شكلت صدمة الحداثة الغربية حلقة مفصلية في علاقة الغرب الناهض بالشرق الإسلامي المنكفئ منذ نهاية القرن الثامن عشر، وفرضت طبيعة العلاقة الجديدة على الفكر الإسلامي البحث عن إجابات على جملة من الأسئلة الإشكالية حول ضرورات النهضة والتنمية والتحديث والقضايا الحيوية المتصلة بها كقضية الديمقراطية والعلمنة والدولة ونظام الحكم...، التي لم يفتر النقاش حولها حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: أولية العقل: نقد أطروحات الإسلام السياسي
وذهب المسلمون في استقصاء الإجابة عن تلك الأسئلة الضاغطة مذاهب شتى، تشترك بالمجمل في كونها نوعاً من رد الفعل على الحضارة الغربية ونمطها المعولم، وتفترق في طريقة الاستجابة للتحديات التي فرضتها ما بين قبول وتبني مشوب بالحذر من غرب ظهر وجهه الاستعماري القاهر على خلفيته الثقافية الحداثية الإنسانية في العلاقة مع دول الشرق المسلم، وبين رفض ارتدادي يعيش واقع الحداثة الغربية ويستهلك منتجاتها، لكنه يرفضها فكراً ويعادي قيمها.
شكلت صدمة الحداثة الغربية حلقة مفصلية في علاقة الغرب الناهض بالشرق الإسلامي المنكفئ
وفي الحالتين لم يكن التحديث مساراً طبيعياً يستجيب لمقتضيات التنمية الاجتماعية الداخلية بقدر ما كان "تحديثاً دفاعياً" ضد الضغوط التي كانت تمارسها السلطات الاستعمارية في أشكال تخدم مصالحها.
من واقع الأزمة تلك، وفي طور اشتدادها بعد فشل مسار التحديث والتنمية الذي قادته "الدولة الوطنية" وأحزابها وسلطاتها التي انصرفت إلى مراقبة المجتمع بدل تمثيله وخدمته، وسدت الطريق وأغلقت المجال العام أمام قوى التغيير العلمانية والديمقراطية، نشأت حركات الإسلام السياسي النضالية واستطاعت أن توظّف الرأسمال الرمزي للدين في خطابها التعبوي واكتساب جماهيرية في الأوساط الاجتماعية المهمشة والناقمة والمحبطة في حربها على مجتمعات "الجاهلية" في الداخل والخارج، لكنها عجزت حتى الآن عن إنتاج نموذج إسلامي بديل يحقق ما لم يحققه غيرها، ما يترك النقاش حول مستقبل المجتمعات الإسلامية ومستقبل الديمقراطية في هذه المجتمعات مفتوحاً.
في سياق الانشغال الفكري بهذا المستقبل والنقاش المستمر حوله قام مركز طارق بن زياد في المغرب بترجمة كتاب "الإسلام السياسي ومستقبل الديمقراطية في العالم الإسلامي" الذي يشكل حلقة مهمة تغني هذا النقاش من خلال مجموعة من الآراء والمقاربات قدمها عدد من المفكرين المهتمين في هذا الشأن كل من موقعه واختصاصه.
اقرأ أيضاً: أوليفيه روا يحلل عوامل فشل "تجربة الإسلام السياسي"
تصدرت الكتاب دراسة الباحث، نزيه أيوبي، تحت عنوان "أشكال الإسلام الحديث بين التعبير الثقافي والدور السياسي" التي تنطلق من السؤال القديم الحديث حول الدور الذي ينبغي أن يضطلع فيه الإسلام في مواجهة تحدي الغرب ليؤسس الأيوبي نقاشه على مفهوم التنمية بمعناه الواسع وعلى علاقة التنمية بكل من التحديث والعلمنة. فيبين بالمقارنة أنّ التنمية في الغرب لم تكن نتاجاً للمعرفة التكنولوجية فقط، إنما قامت داخل النهضة الثقافية والإصلاح الديني، في حين أنّ التحديث في الشرق الأوسط قام تحت وطأة العلاقة مع الغرب، وهو "تحديث دفاعي" ذهب في الطريق المعاكس نتيجة الالتباس بين التحديث والتغريب، ما أدى إلى رفض العلمنة بحجة أنه لا يوجد إكليروس ديني في الإسلام، وأنّ الإسلام عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات وبالتالي "دين ودولة"، ما يجعل ضمانة الاندماج الاجتماعي وحقوق المشاركة السياسية دائماً على المحك.
