الأب


11/05/2021

كوليت بهنا

منذ بدايتها قبل عام ونصف، عجّلت جائحة كورونا من موت الآلاف من كبار السن الذين كانوا على قائمة الانتظار القدرية، ويكاد لا يخلو منزل حول العالم من حالة فقد لأحدهم، أجداد، أم أو أب، أخوال أو عمات، ما أضفى على هذه المرحلة الزمنية العسيرة صفة الأسى الذي خلفه غياب هؤلاء الأحبة الذين يشكلون مظلة الأهل، وكأن العالم بات يتيماً بشكل غير مجازي.

يشكل كبار السن الذين يمضون أوقاتهم الأخيرة في دور العجزة، أو يحظون بعطف أبنائهم ورعايتهم في المنزل، الملامح العامة لصورتنا -نحن- في السنوات غير البعيدة القادمة، وصورة أبنائنا وجميع الأجيال القادمة في المستقبل. قد تبدو هذه الصورة كئيبة للبعض إن أمعن التدقيق في تفاصيلها، لكنه سيسلّم بها حيث لا مهرب من دورة الحياة الطبيعية لكل حيّ.

كل يوم، وفي كل مكان، يواجه العديد من الناس مثل هذه التجارب المضنية التي يمر بها أحد أحبتهم الكبار في صراعهم وتشبثهم لأجل البقاء ساعات أو أشهر مضافة، بما تعنيه هذه التجارب للأبناء من تشكل ذاكرة مريرة تتراكم إثر مراقبتهم للتحولات الجسدية المؤسفة لشيخوخة أحبائهم، المترافقة مع تلاشي الإدراك والقوى والقدرات، دون أن يكون بوسعهم في كثير من الأحيان تقديم المساعدة الحقيقية لهم.

في مواجهة مثل هذه التجارب، يتوقف المرء ويتساءل عن ماهية المساعدة الحقيقية التي يمكن أن يقدمها، سواء للمصاب بأمراض مزمنة أم بأمراض الذهان الأشد وطأة، وهل الدواء والغذاء وملاءات السرير النظيفة هي أقصى احتياجات كبار السن؟

أسئلة صعبة يجرب فيلم "الأب The Father" أن يمنح مشاهده فرصة للتفكير بها ملياً قبل الإجابة عليها، وهو فيلم يتداخل فيه البعد الوجودي لمعنى الحياة، بالبعد العاطفي والأخلاقي لواجبات الإنسانية في تعاملها مع بعضها، ليشكلا معاً رؤية فلسفية للمصير العبثي الذي تنتهي به حياة الفرد، مهما صال وجال في ماضيه، ومهما علا شأنه، وأياً تكن سيرته الذاتية أو قيمته الاجتماعية.

من جانب آخر، يمكن فهم هذه الرؤية من زاوية الرغبة الحثيثة لإزاحة هيمنة المنظومة البطريركية أو مفهوم النظام الأبوي، وقد بات -بحسب هذه الرؤية- خرِفاً، فاقداً لعقله، مهترئاً بنيوياً، حتى وإن بدا مهيباً ومتماسكاً، مختلاً في توازنه، متشبثاً بأهداب الماضي وعظمته، لا يفسح للتغيير والحداثة في المجال، مبتزاً للعواطف بذرائع ملتوية، وفارضاً لواجبات قسرية لا يلين في تخفيف حدتها.

الأب، الذي يُحتمل أن العقل بذاته هو المقصود به، أي "أبو" كل جسد، الصانع لعقلنته وأمجاده، المزهو بخيلائه وجمال حاله، المتحكم في مسيرته، المهيمن على كل تفصيل وشريان وخلية ونفَس، ومصير هذا الجسد حين يبتدئ أبوه العقل بالخرف.

بحيث تصب جميع هذه الرؤى والتفسيرات في نهاية الأمر لتدعم تفرد بنيته الدرامية المتينة والإشكالية، المقتبسة في جوهرها عن مسرحية تحمل الاسم ذاته، للفرنسي فلوريان زيلر، الذي كتب بدوره سيناريو الفيلم بمشاركة السيناريست البريطاني، كريستوفر هامبتون، وأخرجه وقدمه للجمهور على أنه دراما وجدانية تتحدث في ظاهرها عن الشيخوخة.

لكنها في عمقها دراما وجودية ينهمك الفرنسيون بها منذ سنوات كهواجس ملحة تدعو إلى التأمل، وتعكس قلقاً لم يعد خفياً من آثار التداعي والبرود العاطفي للأسرة في المجتمع الفرنسي الحديث، وتحاول عبر الفنون أن تفسر القسوة التي باتت تغلف بشكل عام العلاقات الأسرية المتبادلة.

يحكي الفيلم قصة الأب أنتوني الذي يعاني من الخرف، وهي الشخصية والقصة التي بني عليهما النص بأكمله، لعبها النجم العالمي، أنتوني هوبكنز، واستحق عن دوره جائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار قبل أيام. يطوف الكاتب مثل متسلل خبير عبر دهاليز عقل بطله، يفتح الأبواب الموصدة، أو يكسر أقفالها أحياناً ليخرج منها المخفي والمسكوت عنه والمشتهى، كاشفاً البنية العقلية للإنسان في شيخوخته، والتي تكاد تلامس نعمة التحرر من الأنا العليا وضوابطها.

في عالم الخرف، كل شيء مباح، أن تسترجع ماضيك كذكريات حميمة أو فضائح محرجة. يمكنك أن تمنح مخيلتك ما تشاء من المساحات للعب، وأن تستحضر من أحببتهم حقاً في يوم من الأيام، أو كرهتهم بصدق مماثل، حيث لا مجال هنا ولا وقت إلا للصدق، واللعب المتاح بين الواقع والتخيل، ليس لعباً درامياً تنسجه مخيلة كاتب فقط، بل هو حقيقة موجعة يعيشها مرضى الخرف الأقرب بأعراضه من مرض ألزهايمر.

أنتوني هوبكنز لا يجيد الأداء هنا لأنه ممثل محترف أو لاستناده إلى نص محكم فقط، بل سيبدو لوهلة وكأنه يتحرك بدافع من ذعر خفي، وربما ترحيبه المسبق، لمصير مشابه قد يعيشه بعد سنوات وهو يقترب من سن الثمانين. بحيث يبدو الفيلم مع اكتماله وكأنه صمم ليكون أشبه بـ"بروفا" عامة يجهز الكاتب نفسه لها قبل حدوثها بعد سنوات، وكذلك الممثل وطاقم العمل، وكل مشاهد يتابع الفيلم.

دهاليز العقل التي يرسمها الكاتب المخرج بأناقة تشبه مهارة عمل بطله كمهندس معماري سابق، هي دهاليز بيته الأنيق ذاته، الخائف من احتمال فقدانه أو السطو عليه من قبل أقرب المقربين، الذين يحبهم والذين يكرههم معاً، لأن هذه الدهاليز، أروقة بيته، هي المكان الآمن، الذاكرة، المنزل الذي أمضى فيه حياته، ولا يرغب في مغادرته.

بحيث تُختصر الحكاية بالمنزل، بتفسيراته الوجدانية المتعددة كسكن ووطن وملاذ ومظلة وجسد وعقل، وأي خروج منه يعني الانهيار العاطفي، وهو في حقيقة الأمر ما يعانيه أي مصاب بأحد أمراض الذهان، حين يجبر على الخروج لتمضية ما تبقى من سنوات عمره في أحد دور العجزة الباردة عاطفياً، والتي تعني له الموت النفسي بكل قسوته.

في العودة إلى التساؤل العام عما يحتاجه كبار السن من احتياجات رئيسة، يبدو الجواب بسيطاً للغاية، إن أردت أن ترعاه مدفوعاً بواجبك الأخلاقي، لا تخرجه من منزله، وحين تقدم له وجباته من الطعام الصحي، لا تنسى أن تقدم له قبله جرعات وافية من الحب. 

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية