منذ انتهاء الخلافة الإسلامية، في بدايات القرن الماضي، لم تنفكّ تيارات الإسلام السياسي، وعمادُها جماعة الإخوان المسلمين، عن طرح ثنائيّات جدليّة، لمعنى واحد في صورتين متقابلتين، لا تفكّكان إشكالية القديم والجديد، ولا تجيبان عن السؤال المحوريّ لتفكيك إشكالية السؤال؛ نحو أيٍّ من الطريقين نذهب، هل نغادر الماضي والموروث وننخرط اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مع هذا الجديد المتناقض بالضرورة مع الموروث، أم نوفّق بين ذاك الموروث، بكلّ ما يحمله، وكلّ هذا الجديد؟!
في ظلّ تلك الحوارات القائمة حتى اليوم، فيما يبدو أنّ لا أفق يشير إلى إمكانية التوصّل إلى حلول ونتائج مُرضِية، تفتقتْ عبقرية دهاقنة الإسلام السياسي، فاستثمرت الحوارات حول الأصالة والمعاصرة، باعتبارها صيغة مراوغة، تؤمّن للإسلام السياسي الحفاظ على مقعده في ساحات الحوار بقناع حضاري، خاصّةً أنّها تعكس، ظاهرياً، نموذجاً وسطياً لقبول الآخر، بمزاوجةٍ بين الموروث والجديد، لإرسال رسالةٍ تمييزية لإسلام معتدل، لديه إمكانيةُ الانخراط في كل ما هو جديد، مع المحافظة على الموروث، دون مساءلته، في ظلّ مقاربات تفضي مخرجاته إلى كونه مقدساً، لا يمكن الاقتراب منه، أو إعادة فحصه.
في هذه السياقات، جاء طرح مقاربة الأصالة والمعاصرة مرادفاً لمقولات أخرى تؤدي المعنى نفسه، فكان التقليد والتجديد، والمحافظة والتحديث، والرجعية والتقدمية، والحداثة والتراث، والقديم والجديد. وشملت كافّة حقول المعرفة؛ من علوم إنسانية، وفنون، وعمارة، وتربية، وتعليم. في ظلّ مقابلة بين مدلولات المصطلح، باعتبار أنّ الأصالة: هي كلّ ما يتصل بالموروث والسلف من نصوص مقدسة، وأحكامها القطعية، وأفكار، وتربية، وعمارة، وعلوم طبيعية، ونظام حكم سياسي، وشخوص، وذلك بانحياز مسبق ومطلق لها، باعتبارها مثالية. فيما المعاصرة: هي كلّ ما يتصل بالحاضر من أفكار ومفاهيم تتعلق بأسلوب الحكم، خاصّة مفهوم الديمقراطية، وصناديق الاقتراع، ومخرجاتها، ومفهوم الأغلبية والأقلية، وحكومات الظلّ، وتداول السلطة، والإدارة العامة للإنسان والموارد، ومفاهيم حقوق الإنسان، خاصّة المرتبطة بالأطفال، والمرأة، والأقليات، والتنوع الثقافي والاجتماعي، وشخوص، ومعطيات الحضارة الحديثة، باعتبارها منجزاً يتناقض مع الأصالة، وهدفه إلغاؤها.
استعار الإسلام السياسي لا سيما تنظيم الإخوان المسلمين سياسات الأنظمة الحاكمة فوقع في الازدواجية
ومن المفارقات؛ أنّ التمسكَ بالأصالة والمعاصرة، تمّ تناولُهُ في العالَمَين؛ العربي والإسلامي، على اعتباره إجابةً عن شكل ومضمون الدولة البديلة المنشودة، عربياً أو إسلامياً، وأسلوباً للحياة الجديدة والإدارة العامة، فيما تمّ تداولُهُ في الغرب في إطار شكل الدولة الجديدة، التي تستجيب للمتغيرات والمستجدات الناشئة؛ حيث تم تجاوز مفاهيم الأصالة باعتبارها قوالب مقدّسة جامدة، لا يمكن لها أنْ تكون المعيار الأهمّ والأبرز، بحياة الناس فكانت الحرية الفردية، وحرية الأديان، واحترام التنوع الثقافي، في إطار سيادة الدولة وقوة القانون فيها.
