"الإخوان المسلمون" وثقافة القطيع

"الإخوان المسلمون" وثقافة القطيع


27/02/2022

منير أديب

"الإخوان المسلمون" جماعة مغلقة، ربما لأنها أعلت من السمع والطاعة فباتت أقرب إلى الجماعات السرية التي تخفي عن نفسها أكثر مما تُعلنه للنّاس؛ الطاعة داخل التنظيم عمياء وغير مبصرة، فهكذا تكون التنظيمات السرية أو شبه العسكرية التي لها أذرع مسلحة.

تاريخ التنظيم يشهد على ذلك، ومن هنا أطلقت على أعضائها "الصف الإخواني" ووصفت بعض تجمعاتها بـ"الكتيبة"، وهو مصطلح عسكري، وحددت اجتماعاً لأعضائها أطلقت عليه "الأسرة"، وهي صورة من صور عزلة التنظيم داخل المجتمع، وخلق بدائل لحواضنه التي ينشأ فيها الإنسان الطبيعي، ولعل كل هذا تسيطر عليه قيادة التنظيم تحت اسم السمع والطاعة.

القسَم هو أول ما يتلوه العضو الجديد ومن ثم يلتزمه طوال عضويته، وهناك من الأعضاء من يموت على انتمائه التنظيمي وهم كثر. في هذا القسم يعلن العضو أنه سيكون جندياً مخلصاً في الجماعة، على أن يسمع ويطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ لاحظ معي في هذا القسم ما تريد أن تصبغ به الجماعة أعضاءها الجدد، وهو ما يختص بالسمع والطاعة وعدم الخروج على التنظيم أو قادته أو قراراته. صحيح ألحق المؤسس الأول عبارة "إلا في معصية الله" في نهاية القسم، حتى يحميه من أي انتقاد يوجه له، فالجماعة لن تأمر بإباحة الزنا بين أعضائها أو تكلفهم السرقة، ولكنها ستفرض عليهم تفسيرات وتأويلات لبعض النصوص الدينية قد تدفعهم الى القتل، وهو أخطر من الزنا والسرقة!

وضعت الجماعة فكرة السمع والطاعة كشرط من شروط عضوية التنظيم، وطالبت أعضاءها بأن يسمعوا ويطيعوا كل ما تقرره الجماعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، أي أن يسمعوا ويطيعوا التنظيم حتى في ما يكرهونه، وهي صورة من صور إذعان العضو داخل التنظيم، كما أنها طالبت بأن يكون السمع والطاعة في العسر؛ أي يسمع العضو لتنظيمه وقادته في وقت الشدائد ولا يمكن الجدال أو النقاش أو حتى رفض التكليفات الموكله إليه، وهو ما تسبب في مقتل العشرات من أعضاء التنظيم على خلفية ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013 وما بعدها، إذ فرضت عليهم الجماعة اعتصاماً ضد السلطة السياسية آنذاك، وبالتالي فرضت عليهم تعاملاً خشناً مع هذه السلطة، وهو ما أدى إلى مقتل العديد منهم أثناء عزم أجهزة الأمن على فك اعتصامهم، وكان السمع والطاعة هما المتهمان الأولان في الجرائم التي ارتُكبت، ولعل الجاني فيها التنظيم وقادته والضحية هم أعضاؤه من البسطاء.

تشدد الجماعة على ضرورة أن يلتزم أعضاؤها السمع والطاعة، وهنا تضع هذا الالتزام شرطاً للعضوية، كما تجعل منه شرطاً للترقي داخل الهياكل التنظيمية، ومن لا يَسمع لا يُسمع له ومن لا يُطيع ولا يُطاع، إذاً السمع والطاعة من أهم شروط العضوية داخل التنظيم؛ التنظيم قد يقبل عضواً يكذب أو متعدد العلاقات أو غير منضبط أخلاقياً، ولكنه لا يقبل أن يكون من بين أعضائه من لا يسمع ولا يطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره.

ترى الجماعة أنه لا يمكن أن تحقق ما تسميه بالضبط التنظيمي إلا من خلال السمع والطاعة، طاعة قد يتخللها نقاش، ولكنه ينتهي بالسمع أو ينتهي النقاش بخروج عضو التنظيم عن التنظيم، فالجماعة لن تقبل بغير توافر هذا الشرط في أعضائها، كل أعضائها وبلا استثناء، فهو جزء أساسي من البناء التنظيمي.

وهنا يُعلي التنظيم من نفسه أمام أفراده، وعلى هؤلاء الأفراد أن يطيعوا التنظيم وأن يقدموه على ذواتهم. ليس ذلك فحسب، بل على الدولة والمجتمع الذي يعيشون فيه، وهنا يصبح التنظيم بديلاً من الدولة وتصبح الجماعة بديلاً من الأسرة التي نشأ فيها العضو، بل تتحول الجماعة أسرة بديلة، نجحت الجماعة في إرساء مفاهيمها عبر ثقافة السمع والطاعة، وبالتالي باتت ثقافة لقطيع الإخوان، أو تحوّل معها الإخوان إلى قطيع يُساق.

السمع والطاعة العمياء تسببا في أزمات التنظيم ودفعا أعضاءه الى ممارسة القتل، ففي 26 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1954 أطلق محمود عبد اللطيف، عضو التنظيم، 7 رصاصات على الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في ميدان المنشية في محافظة الإسكندرية، أثناء الاحتفال بعيد الجلاء، وقد نجا الرئيس من رصاصات "الإخوان" وقتها، ورغم أن التنظيم تبرأ منها في العلن اعترف بارتكابها في الاجتماعات الضيقة على مستوى قيادات التنظيم، إذ بررت ذلك بأنه كان بتكليف من هنداوي دوير، أحد قادة النظام الخاص، وأن القرار كان شخصياً ولم يصدر من الجماعة!

رفض اعتراف الجماعة بهذه الجريمة يأتي من منطلق أنها لا تريد أن يخلق البعض مبرراً لرد فعل الرئيس جمال عبد الناصر عليها، فقد كان رداً قاسياً، إذ أعدم بعضهم على خلفية هذه الجريمة وجرائم مشابهة ارتكبوها تتعلق بالعنف، ووصمت عهده بالسوداوية، ومن وقتها ما زال هناك ثأر بين الرئيس الأسبق وأنصاره و"الإخوان المسلمين". ما نودّ قوله في هذا الاستشهاد أن السمع والطاعة كانا من أدوات الجماعة في إقناع أعضائها بضرورة التخلص من الرئيس جمال عبد الناصر.

لم تكن محاولة اغتيال رئيس الدولة في الخمسينات من القرن الماضي هي الجريمة الأولى ولا الأخيرة لثقافة السمع والطاعة، فمن قبل قتل "الإخوان" القاضي الخازندار. أطاع القتلة أوامر قادتهم فنفذوا الجريمة على الفور ومن دون نقاش، وما بين الجريمتين ومقتل المئات من "الإخوان" في صراع مسلح مع أجهزة الأمن في مصر بعد عام 2013 على خلفية استخدامهم العنف ومقاومة السلطات، يمكن أن نفهم مبدأ السمع والطاعة، وأن نميز ما إذا كانت طاعة عمياء أو مبصرة كما يدّعي التنظيم.

مبدأ السمع والطاعة يخالف الإبداع، فالجماعة لا يمكن أن يكون فيها إبداع على المستوى التنظيمي. الجماعة تكرر نفسها منذ نشأتها. لها عمر طويل استطاعت أن تعيش من خلاله عقوداً، وانتقلت من مرحلة تاريخية ضيّق عليها فيها إلى مرحلة رحبة تمتع التنظيم فيها بحريته، ولكنها وصلت إلى النتائج نفسها، ولعل ذلك بسب عدم وجود الإبداع بين قادتها، وغياب هذا الإبداع يعود في الأساس إلى مبدأ السمع الطاعة داخل التنظيم، وهنا يمكن القول، إن سياسة التدمير الذاتي للجماعة هي من داخلها لا من خارجها.

الجماعة تكرّس الفردانية في داخلها، هذه الفردانية صنعت دكتاتورية؛ فالجماعة لم تسمح لأعضائها في مصر بعد عام 2011 بأن ينضموا إلى حزب سياسي بخلاف الحزب الذي أنشأته الجماعة، فهي ترى نفسها بالنسبة الى أعضائها بديلاً من الدولة، وقد كان ذلك قبل أن يستولوا على السلطة، ووضعت نفسها بديلاً للدولة، وهي ترى أن عضو الجماعة لا بد من أن يكون متسقاً مع جماعته دعوياً وسياسياً، لمَ لا وهي جمعته في أسْر بات يمارس من خلاله كل شيء وتراقبه من خلاله عن قرب؟

تصف الجماعة أعضاءها الذين يرفضون أن يكونوا قوالب داخل التنظيم بالخبث، وهنا تكرر عبارتها الشهيرة بأن الدعوة تنفي خبثها، وبالتالي كل من يرفض قرارات التنظيم أو يتمرد عليها فهو بمثابة الخبث، صحيح أنه يخرج من التنظيم لمجرد تمرده على قرارات الجماعة أو رفضه أن يكون مجرد قالب مثل غيره، ولكن الجماعة وفق المثل السابق، ترى أن التنظيم هو الذي ينفي هذا الخبث، وهو الذي يطرد عضو التنظيم الذي يرفض الطاعة.

لم يكن "الإخوان المسلمون" بدّعاً في اجتهاداتهم التي أعلت من السمع والطاعة، ولكنهم جنوا هذا الميراث من مؤسسهم الأول، الذي رأى ضرورة أن يكون الأخ مع قادته كما يكون الميت بين يدي مغسله، يحركه كيفما يشاء، لا جدال ولا نقاش، وإذا كان فلا بد من  أن يكون في مستوى قبول القرار التنظيمي وقبوله أولاً، وهنا أعلى التنظيم من شأنه أمام الفرد وبات بديلاً للدولة، وباتت القرارات التنظيمية تستمد شرعيتها من القرآن والسنّة، حتى بات التنظيم أهم عند أعضائه من الإسلام ذاته.

الجماعة تقضي على نفسها بنفسها في ما أشرنا إليه سابقاً من خاصية التدمير الذاتي، مثلها مثل بعض برامج المحادثاث المشفرة على شبكة المعلومات الدولية، ولعل السمع والطاعة وثقافة القطيع هي من الأدوات التي نجح التنظيم في الحفاظ على نفسه من خلالها طيلة عشرة عقود، ولعلها أيضاً أحد أسباب تدمير التنظيم الذاتي.    

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية