الإخوان المسلمون... الحياة في النظرية

الإخوان المسلمون... الحياة في النظرية

الإخوان المسلمون... الحياة في النظرية


31/12/2023

النظرية فرضية، وهي بما يتوازى مع سياق المقال وفكرته حول دولة ومجتمع الإخوان المسلمين، يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال (اليوتوبيا)، الفكرة التي اخترعها وأسس لها (توماس مور) في روايته التي حملت الاسم نفسه، منطلقاً من تأسيس نظرياتي لمجتمع يعيش كلّ سكانه ومنتسبيه في الفضيلة وحدها. وهي على النقيض من مدينة الـ (ديستوبيا) التي تنضح بالفساد، أو كما قال عنها أبو حيان التوحيدي إنّها تغلب عليها الدناءة والخداع والحيلة والمكر.

تأسس الإخوان المسلمون بين نظريتي الـ (يتوبيا) والـ (دستوبيا)؛ فالأولى فيها كثافة عالية من المديح لمجتمعهم الداخلي المؤسس على الفضيلة والخير والدعوة إلى الله، والثانية فيها رصيد كبير من هجاء ونقد وتوبيخ المجتمع الخارجي والدولة المؤسسين على المفاسد والشر. مدينة الإخوان لا يكمن فيها الشيطان، ولها فجر واضح، بينما من هم خارج مدينتهم فهم كما قال صلاح عبد الصبور في هجاء المدينة "بلا فجر تنام".

تبدو خيول الإخوان قد أحبطت وأنهكها التعب، فالنظرية والورق لا ينبت فيها العشب أبداً، إلّا في قصائد الحالمين

ولأنّ الإخوان المسلمين عاشوا، ويعيشون معاً ودوماً في داخل النظرية، فقد جعلوا لكل شيء نظرية، فلهم نظريتهم الخاصة في العقيدة، ولهم نظريتهم الخاصة في السياسة، ولهم نظريتهم الخاصة في الثقافة والدولة والمجتمع، ولأنّها نظريات تتعلق بالآخر، فهي حتماً غارقة في وحل الـ (ديستوبيا)، باعتبار أنّ كل من هم سواهم وخارج مدينتهم فهم "آخر"، على خلاف ما تعاقدت عليه ثقافتنا العمومية بأنّ الآخر هو الغرب عموماً، أو هو من حيث هو غير الذات العربية والإسلامية التي تعتبر كل ما عداها هو الآخر.

في كتابه المهم "الجماعة والمجتمع"، قدّم (فرديناند تونيز) إضاءة على فكرة النظريات المؤسسة للصراع بين الجماعات الصغيرة المتشكلة على أساس القرابة أو التجاور وأثر هذا الصراع على بنى المجتمع في الدين والسياسة والثقافة وبناه الذاتية أو الشخصانية، وقد يبدو التساؤل هنا فيه قدر من الأهمية فيما لو كان الصراع أساساً قائماً داخل بنية الجماعات على أساس الدين وتوظيفاته الخطيرة لخدمة أغراض السياسة مثلاً، وليس على أساس تأثيرات الصراع على الدين، إنّه نوع من أقسى أنواع الصراعات وأكثرها تحدياً أمام المجتمع، وقد اختبرت مجتمعاتنا العربية على مدار عصورها منذ عهد الخلافة الراشدة الثالثة، مروراً بمجتمعات الأمويين والعباسيين والفاطميين وإلى اليوم، اختبرت قسوة الصراع على أساس توظيف الدين وتطويعه والعبور من خلاله إلى السياسة والسلطة والحكم.

لا تشكّل فكرة انخراط الإخوان المسلمين في المجتمع وتفاعلهم في العمل الخيري الذي برعوا فيه، بهدف حشد التأييد والأتباع، اعتباراً حاسماً في نظرتهم الإيجابية للمجتمع، فهو ليس انخراطاً حقيقياً، ولا تفاعلاً يعترف بالمجتمع كقيمة ومعنى، إنّه ليس سوى "جمهور" يتم اقتياده من عاطفته الدينية المشبعة برغبة الخلاص، كما أنّه تفاعل تتقدم فيه أنا الجماعة على الأنا الأعلى للمجتمع، وتفاعل ينحاز دوماً لخيارات الجماعة على حساب خيارات المجتمع، على سبيل المثال، كما يرى الباحث الدكتور هاني نسيرة في دراسته المعنونة بـ "إشكاليات علاقة الإخوان بالمجتمع المدني من التأسيس إلى السقوط"، فإنّ قيم المجتمع المدني الحداثية مؤمنة بالتسامح السياسي والفكري ومؤمنة بالمدنية -ولو على مستوى الأفكار- التي قد تواجه صعوبة في تطبيقاتها وتمثلاتها في الواقع، إلا أنّ أدبيات الإخوان المسلمين ليست مؤمنة أساساً بالتسامح السياسي، فيما يتعلق بالوصول إلى السلطة والحكم، وإن بدا منها شيء تجاه القبول أو الاعتراف به، فهو اعتراف شكلي كنوع من أنواع  الدبلوماسية السياسية التي يجدون أنفسهم مجبرين عليها.

لم ينجز الإخوان سوى النظريات التي خرج منها كثير من أفكار وجماعات التطرف، أو على أقلّ تقدير، استغلت هذه الجماعات وكيانات الغلو نظرياتهم فمارست العنف على وتيرة قاسية، ممّا خلق ذرائع للمواجهات والحروب

 

الحياة في النظرية متعبة وإشكالية، خاصة إذا كانت هذه النظرية تقدّم مصالح الجماعة على مصالح المجتمع، والجهاد في سبيلها مع ما فيها من تشويش واهتزازات محاصر بالهزائم والسقوط، لذا تبدو خيول الإخوان قد أحبطت وأنهكها التعب، فالنظرية والورق لا ينبت فيها العشب أبداً، إلّا في قصائد الحالمين.

الذين دسوا أنفسهم في النظريات الغارقة في الذاتوية والماضوية هم، كما يقول الراحل خيري منصور: "طارئون على هذا الكوكب"، يكرهون الحاضر، ليس بوصفه حاضراً فهم حاضرون فيه، بل باعتباره ضد نظريتهم التي تتمنى لو أنّ المستقبل يبدأ "أمس".

لا يمكن رفض الحاضر، فهو حاضر الجميع، ولا يمكن كره الماضي ورفضه، فهو ماضينا جميعاً، وفيه الكثير من أمجادنا، وفي رحى غباره صنعت انتصارات حاسمة لنا، لكنّ الإشكالية القاسية التي تحدث لنا هي في بقائنا نظريين إلى أبعد حد، وقد يتساءل أحدهم هنا: ما الذي أنجزه الإخوان طيلة (100) عام؟ هل هم فعلاً الذين حافظوا على حالة التدين في المجتمعات، أم أنّ المجتمعات بطبيعتها الوجدانية الدينية تبقى هذه سمتها الغالبة؟ لم ينجز الإخوان سوى النظريات التي خرج منها كثير من أفكار وجماعات التطرف، أو على أقلّ تقدير، استغلت هذه الجماعات وكيانات الغلو نظرياتهم فمارست العنف على وتيرة قاسية، ممّا خلق ذرائع للمواجهات والحروب.

لم ينجز الإخوان سوى مشاركات سياسية متواضعة، في المقابل بنوا إمبراطوريات مال وأعمال استفادت منه القيادات، فيما تحملت القواعد مغارمه، وحملت عبء إجابات أسئلته الواخزة والإشكالية.

مواضيع ذات صلة:

دعاة أم قضاة؟ .. الإخوان المسلمون وجدل الذات والموضوع

الإخوان المسلمون وصناعة وهم الأيديولوجيا المقدّسة

الإخوان المسلمون والاعتدال الزائف

الصفحة الرئيسية