إنّ المتابع للقائمين على التمسّك بمفهوم الأصالة والمعاصرة، يلحظُ بلا عناء حجم التواطؤ المقصود، أو غير المقصود، بين النّظُم السّياسية في العالَمَين العربي والإسلامي والإسلام السياسي، فهذا المفهوم شكّل مخرجاً للنّظُم السياسية، باعتباره يؤمّن لها البقاء دون تقديم تنازلات جادة في مجال الإصلاح والديمقراطية؛ حيث أمّن مظلةً لتلك النّظُم، لمخاطبة الغرب بما يريد من معايير مرتبطة بمفاهيم الإصلاح والديمقراطية، لضمان تدفق المساعدات والمنح، وبما يرضي مؤسسات المجتمع المدني محلياً، وفي الوقت نفسه، مخاطبة القواعد الشعبية بالالتزام بمعايير(الأصالة)، باعتبارها نقيضاً لتلك المعاصرة المفروضة من الغرب، ويبدو أنّ الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) استعار سياسات الأنظمة الحاكمة، فوقع في الازدواجية ذاتها، فقدّم خطاباً للغرب، بقبوله الديمقراطية بمفهومها الشامل، على اعتبارها حكم الشعب، وأنّه يلتزم إذا ما وصل إلى الحكم بالمعايير الغربية في احترام مخرجات صناديق الاقتراع، وحقوق المرأة، والأقليات الدينية، وتداول السلطة، وحتّى الاعتراف بإسرائيل، وحقّها في العيش بسلام، بالتزامن مع خطاب داخلي آخر لقواعده الشعبية، يتماهى مع مفاهيم ومخرجات خطاب السلفية الإسلامية الأصولية، وتحت عنوان (الأصالة) من حيث رفض الآخر، وتقسيم الأمة إلى فسطاطين؛ فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، وشيطنة الغرب الكافر، وتكرار الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة، وما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلّا بالقوة، وأنّ دولة الخلافة؛ حيث العدل والقوة والمنعة، قادمة لا محالة، لولا تلك الحفنة المعزولة ممّن يوالون الغرب الكافر!.
يصدّر الإسلام السياسي فكرة أنّه مهما كانت المعاصرة مبهرة ومغرية في عناوينها إلّا أنّها موجودة في تراثنا العربي والإسلامي
وعلى هامش هذا الخطاب؛ يُستشهد بأحداث أو شخوص معزولين، لإثبات صحة رؤى ومقاربات الإسلام السياسي، حتى وصل الأمر إلى الإصرار على أنّ كلّ ما ينتجه الغرب، لهُ أصل في الحضارة العربية والإسلامية، فكان الصحابي أبو ذر الغفاري أول اشتراكي في الإسلام، فيما كتاب "تحفة العروس" للألباني يورِدُ أنّ مفاهيم الجنس التي انتشرت في الغرب موجودة في الإسلام. فمهما كانت تلك المعاصرة مبهرة ومغرية في عناوينها، إلّا أنّها موجودة في تراثنا العربي والإسلامي، وقد شكّلت المنابر الدعوية والإعلامية، من: مساجد، وفضائيات، وإذاعات، وصحف، ومواقع إلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، حاملاً لكلّ مفردات ومضامين هذا الخطاب.
وبإسقاط مفهوم الأصالة والمعاصرة على التطورات الجارية، بعد انتشار القاعدة وداعش، التي أعلنت صراحةً؛ أنّها مع الأصالة بمفهومها الشامل بانحياز مطلق للتراث، وعنوانه الرئيس "الخلافة الإسلامية"، والرفض المطلق للمعاصرة بكلّ مفاهيمها، ومحاربتها بكلّ السبل (مع الاستفادة من معطياتها، خاصة التكنولوجية منها)، فمقاربات الإسلام السياسي، وعنوانه "جماعة الإخوان المسلمين"، التي تحاول تمييز مفهومها للأصالة والمعاصرة، باعتباره معتدلاً، باستخدامه خطاباً مزدوجاً، لا تختلف مضامينه عن مضامين مخرجات خطاب القاعدة وداعش، أصبحت في حاجة إلى إعادة نظر من قبل هؤلاء، المقتنعين بإمكانية وجود إسلام معتدل، وفق مقاربات الإخوان المسلمين، وبعيداً عن حلول الأسود والأبيض، فإنّ الإخوان المسلمين، وأنظمة الحكم السياسية التي تنافس الإسلام السياسي على التحكم في توجيه العمل السياسي وربطه بالأصالة والمعاصرة بالاتكاءعلى الأصول والفروع ذاتها التي تتكئ عليها الأصالة بمفهومها الشامل في تقديس الموروث الديني، يطالبون اليوم بإعلان مواقفهم ومفاهيمهم، وتصوراتهم لشكل ومضمون الدولة التي يريدون، بعد أنْ أعلن الإرهابيون في القاعدة وداعش، أنّ غايتهم إعادة الخلافة الإسلامية، كما كانت عليه قبل 1400 سنة.