بالإضافة إلى الانتشار العربي على امتداد الساحل الجنوبي والغربي للخليج العربي، بدايةً من رأس مسندم المطلّ على مضيق هرمز حتى ضفاف شط العرب الواقع جنوب العراق اليوم، تعتبر السواحل الشمالية والشرقية المقابلة (الواقعة ضمن إيران اليوم) كذلك مناطق انتشار للقبائل العربية منذ أزمنة بعيدة. ولم يقتصر ذلك على الانتشار السكاني وحسب، وإنما قد اقترن بقيام دول وممالك عربية حكمت فتراتٍ وعهوداً طويلة. وكانت إمارة بني كعب في الأحواز إحدى هذه الدول العربية التي قامت في تلك الأرجاء.
المرحلة الأولى... إمارة البوناصر
يعود تاريخ هجرة قبيلة بني كعب إلى مناطق الأحواز إلى منتصف القرن الـ17 الميلادي، حين جاءت إلى هناك مهاجرةً من مناطق وسط العراق، واستقرّت على جانبي نهر "شط العرب" (المتكون من التقاء نهري دجلة والفرات). وفي عام 1690م شيّد بنو كعب مدينة "القبان"، لتكون عاصمة لهم ومقراً لإمارتهم الوليدة. وكان أول أمراء الإمارة الكعبية هو الشيخ علي بن ناصر بن محمد، من فخذ البوناصر (بنو ناصر) من قبيلة بني كعب.
وفي القرن الـ18 قامت الدولة الأفشارية في إيران (خلفاً للدولة الصفوية) على يد نادر شاه عام 1736م، وبدأت بتوجيه الحملات ضد الدولة المشعشعية، التي كانت الدولة العربية المسيطرة في مناطق الأحواز وجنوب العراق، بما في ذلك الحملة العسكرية التي أدت إلى احتلال عاصمتها "الحويزة"، ما تسبب بإضعافها، وبدأت قبائل أخرى بالتوسّع على حساب المشعشعين، وكان بنو كعب أقوى وأهمّ القبائل التي تمكنت من التمدد على حساب المشعشعين.
عهد ذهبي
وفي عام 1737م تولّى الشيخ سلمان بن سلطان البوناصر الحكم في إمارة المحمّرة. وقد استفاد الشيخ سلمان من الفوضى التي عمّت إيران بعد وفاة نادر شاه الأفشاري عام 1747م، فبدأ بتوسيع نفوذ إمارته باتجاه الشمال والشرق، واصطدم بقبائل الأفشار التركمان، وتمكن من التغلّب عليهم واحتلال عاصمتهم الدورق، التي أبدل اسمها وحوّله إلى "الفلاحية"، واتخذها عاصمة له بدلاً من القبان.
استفاد بنو كعب من الضربات التي وجهها الأفشاريون للدولة المشعشعية وتمكنوا من التمدد على حسابها
وقد حاول العثمانيون إخضاع الشيخ سلمان بالقوة، ولكنهم عجزوا عن ذلك. كما قام كريم خان الزند، حاكم ومؤسس الدولة الزندية في إيران، بعدة محاولات للسيطرة على الشيخ سلمان ولكنه فشل أيضاً، وبذلك بقيت الدولة الكعبية محافظة على استقلالها عن كلتا الدولتين؛ العثمانية والزندية.
وفي البحر، استطاع الشيخ سلمان الكعبي تأسيس أسطول قوي هيمن على الخليج العربي، وخصوصاً بعد التحالف مع أسطول مهنا بن ناصر الزعابي، حاكم إمارة "بندر ريق" العربية في الساحل الشرقي للخليج العربي. ولا أدلّ على قوة الأسطول الكعبي من تمكنه من إلحاق الهزيمة بالأسطول البريطاني التابع لشركة الهند الشرقية، عام 1765م، والاستيلاء على سفينتين منه وسحبهما إلى شط العرب.
المرحلة الثانية... إمارة البوكاسب
توفي الشيخ سلمان بن سلطان البوناصر عام 1767م، وخلفه خلفاء أضعف من فخذ البوناصر. وبالمقابل بدأ زعماء فخذ البوكاسب من بني كعب بالبروز، بدايةً من الشيخ مرداو بن علي بن كاسب الكعبي، الذي يُعتبر مؤسس حكم البوكاسب، ومن ثم خلفه ابنه الشيخ يوسف بن مرداو، وهو باني مدينة المحمّرة، على شط العرب، عام 1812م، والتي أصبحت عاصمة للدولة لاحقاً.
اقرأ أيضاً: متى ظهر مسمى "العرب" في التاريخ؟ وعلى من أطلق؟
وخلفه من بعده جابر بن مرداو، الذي استغلّ ضعف أمراء البوناصر، بجانب دعم حكام الدولة الإيرانية القاجارية، وأعلن عام 1832م عن تشكيل إمارة فخذ البوكاسب وعاصمتها المحمّرة (ونسبةً لها عرفت الإمارة باسم "إمارة المحمّرة")، ودعمه القاجاريون في ذلك على أن يكون عوناً لهم.
وفي عام 1857م أصدر ناصر الدين شاه القاجاري مرسوماً يعترف بالاستقلال الذاتي للإمارة تحت حكم البوكاسب. وجاء هذا القرار عقب توقيع الدولة القاجارية اتفاقية "أرض روم" الثانية عام 1848م مع الدولة العثمانية، والتي تم بموجبها ضم مدينة المحمّرة، مركز الإمارة، والعديد من المناطق الأحوازية، إلى سلطة الدولة القاجارية، ولكنها لم تكن قادرة على فرض سلطتها الفعلية على الأحواز، فاختارت الاعتراف بالاستقلال الذاتي للإمارة، مع بقاء السلطة الاسمية لها عليها. وخلال عهد جابر بن مرداو ازدهرت المحمّرة كميناء تجاري في قلب الساحل الشمالي للخليج العربي.
تزايد النفوذ البريطاني
وفي عام 1881م تولّى الإمارة الشيخ مزعل بن جابر بن مرداو الكعبي. وشهد عهده اندفاع بريطانيا نحو التغلغل في الإمارة، وذلك مع بداية السعي إلى استثمار المناطق الغنية بالنفط، وقد أسست بريطانيا عام 1890م قنصلية لها بالمحمّرة لرعاية مصالحها في الإمارة.
استطاع الشيخ مزعل توطيد دعائم إمارته، وعلى الصعيد الخارجي كانت علاقته متينة بشيوخ الكويت، وكذلك مع شيوخ آل السعدون، زعماء حلف المنتفق في جنوب العراق. وفي عهده، عام 1888م، قام بتوجيه الحملة الأخيرة على معاقل المشعشعين، وقتل آخر أمرائهم مطلب الثاني بن نصر الله.
استطاع الشيخ سلمان الكعبي تأسيس أسطول قوي هيمن على الخليج العربي، وتمكّن من إلحاق الهزيمة بالأسطول البريطاني
وبسبب معارضة الشيخ مزعل للإنجليز، ومنازعته لهم وتحديه لنفوذهم، قاموا بتدبير عملية اغتيال له عام 1897م.
ومن ثم تولى الإمارة خلفاً له شقيقه خزعل الكعبي، وهو آخر أمير للمحمّرة، وقد اعتُبر من أقوى الحكام في منطقة الخليج العربي أثناء عهده، ولُقّب بـ "شيخ مشايخ الخليج". وخلال عهده، وفي عام 1908م، بدأت شركة النفط الإنجليزية الإيرانية باستخراج النفط من الحقول المكتشفة في المحمّرة.
اقرأ أيضاً: الجرهاء.. قصة أقدم مركز تجاري على ساحل الخليج العربي
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني للعراق، كان الشيخ خزعل الكعبي أحد المرشحين لتولي عرش العراق، مع اقتراح ضمّ الأحواز إلى العراق، إلّا أنّ القرار البريطاني انتهى عام 1921م إلى تنصيب الملك فيصل على العراق وإبقاء الأحواز منفصلة عنه، تحت الحكم الفارسي غير المباشر.
وفي عام 1921م قام وزير الدفاع في إيران رضا بهلوي بانقلاب على الشاه أحمد القاجاري وحلّ الحكومة، وتولى ما بين أعوام 1923-1925م منصب رئيس الوزراء، قبل أن يقوم بخلع الشاه أحمد آخر الشاهات القاجاريين عام 1925م، ثم إجبار البرلمان على انتخابه شاهاً على البلاد.
وخلال تلك الأعوام، استغل خزعل الكعبي حالة الاضطراب، وأطلق انتفاضة بهدف تحقيق الاستقلال التام بالأحواز. إلّا أنّ رضا بهلوي قام بالتصدي للانتفاضة وقمعها، حيث أخضع قبائل البختيارية المتحالفة مع الشيخ خزعل ما أدّى إلى استسلامه.
وبعد فترة وجيزة، جرى اختطاف الشيخ خزعل الكعبي واقتياده إلى طهران، وذلك بعد أن أخلف رضا شاه بعهد الأمان الذي كان قد منحه له في نهاية الانتفاضة عند استسلامه، ومن ثم اقتيد إلى طهران، وهناك قرّر رضا شاه وضع الشيخ خزعل تحت الإقامة الجبرية مدى الحياة. وليتمّ بذلك إلغاء حكم البوكاسب في المحمّرة، وتحويل الأحواز إلى محافظة إيرانية.
اقرأ أيضاً: 4 أبعاد لاستراتيجية تركيا التمددية في منطقة البلقان.. ما هي؟
وفي أيار (مايو) 1936م، وبينما كان الشيخ خزعل في منزله، قُتل غيلة على يد أحد الحرّاس، وكان ذلك بتدبير وبأمر من رضا شاه.
إثر اعتقال الشيخ خزعل عام 1925م، انطلقت المقاومة العربية في الأحواز؛ إذ رفض الأحوازيون سياسات التفريس، وقاد الثورة الأحوازية الأولى، التي انطلقت في تموز (يوليو) عام 1925م، جنود الشيخ خزعل وحرسه الخاص، الذين كانوا يُسمّون بـ "الغلمان"، فعُرفت الثورة باسم "ثورة الغلمان".
وقد اتبعت السلطات الإيرانية البهلوية سياسات التفريس بغرض محو الهوية العربية للأحواز، فعملت على إحداث التغيير الديموغرافي؛ إذ جلبت آلاف المزارعين الفرس إلى المحافظة منذ عام 1928م، إضافة إلى انتقال الآلاف من الفرس للعمل في المنشآت النفطية، ممّا ساهم في تغيير التركيبة السكانية. وفي عام 1935 غيّر اسم المحمّرة إلی خرمشهر، وبعدها بعام، عام 1936م، أطلق اسم "خوزستان" على محافظة الأحواز. كلّ ذلك في إطار سياسة "التفريس" في ظل الحکم الإيراني البهلوي.