السلوك القاسي

ويعتمد تقييم أي حدثٍ أو تفاعلٍ، على اعتباره شيئاً جيداً أو سيئاً، في أبسط أحواله، على الأقل، التأثير المادي والجسدي لهذا الحدث فينا، لقد احترق فلان من الفرن، فسوف يكون أكثر حرصاً في المستقبل، لقد خدع شخص ما مريم، فأقسمت ألّا تتعامل مع هذا الوغد مرة أخرى، الأحداث تبدو حقيقة أكثر بالنسبة إلينا، إذا كانت تؤثر فينا تأثيراً مباشراً، وتسبّب لنا الألم، أو تمنحنا السعادة، إنّها تعنينا أكثر ولها مغزى أكبر، في المجال العصبي، عندما تنتج أنماطاً للنشاط أكثر وضوحاً وتمييزاً، ويكون الاحتمال الأكبر، أنّها سوف تغيّر سلوكنا في المستقبل.

إنّ الطعام الذي سبّب لك القيء، سوف ترفضه مستقبلاً، لكنك ربما لن ترفض طعاماً عرفت أنّه سبَّب الإعياء لشخصٍ آخر، أو وجبة طعام قرأت عنها أنّها جعلت شخصاً ما يمرض، إلّا أنّ أبسط التلميحات عن شيء يثير الاشمئزاز، مثل: الحديث عن الجراثيم، الفئران، الأورام، من الممكن أن تستحضر لدينا أنماطاً من القرف والاشمئزاز، إلى حدٍّ ما.

نحن نطلب من المتطرفين أن يغيروا كثيراً من ماهيتهم وذواتهم وهذا من منظورهم يشبه الانتحار النفسي

وهناك أسلوب تخلق به هذه الروابط العاطفية السلبية لإقصاء الآخر، دون أن نضمّنها في إطارٍ من الرقة واللطف، وذلك بأن نكرر الترابط اللفظي، بتكرارٍ مألوفٍ، وبصورةٍ عابرةٍ؛ أي أن نقذف بالتعليقات التي تبدو صادقة، دون تأكيد ضخم وزائد. إنّ هذا يسمح لهذه الروابط بأن تقوى، دون أن تثير معتقداتٍ متصارعةٍ، ما يؤدي إلى أن يتحداها شخصٌ ما، ويضعف تأثيرها، ومثل كلّ أساليب إقصاء الآخر، فإنّ هذا الأسلوب بسيط وإيحائي، ويستغل الميل الطبيعي للعقول، بإيجاد الروابط بعلاقات سببية أو منطقية، وكلّ زعيمٍ أو قائدٍ من مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ، أتقن هذا الأسلوب، ولم يحدث أيّ عملٍ وحشيٍّ من دونه.

وتقدّم العواطف بعض الأسباب التي تقود الناس إلى السلوك القاسي، ومع أنّ الدافع للفعل غير محدّدٍ، وغامضٍ، وغير كافٍ، فإنّه يتحتّم أن يسير في مسارات تطلق سلوكيات معينة، كي يكون مؤثراً، وهذه المسارات (القنوات) التي يستعملها البشر، ليست سوى المعتقدات، وبناء على ذلك؛ فإنّنا نلجأ إلى هذه "العناصر" الغريبة، التي تسكن في الدماغ: ما هي، كيف تتغير، وكيف يمكنها أن تجعلنا قساةً متطرفين؟

المعتقدات الراسخة أقرب إلى اعتبارها جزءاً جوهرياً وصميماً من النفس لا كونها سمات وملامح قابلة للتعديل

هل المعتقدات مرنة؟

"نعم، ولا!" تجيب تايلور، وتوضح؛ "فالمعتقدات التي لا تهمّنا نغيرها بتكلفة قليلة، لكنّ تكلفة تغيير القناعات الراسخة ستكون مروعة، إنّها شيء مثل إصابة بالغة، مثل: بتر عضو من الجسد، أو حتى أكثر من ذلك؛ لأنّ تغيير مثل هذا المعتقد، يشعر به الإنسان، وكأنّه كسر جزء من النفس أو الذات، وينطبق ذلك علينا جميعاً، وليس على المتطرفين فقط، الذين يتجاوزون الخطوط والحدود؛ لأنّ معتقداتهم تتطلب العنف، ولو حاولنا فهم؛ لماذا يتصرف المتعصبون لعقائدهم مثل ما يفعلون؟ فعلينا أن نتذكّر أننا عندما نخالفهم، ونتحدى أفكارهم، فإننا نطلب منهم أن يغيروا كثيراً من ماهيتهم وذواتهم، وهذا من منظورهم يشبه "الانتحار النفسي"، ولا يعني هذا أنّ أفكارهم ليست سخيفةً، أو مضحكةً، أو خطيرةً، أو غير معقولةٍ، بكلّ ما في الكلمة من معنى، فهذا شيء قائم بذاته.

إنّ المسألة هي كون القوة والمعتقدات الراسخة، أقرب إلى اعتبارها جزءاً جوهرياً، وصميماً من النفس، لا كونها سمات وملامح قابلة للتعديل، وهذا ما يجعل تكلفة التغيير باهظة جدّاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية