إذا كان إبراهيم السكران قد استعان بجورج طرابيشي لتبيان تهافت الجابري الذي ينتمي للفرانكفونية المغربية، فإنّ السكران، ومنهجه هو موضع الخلاف بين الجابري والطرابيشي؛ إذ إنّ انتصار المدرسة السلفية التي يدافع عنها، ويعدّها حصن الإسلام، هي لحظة الأفول لدى الطرابيشي في الحضارة الإسلامية، مقابل الجابري الذي يعدّ لحظة الأفول هي اللحظة العرفانية الصوفية، كما أنّ السكران يمكن إجمالاً عدّه الآن خير ممثل لحالة النكوص، التي انطلق منها الطرابيشي في تحليل الثقافة العربية، منذ عصر النهضة إلى تاريخ وفاته؛ إذ إنّ نقد السكران للجابري بطرابيشي لا يؤسس للحظة سكرانية، بقدر ما يكرّس لقوّة طرابيشية في النقد، وهو الأولى بالنقد، كونه من بين قلّة يدعون إلى "علمانية الإسلام"، مقابل تردّد الجابري، وتخلّيه في النهاية عن العلمانية كمفهوم غربي، واستبدالها بالديمقراطية، وهذا كان سيكون أكثر اتّساقاً، كونه جوهر مشروعه؛ أي السكران، هو مناهضة تمدين الإسلام وعلمنته من الداخل، لكنّه ترك الطرابيشي جانباً، ومضى في نقده للأشباح التي لا يسمّيها، إنّما يذكر تصوراتها هكذا معلقة في الهواء، تحت عنوان "المناوئين" الداعين للخطاب المدني، "وتضييق الحلقة لتشمل "التجديديين"، ومجمل الخارجين على طريق السلف، كما نرى في خاتمة كتابه "مآلات الخطاب المدني"؛ إذ بانتهاء الكتاب ينتهي المسلمون، حين ينحصر الإسلام في خير القرون، ودور المسلمين في إحياء ما تركوه.
الدين عند السكران إذا غلبته الدنيا قدّم استقالته، وتركها بحثاً عن طريق للآخرة، بعيداً عن خطابات التمدن
بالعودة إلى طرابيشي، يمكن اعتبار السكران ردّة فعل نرجسية تبالغ في نرجسيتها، تجاه سطوة المدنية في الحياة الواقعية، التي بطبيعة الحال تؤثر في الحياة الفكرية؛ إذ لا يمكن أن تنعزل تصوّرات الناس وآرائهم عن سياقهم، فحركة الدين؛ سلباً أو إيجاباً، تكون مع حركة الزمان بحمولاته الثقافية لتكون العلاقة جدلية مع الواقع وتحاورية، بعكس المتخيل السكراني الذي يرى في الدين كياناً بعيداً عن الزمن الراهن، وهو الذي يبرّر فساد الراهن، وصلاح الزمن الأوّل، بحديث "خير القرون قرني ...إلخ"، وهو دين غير مرتبط بمصالح العباد، كما أنّ العبادة والصلاح فيه لا يرتبطان بمنجزات أرضية، فهو دين عند السكران إذا غلبته الدنيا قدّم استقالته، وتركها بحثاً عن طريق للآخرة، بعيداً عن خطابات التمدن، وهنا نسأل: ما نقيض التمدن؟! والسكران هو الذي يعشق المتقابلات بوصفها متناقضات، مبرراً ذلك بأنّه منهج قرآني، رغم أنّ القرآن لا يختزل المتقابلات، كما أنّ المتقابلات متناقضات بطبيعة الحال، وهذا ما لا يحتاج إلى استشهاد قرآني، لكنّ السكران يعتقد بأنّ تماهيه في الديني يغنيه عن طبائع الدنيوي، ونقيض التمدّن ليس الآخرة، كما يسوق لذلك بوضع الدنيا مقابل الآخرة، فمقابل التمدّن هو التوحّش، وثقافة قد مضت بحسب الذي استقرّ في الثقافة الغربية، فهم متمدّنون ومتديّنون، بغضّ النظر عن صحّة تدينهم، لكنّ جوهره هو الآخرة، فهم لا ينسون وجودها، وهكذا علمتهم المسيحية، ومن هنا لا يمكننا أن نعدّ الإسلام أو الآخرة، مقابلاً للمدنية والتمدّن، بقدر ما يكون مقابل المدنية هو الحياة المتوحّشة في حالتها الإنسانية، أو الثيوقراطية في حالتها المسيحية، لوجود تماهٍ بين الله والإنسان، وهي الحالة الكهنوتية.
جمهور كتابات الباحث الإسلامي السكران يحملون قناعات ناجزة مسبقاً، ذات طبيعة تفيض بالإيمان والمشاعر الممتلئة
إنّ ردّة الفعل النكوصية تجاه المدنية أو الحداثة، عند السكران، لا تشبه أية ردّة فعل؛ فهو يتصرف مع الدين مقابل المدنية، كالطفل الذي يلعب بكرته، هو مع أصدقائه، وعندما يهزم يأخذ كرته ويذهب قائلاً: "هذه كرتي"، فهو يريد مصادرة الخطاب الديني من تحت بساط "الإصلاحيين السلفيين السعوديين" المتسامحين دينياً مع الخطاب المدني، خصوصاً في جانبه السياسي، متوسّلاً في ذلك مقولات تنتمي في جوهرها إلى "المدنية التي يهرب منها"، كمفهوم الخطاب الذي يستخدمه، وهو -في الأصل- مصطلح فوكوي يربط كلّ خطاب بسلطة ومركز، وهذا إذا تمّ استخدامه في نقد الخطاب الديني الذي ينطلق منه السكران، هرب منه واحتمى بمقولة "الإيماني والإلهي"، كحائط صدّ من نظرية الخطاب الفوكوية، وهنا تكمن خطورة معظم الأدوات الحديثة التي يستخدمها السكران ضدّ خصومه، فهي قنبلة يمكنها أن تنفجر في وجهه هو أولاً.
لكن، لماذا يستخدم السكران مصطلحات حديثة كتبرير للردة؟
في الغالب الأعم، سبب ذلك هو طبيعة الفئة المستهدفة من كتاباته، كونها تنتمي إلى الحقل السلفي الذي ينتظر الردّ على الخصوم دون قراءتهم، فهو يخاطب جمهوراً جاهزاً يخشى الوقوع فيما وقع فيه غيره، جمهور يقوم على فكرة الثقة في الكاتب والخشية من الضّلال في الانخراط في الزمن الراهن؛ فهي فئة تبحث لاهثة عن كلّ قلم يبين لها قناعتها المسبقة بدناسة الحضارة والمدنية، وطهارة التراث والسلف الصالح، فجمهور كتابات الباحث الإسلامي السكران يحملون قناعات ناجزة مسبقاً، ذات طبيعة تفيض بالإيمان والمشاعر الممتلئة، التي يشعر أصحابها بالتيه في زمن ليس زمانهم؛ أي لم يساهموا في بنائه، ليأتي السكران ويقول لهم: لا، اهتموا ببناء الآخرة.