يتوهّم كُثُر أن إيران تساند الشيعة وتسعى إلى نشر التشيّع في العالم. لكن هذا الوهم لم يأتِ من فراغ، بل هناك الكثير مما يبرره واقعياً. فالجماعات الشيعية في عدد من البلدان تستمد تمويلها وأوامرها من إيران، وهي جميعاً تتحدث باسم الشيعة ومظلوميتهم وتدّعي تمثيلهم، بينما الرأي العام الشيعي لا يبدو معارضاً لهذه التوجهات، أو يبدو صامتاً تجاهها.
وهذا الوهم لا يقتصر على غير المطلعين على الشأن الشيعي فحسب، بل يشمل حتى من يفترض أنهم على معرفة به بحكم الخبرة والتعامل. مثلاً، وزير الخارجية العراقي السابق، هوشيار زيباري، صرّح أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة عام ٢٠٠٤ بما يشبه «غلطة فرويد» بأن «شيعة العراق موالون لإيران».
وطبيعي أن من يعتقد بأن إيران تساند الشيعة أنه يعتقد بأنها تعادي السنة وأن الخلاف معها خلاف ديني مذهبي بحت. والحقيقة مختلفة، فالشيعة أول المتضررين من سياسات إيران ومساعيها للحديث باسمهم والتصرف بحياتهم وبلدانهم، بينما تسعى جاهدة للتقرب إلى السنّة بكل الوسائل المتاحة لها، مشروعة كانت أم غير مشروعة.
إيران لا تسعى إلا إلى تعزيز موقعها كقوة إقليمية وعالمية، وهذا أمر مشروع لو كانت وسائل بلوغه صحيحة، فمعظم دول العالم تسعى إليه بوسائل عصرية نافعة كتقديم المساعدات وعقد اتفاقيات التعاون الاقتصادي والثقافي الثنائية منها والمتعددة الطرف، والعمل ضمن المنظمات الدولية لدعم مصالحها من دون الإضرار بمصالح الدول الأخرى. غير أن إيران تستخدم وسائل غير مشروعة غالباً وبذلك تضعف مواقف الشيعة في الدول الأخرى وتجعلهم في موضع شك من سكان وحكومات البلدان التي يعيشون فيها، وتعمِّق الهوة بينهم وبين المكونات الأخرى. مثلاً، منذ نجاح الثورة على الشاه عام 1979، سعت إيران حثيثاً إلى إنشاء جماعات، بعضها مسلح، في الدول الأخرى باسم الشيعة، ودعمتها بالمال والسلاح لتتمدد على حساب النظام والقانون والأمن. كما سعت إلى استفزاز العصبيات المذهبية في الدول التي يقطنها الشيعة، ما ساهم في عزلهم وزيادة التمييز ضدّهم.
وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي لإيران، فإنه لا يكترث للهوية المذهبية في سياساته الداخلية أو الخارجية. لقد وقفت إيران (الشيعية) مع أرمينيا (المسيحية) ضد آذربيجان (الشيعية) في خلافهما حول ناغورني كاراباخ في التسعينات. كما أن أهم رئيس وزراء إيراني في العصر الحديث وأطولهم خدمة كان أمير عباس هويدا، وهو ليس مسلماً بل بهائي. والأمران يسجلان لإيران لا عليها، وهما مؤشران واضحان على أن سياسات الدول ومواقفها لا تحددها الهويات الدينية أو الأيديولوجية، بل المصالح، وأن الدين والطائفة والقومية غالباً ما تتخذ ذرائع للسلطة والهيمنة.
لقد وظف نظام الشاه القومي العلماني الدين والطائفية والعنصرية ضد العراق وأضعفه وجعله يقدم تنازلات سيادية تسببت لاحقاً في اندلاع حرب ضروس، «وَلَدَت حرباً أخرى» (وفق التعبير البليغ لسعد البزاز). أما النظام الجمهوري فإنه يوظف الدين والمذهب بأضعاف ما فعله الشاه، لخدمة أهداف غير مشروعة، ولا تخدم حتى مصلحة إيران كدولة، وإن الشعب الإيراني قد تضرر كثيراً نتيجة لهذه السياسات غير المسؤولة التي اتبعتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة، المعتدلة منها والمتشددة.
لا يكترث النظام الإيراني لمصلحة الشيعة غير الإيرانيين ولا تهمه هذه المسألة إلا بقدر الاستفادة منها، وهو يعلم بأنه يسبب أذى وضرراً يومياً لهؤلاء الشيعة عبر التحدث باسمهم ودعم جماعات مسلحة خارجة عن القانون زعزعت استقرار الدول التي يعيشون فيها آمنين وأضرت بمستقبل الوئام الاجتماعي وإمكان عيش الشيعة بسلام وانسجام في المنطقة.
النظام في إيران يسعى إلى ربط الشيعة به، لا من أجلهم، فهو يعلم بأنهم يتضررون من هذا الارتباط، بل من أجل التأثير في البلدان الأخرى، وإن كان على حساب مصالح الشيعة. ونتيجة لهذا السعي الإيراني تعمقت الهوة بين الشيعة والسنة، وسقط كثيرون من معارضي إيران في شباك هذه السياسة وأخذوا يعادون الشيعة ويميزون ضدهم ويلومونهم على أفعال الدولة الإيرانية وكأنهم مسؤولون عنها، ويرمونهم جميعاً بالغلو والتطرف والتبعية. لكن الشيعة، كباقي الطوائف الدينية، لا يضمهم بلد معين ولا تمثلهم حكومة أو نظام سياسي، وهم جزء من المجتمعات التي يعيشون فيها لا تفرقهم عنها ثقافة أو مصلحة، بل تتعزز مصالحهم وتقوى شوكتهم بقوة واستقرار بلدانهم، لا إيران.
والشيعة ليسوا مذهباً واحداً متجانساً كما يتوّهم البعض، بل مذاهب عدة مختلفة تتميز بتنوّع شديد ربما غير مألوف في الطوائف الأخرى. فكل مرجع ديني له مدرسة فقهية مختلفة عن المراجع الآخرين، وهذا هو مبرر وجوده الأساسي، وقد يكون الاختلاف عميقاً بحيث أن اتباع بعض المراجع الشيعة أقرب فكرياً وفقهياً إلى المذاهب السنية من أتباع مراجع آخرين. والغريب أن الدولة الإيرانية تتساهل مع هذا التنوع المذهبي الشيعي داخل إيران، وقد لا تستطيع منعه لأنه متأصل في الفكر الشيعي، لكنها تحاول توحيد الرؤى السياسية للشيعة خارجها وجعلها جميعا متسقة مع سياساتها ومرتبطة بها.
ليس في مصلحة الشيعة الارتباط بأي نظام سياسي، بل إن في ذلك ضرراً كلياً عليهم. النظرية الشيعية التقليدية تؤمن بفكرة انتظار المهدي وإيكال إدارة الشؤن الدنيوية «في عصر الغيبة» إلى الناس، فهم أعلم بشؤون دنياهم، بما يعني الفصل الكامل بين الدين والسياسة، وهذا يتعارض كلياً مع فكرة ولاية الفقيه التي تتبناها الدولة الإيرانية، والفكرة أساساً غير مالوفة في الفكر الشيعي القائم على الاجتهاد والتعددية والفصل بين الدين والدولة، فالحكم لإمام المعصوم فقط.
الدول والمؤسسات التي أخذت تميز ضد سكانها ومنتسبيها الشيعة، إنما تقدم خدمة جليلة للنظام الإيراني لأنها توفر له الذرائع السياسية لإقناع الشيعة بأنه الوحيد الذي يحمي حقوقهم ويدافع عنهم ضد التمييز وأن مصلحتهم تقتضي الارتباط به. بلداننا ومؤسساتنا بحاجة إلى تفعيل مبادئ احترام إنسانية السكان والمساواة بينهم أمام القانون وعندها لن تشعر أي شريحة بالحاجة للاستعانة بدولة أخرى.
حميد الكفائي - عن صحيفة "الحياة" اللندنية