الإسلاميون والسلطة

الإسلاميون والسلطة


06/03/2022

منير أديب

لا يوجد شيء أوضح من علاقة الإسلاميين بالسلطة... عيونهم عليها، يعملون من أجلها، مبتغاهم في الحياة الدنيا، من أجلها يُقاتلون ويُقتلون؛ يُقاتلون غيرهم عليها ويَقتلون بعضهم بعضاً داخل التنظيم من أجلها... ولأجلها يُكفّرون الآخر وفي سبيلها يَقتلونه.

لولاها ما كانت هذه التنظيمات التي تختلف وتتباين في ما بينها، غير أنها تتفق حول رؤيتها للسلطة أو تكاد تكون على النسق الفكري والأيديولوجي نفسه في ما بينها تجاه السلطة؛ وهذا يفسر عنف هذه التنظيمات وهؤلاء الإسلاميين الذين يسعون إلى السلطة سعياً لا يخلو من العنف. فالسلطة هدف والعنف أحد وسائلهم للوصول إليه.

يُعمق الإسلاميون المعنى العكسي لأهدافهم تجاه السلطة، من خلال الترويج بأنهم قوى معارضة لا تسعى إلى الحكم! وأنهم إذا كانوا يريدون السلطة لساروا في ركاب الأنظمة السياسية في بلدانهم ولم يخرجوا عليها حتى يصلوا إلى مبتغاهم لا أن يقفوا أمامها ويعارضوها؛ هذه فردية دعاة الإسلام السياسي التي ترى أنها أحق بالسلطة من خصومهم، ولذلك ينقلبون على هذه السلطة ويحاولون أن يخطفوها حتى ولو بدا ذلك بالمهادنة في بعض الأحيان، فسيطرتهم على السلطة هدف استراتيجي وأن تكون هذه السيطرة منفردة من دون أن يشاركهم فيها أحد، غير أن العنف هو المشترك الأساسي بينهم للوصول إليها.

يختلف الإسلاميون عن بعضهم البعض حول رؤيتهم للوصول لهذه السلطة، منهم من يشارك الخصوم الأدوات الديموقراطية حتى إذا ما وصلوا إليها انقلبوا عليها، ويبدو الانقلاب مشروعاً في نظر أصحابه، بدعوى أنهم حملة الرسالة المحمدية وأن من يهاجمونهم أعداء لهذه الرسالة التي يحملونها وكأنهم هم الدين! وهناك من يسعى للوصول للسلطة بالعنف، وهذه هي التنظيمات المتطرفة أو الأكثر تطرفاً وغالباً تكون عابرة للحدود والقارات.

حق مشروع لأي قوى معارضة أن تسعى للسلطة، إذا كانت قوى سياسية وليست دينية وإذا كانت الأخيرة فلا بد ألا تُصدّر الدين في معركة سياسية، فمواجهة الخصوم بشعارات التكفير ومن قبلها الإقصاء دليل على أن الإسلاميين لا يؤمنون بالعملية الديموقراطية بل ويناصبونها العداء، كما يفعلون ذلك مع الدين نفسه عندما أدخلوه في معاركهم الخاصة بدعوى تحكيمه وتطبيقة وفق أهوائهم فشوّهوه.

الإسلاميون يتعاملون مع خصومهم السياسيين على أنهم خصوم الفكرة التي يحملونها ويلخصون هذه الفكرة في الدين، وهنا سوء فهم عن قصد، وبالتالي تبدو المنافسة أشبه بالصراع وأبعد ما يكون عن السياسة التي يعمل كل منهما في حلبتها، فيرى الإسلاميون خصومهم على أنهم أعداء للدين، ومعارضة هؤلاء الإسلاميين تكون مبنية على فكرة التصفية المعنوية واتهام خصومهم بأنهم كفرة، وهنا يبدو الدين أداة لهؤلاء كما يبدو خصومهم أعداء وليسوا منافسين.

بعض الإسلاميين يدّعون ارتداءهم ثوب الوسطية. تجد بعضهم يتحدث بلغتك ذاتها ويستخدم المفردات السياسية نفسها التي تستخدمها وقد يشاركك بعض الاجتماعات ويخضع للديموقراطية في أي طرح طالما أوصله ذلك إلى مبتغاه، ولكن عندما يصل إلى السلطة يصفك بالمتآمر فضلاً عن أنه لا يعطيك أي فرصة لمعارضته ولو كان من أجل أن يبدو أنه متسامح ويسمح بالرأي والرأي الآخر، وهو ما يخالف حقيقته.

تؤمن التنظيمات الدينية بالخلافة الإسلامية وترى أنها النموذج الوحيد لإدارة الدولة... تسعى لفرضه على النّاس حتى لو تم تطبيق ذلك على جثث وجماجم البشر، وعند التدقيق نجد أن الإسلام لم يضع شكلاً محدداً للدولة، أقامها الرسول في المدينة وبعد وفاته خلفه سيدنا أبو بكر الصديق، وعند وفاة الأخير وجد المسلمون حرجاً في تسمية عمر بن الخطاب بالخليفة، فكيف يكون خليفة الخليفة أبو بكر؟ ومن وقتها أُطلق على الفاروق، أمير المؤمنين، وظل هذا الاسم في الحقبة الأموية والعباسية، إلا أن بعض المسلمين الذين ورثوا المسمى أحيوه على أنه دين.

من هنا بدأت القصة وفوجئنا بالتنظيمات الدينية في عصرنا الحالي تنبش التراث وتأتي بمفهوم الخلافة من تحت ركام الحكم العضود ليحاولوا فرضه على النّاس. ليس ذلك فقط بل ادعوا أنه فرض عين، فحاربوا وقتلوا وفجروا من أجل أن تكون لهم خلافة، ونجحت "داعش" في 29 حزيران (يونيو) عام 2014 في فرضها على النّاس بالحديد والنار، ويحاول "الإخوان المسلمون" إعادتها من جديد بعد سقوطها في 22 آذار (مارس) عام 2019، ولكن وفق مفهومهم هم وليس مفهوم "داعش"، فكل تنظيم يفهم الخلافة بصورة تبدو مختلفة عن التنظيم الآخر، والمثال يبدو أكثر وضوحاً في "الإخوان" و"داعش" و"القاعدة".

تعتبر التنظيمات المتطرفة أن الخلافة فرض من فروض الدين، ولا ينبغي إقامة الدين من دونها، وهنا ينبثق من مفهومها أن الخليفة القائم على أمر الدولة إنما هو ظل الله على الأرض ولا يجوز الخروج عليه، لأنه قائم على الدين كما أنه قائم على أمور الدنيا، وهنا الخروج عليه وكأنه خروج على الدين نفسه، والخلافة لم تكن امتداداً للنبوة كما يعتقد الشيعة وبخاصة الإمامية والإسماعيلية، فكل منهما يرى الخليفة أنه إمام المسلمين وهو معصوم، فهو كالنبي غير أنه لا ينزل عليه الوحي، فأي خروج على حاكم يرى مريدوه أنه أشبه بالنبي؟

الخلافة شكل من أشكال الحكم، من حق النّاس أن تختار ما يُناسبها في إدارة شؤونها وبما يتوافق مع مصالحهم لا مع ما جاء في التراث، وهنا أقول مع ما جاء في التراث وليس في الدين، ففرق شاسع بين الفكر الديني وبين الدين نفسه، مع العلم أن التراث لا علاقة له بالدين، فهو مجرد إنتاج فكري لبشر قد نقبله وقد نرفض بعضه، ولا ينبغي أن نضعه موضع الدين، وظلم للدين أن نضع الأفكار الموروثة موضع الدين المقدس.

استمرت الخلافة بعد وفاة الرسول الكريم لثلاثين عاماً فقط، ثم غابت في غياهب التراث 1400 عام ليخرج علينا من ينادي بها ويسعى لتطبيقها على جماجم البشر، وأقصد بغيابها انحرافها عن المسار الديموقراطي أو الشورى التي كان ينبغي أن تكون عليها، فكانت أشبه برجل مريض لم يكن قادراً على الحفاظ على الدين ولا على الجغرافيا!

أبو بكر الصدّيق الخليفة الوحيد ومن بعده أطلق على من خلفه أمير المؤمنين حتى نهاية العهدين الأموي والعباسي، ثم أسندت إلى طغاة وقتلة سمّوا أنفسهم خلفاء ولكنهم لم يخلفوا الرسول في أي تعاليم دينية... بعضهم وصل إلى منصبه بالتوريث والبعض الآخر وصل بالتآمر والقتل، وهنا نؤكد أن شكل الدولة لم يكن منصوصاً عليه في كتاب الله وما ورد من أحاديث تتعرض لشكل الحكم ولطبيعته ليست أحاديث صحيحة ولا يمكن الاستدلال عليها بفرض وفرضية ما أرادت التنظيمات المتطرفة فرضه على النّاس.

التنظيمات الدينية المتطرفة كلها تستقي من معين واحد، سواء وفق تصورها للحاكم أو للدولة أو حتى للمرآة، وتلك قضايا فارقة وحاسمة في فهم هذه التنظيمات، التي لا تؤمن بالدولة الوطنية، والتي تختصر الوطن في كونه حفنة من تراب نجس. الخلافة عندها أهم من الوطن، وهنا الخلافة بمفهومها الشامل، فيغيب الوطن أمام مفاهيم ألبسوها ثياب الدين، وهي ليست لها علاقة بالدين من قريب أو بعيد، والأخطر أنها ضد مفهوم الوطن في صورته التي حضّ الدين عليها، ولعل قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) متغزلاً في وطنه عندما قال عن مكة عندما قرر الهجرة: "والله إنك لأحب الأوطان إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، ليضرب مثالاً في حب تراب الوطن الذي عاش في كنفه وتحت سمائه، وليعلم النّاس من بعده أن تراب الوطن هو الأقرب إلى القلب.

في الختام، ما نود قوله، إن كثيراً من الإسلاميين يمثلون خطراً على أوطانهم. وخطورة هؤلاء الإسلاميين هي من منطلق عدم إيمانهم بهذه الأوطان، فهم يرونها مجرد مكان يسكنون فيه، فما كانت الأوطان يوماً تسكن في قلوب هؤلاء وعقولهم، تراب الوطن ورائحته أغلى من كنوز الدنيا وأغلى من حكم الوطن نفسه. هذا هو الدين، الذي زرع حب الوطن في قلوب أصحابه لا الذي باع من خلاله هؤلاء أوطانهم مقابل أن يتولوا السلطة فيه بأي صورة وتحت أي مسمى واستخدموا في ذلك شعارات مزيفة ما أنزل الله بها من سلطان.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية