الإسلام السياسي أنتج أزمات خطيرة

الإسلام السياسي أنتج أزمات خطيرة


30/04/2020

يبدو صحيحاً أو منطقياً القول إنّ الإسلام السياسي نشأ في سياق الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية منذ أواخر ستينيات القرن العشرين، لكن هذه الرواية لا تلغي النظر إلى التشكلات التي نشأت وصارت رواية أخرى مستقلة، فقد تحول الإسلام السياسي إلى أزمة بذاته وينتج متوالية من الأزمات الخطيرة، فجماعات الإسلام السياسي لم تشغل نفسها بإصلاح الأزمة كما يفترض، وتحولت بدلاً من ذلك إلى إنتاج طبعات جديدة من الأزمة أشد قسوة ورسوخاً.

وقد كتبت كثيراً  عن تهميش المدن والمجتمعات والموارد والتصادم المقصود وغير المقصود الذي أدارته النخب مستخدمة الدولة والسلطة لمنع المجتمعات والمدن والأسواق من التشكل على النحو الملائم لاستقلال المجتمعات وقدرتها على اختيار قادتها وممثليها وبناء مؤسساتها وولايتها على احتياجاتها وأولوياتها وما ينشأ عن ذلك بطبيعة الحال من فكر وثقافة تلهم وتنظم الحياتين؛ السياسية والعامة!

وظفوا تشكيلاتهم الاجتماعية والدعوية وما اكتسبوه من ثقة وتأييد لأجل بناء السلطة السياسية أو معارضتها، وليس لأجل بناء المجتمعات وتمكينها

وباشتغال الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي بعامة بالدعوة والتأثير، فإنّ ذلك يعني ببساطة أنها تراهن على الناس والمجتمعات، وأنها تستمد تأثيرها من مجتمعات فاعلة ومستقلة، ولذلك فإنّ جهدها وطاقتها يفترض أن يصب في مساعدة المجتمعات والناس على التنظيم الاجتماعي الذي يرتقي بروابطهم وتشكلاتهم لتكون حول القانون والموارد والأعمال والمصالح، وليست تجمعات رفض أو عزلة دينية واجتماعية في مدن كبيرة ومعقدة تقوم على الأسواق والمصالح، والمهن والتنظيم الشبكي للمرافق والخدمات والسلع والتعليم العالي والمتقدم!!

لكن، وبانتقال الإخوان المسلمين إلى العمل السياسي تأييداً أو معارضة أو مشاركة أو حكماً، فإنهم  وظفوا تشكيلاتهم الاجتماعية والدعوية وما اكتسبوه من ثقة وتأييد لأجل بناء السلطة السياسية أو معارضتها، وليس لأجل بناء المجتمعات وتمكينها، ثم إنهم يستخدمون خطاباً دعوياً "استنهاضياً" وإصلاحياً لإدارة منظومات أكثر تعقيداً من المؤسسات والبرامج والتشريعات، فهم يُقحمون أدواتٍ وأفكاراً في غير مجالها وعملها، ويدخلون أنفسهم في تجارب لم يستعدوا لها ولا تجمعوا لأجلها ابتداء، ولا يختلف ذلك عن محاولة عشيرة أو نقابة مهنية أو عمالية للمشاركة السياسية وتشكيل الحكومة أو المشاركة فيها أو معارضتها!

أظهر الاشتباك مع التطرف الديني أنّ المواجهة هي عمليات اجتماعية واقتصادية معقدة

الحلقة الأخرى في متوالية المتاهة التي أدخلنا الإخوان فيها بصحبتهم، هي مظنّة أنّ تطبيق الشريعة موكول بهم وحدهم وأنه لا يمكن تطبيقها أو قيام دولة إسلامية إلا من خلالهم، وأنّ أي دولة قائمة اليوم ليست إسلامية!! فبعد أن أدخلوا أسلوب الجماعات والنقابات في العمل السياسي، أقحموا الدين في عملية اجرائية محددة، وهي أنه لا وجود للدين دونهم! وأن الدين هو ما يؤيدونه ويرونه، وأنّ ما يعارضونه ليس من الدين! ثم خرجت جماعات من تحت عباء الإخوان المسلمين أشد قسوة وتعصباً، فالشرّ يوّلد الشرور.

إنّ الموافقة على أنّ الإخوان المسلمين وكثيراً من جماعات الإسلام السياسي ليست متورطة في كثيرٍ من البلدان في العنف، لا يلغي مسؤوليتها في إنشاء بيئة مشجعة على العنف والإرهاب وتحويله إلى منظومة اجتماعية سائدة ومتقبلة، وكان أسوأ ما فعلوه هو حالة الإغراق الديني المسيس والذي امتد إلى كل مجالات العمل والحياة والأفكار والعلاقات.

لقد أظهر الاشتباك مع التطرف الديني أنّ المواجهة هي عمليات اجتماعية واقتصادية معقدة، ففي المواجهة مع العنف والكراهية تبين أنها مواجهة مع الحالة الاجتماعية والثقافية الناشئة عن التوظيف السياسي للدين، وفي ذلك اتسعت المواجهة لتشمل المنظومة السائدة في الخطاب الديني والممتدة في المدارس والمساجد والجامعات والمؤسسات والأسواق، كما الجَمعات والمجتمعات، لنجد أنفسنا في مواجهة شبكة معقدة من المصالح والطبقات والمؤسسات التي يهددها زوال العنف والتطرف. هكذا صارت المواجهة تفكيكاً لحالة اقتصادية واجتماعية راسخة ونافذة.

إذا اتسعت مفاهيم الحقوق والواجبات، فإنها تتحول إلى بديهية تُمارس دون أن يتذكرها أحد

والحال أنّ حالة الإغراق الديني التي أنتجتها السياسات الدينية المحافظة أنشأت حضوراً واسعاً وعميقاً للمفاهيم والأفكار والتطبيقات الدينية في الحياة والتشريعات والمؤسسات والأسواق، لكن قوة هذه الحالة وهيمنتها، هي ضعف أيضاً، فالمفاهيم والحالات تتسع حتى تتطابق مع الاختفاء. وتسود وتنتصر لدرجة التطابق مع الانحسار. ذلك أنه عندما يتسع مفهوم يصير حاضراً في الفهم والتطبيق والتشريع والحياة لا يعود مميزاً أو واضحاً بسبب حضوره الطاغي والشامل فيتحول إلى غير مرئي.

وفي مثال نظري آخر، إذا اتسعت مفاهيم الحقوق والواجبات، فإنها تتحول إلى بديهية تُمارس دون أن يتذكرها أحد. وفي ذلك تنحسر المؤسسات الأمنية والقضائية إلى درجة أنه لا يعود لها حاجة أو تنحسر إلى حالات قليلة لا يشعر بها أغلب الناس، وعلى مستوى سياسي وتطبيقي فإنّ الوطنية والديمقراطية والإسلامية والمدنية في تحولها إلى حالات شاملة لا يعود ثمة حاجة أن تختص بها مؤسسة أو جماعة أو فئة من المواطنين .. وفي الحالة التي ترى مجموعة من الناس حاجة أو ضرورة لتختص أو تقدم نفسها بالوطنية أو الإسلامية أو الديمقراطية؛ فإنها يجب أن تدرك أنها سوف تختفي بالضرورة أو لا يعود لها حاجة، منذ اللحظة التي تتحقق فيها أهدافها. وهكذا، فإن الليبرالية الدينية بما هي فردانية التدين أو تحويله إلى شأن فردي لا علاقة له بالسلطة والمجتمعات، تصبح مآلاً حتمياً أو بديهياً، ففي المعرفة الدينية المتسعة والحالة التلقائية لفهم الدين وممارسته، لا يعود ثمة حاجة لمؤسسات دينية ولا لدور ديني للدولة.

الوطنية والديمقراطية والإسلامية والمدنية في تحولها إلى حالات شاملة لا يعود ثمة حاجة أن تختص بها أو جماعة أو فئة

لقد انتصرت الحالة الدينية إلى درجة أنه لا حاجة لمؤسسات دينية أو رجال دين أو جماعات دينية؛ لأن الأفراد يمتلكون من المعرفة والكفاءة ما يغنيهم عن ذلك كله. وهكذا فإن المؤسسات والجماعات الدينية تحقق حضوراً وانتصاراً لدرجة أنه لم تعد  من حاجة إليها. لكن ذلك يشكل تهديداً لمؤسسة قوية وراسخةٍ مثل المؤسسات والجماعات الدينية؛ ما يجعل المواجهة أكثر صعوبة وتعقيداً؛ إذ تستطيع الجماعات الدينية أن تنشئ لنفسها ضرورة وأهمية.

ويحدث بدلاً من أن تقود الليبرالية الدينية الحالة المتشكلة، أن تنشأ انتكاسة كبيرة وحالة خطيرة من الفساد والتهديد للمجتمعات والأفراد، ففي إدراكها أنّ الحاجة إليها مستمدة من المبررات التي أوجدتها فإنّ النخب والمؤسسات القائمة على هذه المبررات سوف تعمل على إدامتها، وتكون الكارثة عندما تكون هذه المبررات هي التطرف أو الإرهاب أو الجريمة أو الخوف أو الفقر أو الجهل أو الهشاشة أو المرض. فتصير الجماعات تقف وتعمل ضد الأفراد والمجتمعات. وتكون مصالحها في ضعف المجتمعات وهشاشتها وخوفها واعتماديتها بدلاً من تمكينها واستقلالها.

يتوقف الإرهاب في اللحظة التي لا يعود فيها مصلحة لفئة من الناس، ولا يعود الإرهاب مصلحة في اللحظة التي تتوقف فيها حالة التوظيف السياسي للدين.

الصفحة الرئيسية