ازدواج المعايير.. كيف يفهم الغرب ظاهرة الإرهاب؟

ازدواج المعايير.. كيف يفهم الغرب ظاهرة الإرهاب؟

ازدواج المعايير.. كيف يفهم الغرب ظاهرة الإرهاب؟


07/11/2023

كل شيء في الكون مزدوج، والطبيعة والحياة قائمة على هذا الازدواج، ولقد خطا الإنسان الأول خطوته الأولى في هذه الحياة يتخبط بين هذين الخطين السرمديين.
هذا الازدواج شق طريقه عبر التاريخ والتطور البشري ليستقر في كافة البنى الفكرية والدينّية والفلسفية في العالم، متجلياً على سبيل المثال في: الليل والنهار، الأسود والأبيض، الخير والشر، الجنة والنار، نحن وهم، الحرب والسلام، التطرف والاعتدال.. والقائمة تطول.

ضمن قائمة الازدواجات الناشئة في عالم اليوم مفهوم الإرهاب مقابل جريمة الكراهية

الملاحظ أنّ نتيجة التراكم المعرفي للبشرية والتسارع الحاصل في التكنولوجيا؛ أصبحنا نعاني من التشويش حول الحدود التي تقف عندها "الازدواجات التقليدية" القارّة في وعينا الجمعي كبشر؛ فكلما زاد التطور البشري الذي تجره قاطرة التسارع التكنولوجي قلّت أو تلاشت أو تغيرت الحدود بين هذه الازدواجات كما استقرت في أفكارنا السابقة. وهنا؛ تبقى الإشكالية ضمن حدود مجادلات ونقاشات الفلسفة والأفكار الكبرى، وليس له من ساحة أفضل من صراع الحضارات.
المشكلة هي في "الازدوجات الناشئة" أو الفرعية التي أرى أنّه تم تصنيعها حديثاً من خلال تسارع  التطور التكنولوجي، وزيادة المعارف البشرية وتعقد المجتمع الدولي وصراعه المحموم مع سيرورة العولمة، ولذلك يمكن أن أصف "الازدواجات الناشئة" بأنّها من مخرجات سيرورة العولمة المعاصرة، وأهمها عندي مفاهيم التطرف، التطرف العنيف، جرائم الكراهية "الإرهاب"، الإرهاب الدولي، الإرهاب العالمي، الإرهاب المحلي، ومكافحة الإرهاب.

اقرأ أيضاً: أين تكمن مشكلة دراسة الإرهاب المعاصر؟
ومن ضمن قائمة الازدوجات الناشئة أريد التركيز في هذا المقال على مفهوم الإرهاب  مقابل جريمة الكراهية كما تستخدم في الأدبيات الأمريكية لدراسة الإرهاب المحلي المعاصر.
ما الإرهاب؟
هناك اتفاق بين المؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة على أنّ الإرهاب ظاهرة ضاربة في التاريخ الإنساني، ومرافقة للمقدس في كافة الحضارات الإنسانية والديانات، مثلما أنّ هناك اتفاقاً على أنّ الإرهاب المعاصر تفجر في قلب الثورة الفرنسية وعلى هوامشها الفكرية والسياسية التي ولّدت ما يُطلق عليه في أدبيات العنف السياسي والارهاب "فترة الرعب" التي بدأت خلال الثورة الفرنسية، من شهر تموز (يوليو) عام 1793 واستمرت لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وتزعمها القائد السياسي الثوري مكسيمليان روبسبير الذي ذهب ضحيتها هو نفسه في النهاية!

اقرأ أيضاً: ما موقع الشباب في معادلة الإرهاب المعولم؟
ومنذ هذا التاريخ يمكن للمتابع أن يلاحظ بسهولة كيف كان مفهوم الإرهاب والإرهابي يتطور عبر الزمن؛ سواء من حيث التوالد اللغوي أو الفعل التواصلي أو التأويلي، أولاً من اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر ميلادي، ثم إلى الفرنسية حينما استخدمها لأول مرة العام 1794 الفيلسوف الفرنسي فرنسيس نويل- بابيوف الذي تم إعدامه بتهمة التآمر على الثورة  لوصفه نظام روبسبير بالدكتاتورية، ثم إلى اللغة الإنجليزية حينما استخدمها الفيلسوف والسياسي الإيرلندي أدموند بيرك في كانون الأول (ديسمبر) 1795، لوصف أعمال الحكومة الفرنسية الحاكمة آنذاك.

معظم العمليات التي ارتكبها عرب ومسلمون تصنف مباشرة إرهاباً إسلامياً بخلاف ما يرتكبه اليمين المتطرف

وهكذا بدأت متوالية التوليد والتأويلات للمفهوم، بداية من التعريف الى الأصول التاريخية والأسباب والأشكال والأنواع، حتى تجاوزت التعريفات المعروفة للمفهوم أكثر من 200 تعريف ليس بينها تعريف واحد متفق عليه، وهذا ما أكده البرفسور البريطاني ريتشارد جاكسون مُنظر الدراسات النقدية لظاهرة الإرهاب في كتابه القيّم "الإرهاب: مقدمة نقدية" عندما قال "إنّ الإرهاب أصبح في كل مكان في القرن الواحد والعشرين، والخبر الأول في وسائل الإعلام، ويشغل الدول والحكومات، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، إلى حلف الناتو، إلى الأجهزة الأمنية والشرطة في العالم".
كل هذا يحدث على الرغم من أنّ ظاهرة الإرهاب المعاصر تعود الى مئات السنين، إلى حقبة الثورة الفرنسية، كما أسلفنا، إلا أنّها بقيت حتى السبعينيات من القرن العشرين  بعيدة عن الأضواء والاهتمام؛ إذ لم يكن هناك أفلام أو مسلسلات أو روايات أو كتب أو باحثون مهتمون بالإرهاب مقارنة بما نشهده اليوم.

اقرأ أيضاً: هل ينجح الإرهاب في تحقيق أهدافه؟
كذلك فإنّ صعوبة الكتابة والبحث في ظاهرة الإرهاب مازالت تفرض نفسها لسببين: الأول؛ قلة الدراسات والنصوص المتوفرة للطلاب والدارسين مقارنة بالحقول الأخرى مثل: العلاقات الدولية، علم الجريمة، الدراسات الأمنية. والثاني؛ أنّ الإرهاب ليس حقلاً أكاديمياً مجرداً؛ لأنه -كما سبق أن أشرت- هو حقل يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة.
المعايير المزدوجة
ساهمت سيرورة العولمة في تحطيم "الحكمة التقليدية" في كل جوانب الحياة المعاصرة، وتضخيم وانتشار المعايير المزدوجة، وإنتاج الازدواجات القاتلة؛ لأنّها سطّحت المعرفة الإنسانية، ثم سهّلت طرق الحصول عليها ومشاركتها والتعبير عنها بأقل قدر من الرقابة الرسمية، حتى أصبح الفرد المجرد المزوّد بهاتفٍ نقال محطة بث متنقلة، وأصبح "الأصدقاء" و"المجموعات" على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بديلاً للعائلة والقبيلة وجماعات ضغط اللوبيات والأحزاب والنقابات. وهي في كل ذلك تحفر عميقاً في البنية القديمة للدولة والمجتمع والمؤسسات كما تعارفنا عليها، في نفس الوقت الذي تساهم فيه في توليد الفلسفات والمفاهيم والأفكار والمعايير الجديدة، وزيادة حجم المخاطر والخوف ونشر التطرف والإرهاب.

ظاهرة الإرهاب المعاصر تعود إلى مئات السنين وتحديداً إلى حقبة الثورة الفرنسية

لقد أصبح الناس في الحقبة المعاصرة من سيرورة العولمة يقتلون كل اليوم في الشوارع والساحات والأسواق والمدارس والجامعات وأماكن العبادة؛ ليس بسبب ما يفعلون، أو يمثّلون؛ بل لأنهم كانوا غالباً في المكان والزمان غير المناسبين، في وضعٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، وأظنه أخطر تجلٍّ لسيرورة العولمة المعاصرة.
المشكلة التي تواجهنا كبشرٍ على هذا الكوكب اليوم؛ هي أنّه على الرغم من فداحة الشر المجسّد الذي نلمسه ونشاهده ونسمعه عبر وسائل وآليات العولمة التكنولوجية حول كل هذه الحيوات التي تزهق بسرعة وبرود وأحزان مؤقتة أو متضامنة أحياناً، إلا أنّنا نختلف  في توصيف هذا الشر المجسد؛ هل ينطبق عليه تعريف الإرهاب، أم هو جريمة كراهية؟ وهل هو إرهاب دولي أم محلي؟ وأيهما أهم: إرهاب الجماعات والمنظمات الاسلاموية الناشطة حالياً مثل: داعش والقاعدة وبوكو حرام وطالبان، أم إرهاب جماعات اليمين المتطرف في أمريكا وأوروبا؟

اقرأ أيضاً: التدمير الذاتي للقوة الأمريكية
الملاحظ على الجهتين (الجماعات والمنظمات الإسلاموية/ جماعات اليمين المتطرف) أنّ "نظرية المؤامرة الكونية" هي المسيطرة على تفكير هذه الجماعات ومؤيديها في العالم؛ فالجماعات الإسلاموية ترى أنّ هناك مؤامرة عالمية من الغرب وإسرائيل لتدمير الإسلام، وجماعات اليمين المتطرف ترى العكس، وأنّ هناك مؤامرة من المسلمين واليهود وغير البيض على تدمير تفوّق العرق الأبيض وحضارته العريقة.
لقد أسهمت آليات العولمة التكنولوجية منذ العقد الماضي في تعميق هذه الانطباعات والنظريات السوداوية؛ حيث تم تصدير وتصوير الهجمات الإرهابية التي شنّها تنظيم القاعدة منذ العام 2001، وهجمات تنظيم داعش منذ العام 2014 داخل المدن الأوروبية وأمريكا على أنّها هجوم على الحضارة الغربية البيضاء، وكمحركات لرد فعل عنيف من قبل جماعات اليمين المتطرف أو ما يُطلق عليه الآن في أدبيات الإرهاب "اليمين البديل" اعتماداً على الازدواجات الناشئة مثل؛ محور "الخير والشر"، و"نحن وهم" التي اتخذت شكلاً مؤسسياً بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 خلال رئاسة جورج بوش الابن، والتي انبعثت مرة أخرى وبقوة بوجود دونالد ترامب بهدف الرد على هجوم "الآخرين" على هذه الحضارة.

المفارقة أنّ كلا الجماعات الإسلامية واليمين المتطرف تسيطر عليهما نظرية المؤامرة الكونية

ويلاحظ أنّ "الآخرين" توسعت هنا لتشمل ليس فقط الغرب والمسلمين واليهود (الساميين)، بل كافة الأعراق والأجناس غير البيضاء، وضمن هذه الأجواء برزت "المعايير المزدوجة" ومشكلة تعريف الإرهاب، والنظرة الى الإرهاب خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً بعد سلسلة عمليات القتل والاستهداف التي قام بها أشخاص من اليمين المتطرف ضد اليهود والمسلمين والأقليات؛ إذ تشير إحصائيات "رابطة عدم التمييز" الأمريكية الى أنّ اليمين المتطرف كان مسؤولاً أو متهماً بكل عمليات القتل الإيديولوجي وبنسبة 59% من المجموع الكلي للعمليات العام 2017م.
لكن على الرغم من ذلك؛ قلل الرئيس ترامب من خطورتهم مدعياً "أنهم أقلية من الناس لديهم مشاكل جدية ولا يشكلون تهديداً عالمياً"، وتم تصنيف معظم عملياتهم على أنّها "جرائم كراهية" وليست إرهاباً!
على خلفية هذه العمليات الإشكالية أثيرت مؤخراً في الولايات المتحدة نقاشات حادة وجلسات استماع في الكونغرس، من أهمها جلسة الاستماع التي جرت بتاريخ 17 أيار (مايو) 2019 وشاركت فيها أصغر نائب (29 عاماً) في الكونغرس الأمريكي عن الحزب الديمقراطي والمعارضة القوية لترامب، ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، مع جورج سليم مدير وحدة "مكافحة التطرف العنيف" في إدارة باراك أوباما التي قامت إدارة دونالد ترامب بإلغائها، لمحاولة البت في إشكالية المعاير المزدوجة في تعريف "الإرهاب" و"جريمة الكراهية"؛ حيث يلاحظ أنّ معظم العمليات التي ارتكبها عرب ومسلمون تصنف مباشرة وبسرعة على أنّها "إرهاب إسلامي"، بينما معظم العمليات العنيفة التي قام بها أعضاء من اليمين المتطرف وتفوق الأمة البيضاء لم تصنف إرهابية بل جرائم كراهية، مع أن تعريف "مكتب التحقيقات الفيدرالية"( FBI) للإرهاب ينطبق عليها!
صحيح أنّ للإرهاب تاريخاً طويلاً في المجتمع الإنساني؛ لكنه تحوّل بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضد أمريكا، إلى قضية تحظى باهتمام عالمي، أما الحرب على الإرهاب التي تبعت ذلك فقد أثّرت على مختلف القضايا لحياتنا المعاصرة، وما زالت تؤثر علينا حتى الآن، خاصة وأنّها أصبحت منجماً لإنتاج الازدوجات الناشئة وتوليد المعايير المزدوجة، ولذلك فإنّ الفهم الدقيق للإرهاب أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.

الصفحة الرئيسية