اقرأ أيضاً: "الإسلام السياسي بين الأصوليين والعلمانيين".. التطرف الديني إلى أين؟
وإذا كان النموذج الإسلامي نموذجاً جاذباً في طور المعارضة نتيجة فشل نموذج التنمية والتحديث العلماني، الليبرالي أو الاشتراكي، إلا أنّ تجربة إيران الإسلامية التي كانت تجربة ملهمة للإسلاميين لا تبدو عكس ذلك، وقد لا ينتظرها مستقبل أفضل. وأنّه رغم وجود مفكرين إسلاميين يقرون بأنّ غير المسلمين مواطنون كاملو المواطنة، فإنّ الفكر القطبي أو المودودي الذي انتشر مؤخراً يأبى عليهم ذلك؛ "فعندما يصبح الدين هو المفهوم الأساسي للهوية والبؤرة المهمة للولاءات فإنّه يصعب إيجاد أرضية مشتركة بين مواطنين يعتنقون ديانات مختلفة".
ويخلص الأيوبي إلى القول إنّ الإسلام السياسي الحديث متعدد بتعدد التيارات التي تدّعي تمثيله، وأنّ بروز التنظيمات "الجهادية" لا يعبّر عن كون الإسلام عقبة في طريق التنمية والتحديث والعلمنة، إنّما فشل السياسات التنموية القومية وزيادة عدد المهمشين وغياب العدالة الاجتماعية دفع الجميع باتجاه الاستثمار السياسي في الدين، والبحث عن مرجعيات فكرية أصولية تناسب ذلك، في حين (يبرز ضمن بعض دوائر المثقفين ضرب جديد هو الإسلام الحضاري يهدف إلى إدماج الإسلام في أهلية، وقومية وحضارية حيث تكون السياسة والاقتصاد تعبيراً لهذا المنحى).
اقرأ أيضاً: دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة
تحت عنوان "من أجل تحليل اجتماعي للحركات الإسلامية" يقدم المفكر الفرنسي جيل كيبل المعروف بسعة معرفته وتعدد أبحاثه في دراسة الظاهرة الإسلاموية تحليلاً عميقاً لواقع ومستقبل حركات الإسلام السياسي من خلال معاينة ثلاثة نماذج لنشاطها في كل من إيران والجزائر ومصر.
وخلافاً للأدبيات التي تنظر إلى الظاهرة الإسلامية وفق أحكام جاهزة فلا ترى فيها إلا تجسيداً لما هو شر، أو التي ترى فيها كل ما هو خير معبّر عن المجتمع المدني، يرى كيبل أنّ "الظاهرة الإسلاموية نشأت في ظل ظروف معينة وقد لا تستطيع الصمود للتحولات الطارئة"، وأنّ نجاح أي حركة إسلامية أو فشلها مرهون بقدرتها التنظيمية على التعبئة الاجتماعية لثلاث فئات معارضة ومحرومة، لكل منها مرجعيتها الاجتماعية وبرنامجها السياسي ومواردها السياسية وغايتها المنتظرة من "الدولة الإسلامية" التي تجمعها كهدف: فئة الشباب الحضري الفقير الذي يريد أن تمنحه السكن اللائق وفرصة الشغل المناسب والاحترام، والبرجوازية الورعة التي تمتلك الرأسمال المالي والاقتصادي.
لم يكن التحديث العربي مساراً طبيعياً يستجيب لمقتضيات التنمية الاجتماعية الداخلية بقدر ما كان "تحديثاً دفاعياً"
وينصرف همّها إلى التحكم بمفاصل الدولة بعد إزاحة السلطة وتكريس زعامتها، وتستطيع تعبئة الشباب لممارسة العنف الاجتماعي، والنخبة المثقفة التي يرتهن وجودها بقدرتها على إنتاج الخطاب الأيديولوجي الذي يعبئ كل من الشباب الحضري والبرجوازية الورعة وينزع الشرعية عن السلطة الحاكمة. لذلك يعزو كيبل نجاح التجربة الإيرانية لقدرتها على تحقيق التضافر بين الفئات الثلاث، في حين فشلت التجربتين؛ المصرية والجزائرية نظراً لتنبه السلطات الحاكمة لقوة هذا التضافر فعملت على تفتيته وإثارة مخاوف كل فئة من الأخرى أو احتوائها. ولما كانت المرجعية الإسلامية هي الجامع الوحيد لهذه الفئات المتباينة البرامج والأهداف، وأنّ الأيديولوجيا التي تعبر عن العلاقات الاجتماعية تتغير بتغير هذه العلاقات بفعل الحركية الاجتماعية والعوامل السياسية والاقتصادية ستفقد الأيديولوجيا الإسلامية شحنتها الثورية مع تغير الظروف.
في بحث "آفاق الديمقراطية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط" يقوم الباحث الإنثربولوجي الأمريكي ديل ايكلمان باستقراء آفاق الديمقراطية من دور العامل الثقافي في التنمية الشاملة، والتساؤل حول دور التعليم الجماهيري الذي انتشر منذ السبعينيات في إعادة رسم المخيال السياسي في الخطاب الديني، وكيف يمكن تغيير منظور المتعلم للأيديولوجيا الدينية الرافضة لقيم الحداثة والديمقراطية.
اقرأ أيضاً: مفهوم الإرهاب لدى جماعات الإسلام السياسي
كما يشير إلى الموقف السياسي الغربي السلبي من المسلمين الذي يقوم على التبسيط واستبطان منطق هنتنغتون في صراع الحضارات، ويحكم على الإسلام من خلال الحركات الإسلامية المتشددة ويتبنى مثلها صورة نمطية للدين لا تخضع لمنطق الزمن، ولا يعير اهتماماً حقيقياً للطيف الواسع من المسلمين المعتدلين الذين يعتبرون الخطاب السلفي خطاباً مفلساً، ويستمر بدعم السلطات الاستبدادية التي تعمل على إقصاء المعارضين ودفعهم نحو العنف، ويغض الطرف عن تجاوزات حقوق الإنسان في هذه البلدان.
ويخلص إيكلمان إلى الاستنتاج أنّ "القيود التي وضعتها الحكومات المتعاقبة ضد الأفراد والجماعات التي ترفع صوتها للمطالبة بالتغيير لا يلغي تبني المشاركة الاجتماعية بتدبير الحكم، والتي ترتبط بارتفاع المستوى التعليمي والانفتاح على النظم البديلة في مجال الحكم"، لكن ذلك يتطلب زمناً لتحقيقه وتجاوز الحدود المرسومة.
تحت عنوان "الإسلام السياسي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً" تأتي مشاركة الباحث المصري سعد الدين إبراهيم التي تنطلق من اعتبار الإسلام السياسي أسلوباً للتعبير عن المظالم الدنيوية، والبحث عن حياة رغيدة على الأرض وأنّ الإسلاميين سيجنحون للاعتدال حالما تُسوّى الاختلافات أو سيضعفون ويتحولون إلى طوائف معزولة.
ويذهب إبراهيم إلى أنّ الحركات الإسلامية نمت كتعبير عن الاحتجاج ضد القمع والتهديد المحدق بالهوية الجماعية، وانتشرت بمواقع الفقر والعشوائيات المحرومة التي زادتها اتساعاً سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي فرضتها شروط التكيف الهيكلي مع سياسات الغرب القهرية التي مازالت تحابي الحكام "بدل أن تتدخل سياسياً من أجل الديمقراطية، فحتى وإن وصل بعض الراديكاليين إلى السلطة فإنّهم سرعان ما يفقدون "راديكاليتهم" و"إسلامويتهم"".
اقرأ أيضاً: محمد الكيلاني: الإسلام السياسي أكبر عائق أمام الديمقراطية
على صعيد متصل بالمحور السابق يخصص الباحثان غسان سلامة وديريك فانديل مقالهما المشترك لبحث "جذور الأزمة الجزائرية" التي أفضت إلى ظهور الحركة الإسلامية كلاعب سياسي جديد أفرزته السياسات التنموية الفاشلة للدولة الناشئة بعد الاستقلال، وتفرد نخبتها السياسية والعسكرية بالحكم، معتبرة أنّ تاريخها النضالي يعطيها وحده شرعية استمرارها.
سعد الدين إبراهيم يعتبر أنّ الإسلاميين سيجنحون للاعتدال حالما تُسوّى الاختلافات أو سيضعفون ويتحولون إلى طوائف معزولة
ويرى الباحثان أنّ الأزمة الجزائرية لا تقتصر على الأزمة الاقتصادية التي استفحلت في الثمانينيات، بل هي أزمة سياسية وسوسيوثقافية عميقة. وإذا كانت الجزائر قد تجاوزت المرحلة الدموية التي فجرتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ غداة إلغاء نتائج الانتخابات مطلع التسعينيات مؤقتاً، لكن جذور الأزمة بقيت قائمة ومستقبل الديمقراطية مرهون باستدراك وعلاج الأسباب الحقيقية للأزمة، وأن يعي الإسلاميون أن تحول "الحيطست" أي (الشباب المهمش العاطل عن العمل) إلى مقاتلين لا يغني من فقر، وأنّ الخطب البلاغية لا تصنع تنمية ولا تنتج مجتمعاً مندمجاً.
يختتم ديفيد هيرست الكتاب بدراسة تحت عنوان "التحول الديمقراطي في إيران أو ما بعد الخمينية" تنطلق من معاينة نتائج الثورة الخمينية التي شكلت المثال الملهم وحققت الهدف المشترك لجميع الإسلامويين وهو الاستيلاء على السلطة وإقامة "حاكمية الله" وسلطة الإمام "المقدسة" التي وصلت إلى إعادة إنتاج الفقر والاستبداد وعسكرة المجتمع وتفتيته وإقصاء الأقليات والمعارضين الإصلاحيين.
ويبقى تساؤل هيرست مفتوحاً حول ما مدى التغيير الذي قد يحدثه التوجه نحو إجراء انتخابات تشريعية بإيران بعد إحدى وعشرين عاماً من الحكم المطلق في طبيعة النظام الحاكم، وهل شكّل نمطاً ملهماً لغيرها من أصحاب الأيديولوجيات الإسلامية في البلدان الأخرى؟