أسعد عبود
تحيي الولايات المتحدة الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، للمرة الأولى وهي خارج أفغانستان، بينما عادت "طالبان" إلى السلطة مجدداً ومعها الهواجس من تبعات هذا التغيير الجيوسياسي في أكثر المناطق حساسية من العالم.
القرار الحاسم الذي اتخذه الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب، كان مبنياً على مقولة مفادها أن واشنطن فعلت كل ما تستطيع فعله في أفغانستان، ولم يعد من مبرر لإبقاء القوات الأميركية في هذا البلد، وأن على القادة الأفغان أن يتفقوا على الطريقة التي سيحكمون بها بلدهم. ولم ينسَ بايدن التذكير بأن أميركا أنفقت في باكستان في العشرين عاماً الماضية تريليون دولار، وأنه يتعين على الجيش الأفغاني التصدي لـ"طالبان"، وأن هذه المسألة لم تعد مهمة أميركية.
لكن بعد يومين من كلام بايدن، دخلت "طالبان" إلى كابول وانهار الجيش الأفغاني بالكامل، خلافاً لكل التقديرات التي خرجت بها وكالات الاستخبارات الأميركية التي كانت تتوقع صمود كابول لثلاثة أشهر على الأقل. لكن هذه التوقعات لم تكن في محلها. واضطرت أميركا إلى إجلاء رعاياها وطاقمها الدبلوماسي على عجل، بينما كان مسؤولون من الحزب الجمهوري ينتقدون قرار الإنسحاب "المتسرع" الذي اتخذه بايدن. وحتى الرئيس السابق دونالد ترامب الذي مهد للإنسحاب بتوقيعه في 29 شباط (فبراير) 2020، اتفاقاً مع "طالبان" في هذا الشأن، انتقد بايدن عندما رأى التقدم المتسارع للحركة.
وللتذكير، كان ترامب قدد حدد انتهاء الإنسحاب الأميركي في الأول من أيار (مايو) الماضي، لكن بايدن قرر في نيسان (أبريل)، إرجاءه إلى 11 أيلول (سبتمبر)، قبل أن يعود ويقرب الموعد إلى 31 آب (أغسطس) الجاري بعد انتقادات تعرض لها بسبب رمزية الموعد الأول.
ومنذ الأول من أيار (مايو)، بدأت "طالبان" الزحف على الولايات الأفغانية، متذرعة بإخلال واشنطن بموعد الإنسحاب الذي كان حدده ترامب. وتساقطت الولايات الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، على نحو وكأنه في سباق مع مفاوضات اقتسام السلطة التي كانت تجري في الدوحة بين وفدين من الحكومة وكابول وأحياناً برعاية من المبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان زالماي خليل زاد. ويبدو أن "طالبان" كانت تتخذ من المفاوضات غطاءً لتقدمها العسكري على الأرض وصولاً إلى كابول.
لا شك في أن أميركا كانت تتمنى اقتساماً للسلطة في أفغانستان، لا أن تستأثر "طالبان" بالحكم وحدها. ومع ذلك، لم يكن بايدن مستعداً لوقف عملية الانسحاب والعودة للتورط مجدداً في ما يطلق عليه "حروب بلا نهاية". ويظهر أن في خلفية إنجاز الانسحاب النهائي حتى ولو عادت "طالبان"، قراراً حاسماً من البيت الأبيض، بأن أفغانستان لم تعد منذ الآن فصاعداً، مسألة أميركية حصراً.
ومهما يكن من أمر، فإن الوضع الجيوسياسي في جنوب آسيا اليوم شبيه إلى حد كبير، بذاك الذي نشأ غداة الغزو الأميركي أواخر 2001، وشبيه كذلك بالوضع الذي تلا الخروج السوفياتي من أفغانستان عام 1989. لكن الفارق أن الحكومة التي تركها السوفيات خلفهم، تمكنت من الصمود ثلاثة أعوام أمام فصائل "المجاهدين"، في حين أن الحكومة التي أنفقت عليها واشنطن تريليون دولار، لم تصمد حتى المهلة المحددة لانسحاب آخر الجنود الأميركيين من أفغانستان. تلك مفارقة يتعين على المسؤولين الأميركيين أخذ العبر منها قبل أي أحد آخر.
وجملة القول، أن أميركا التي تضع كل تركيزها الآن على مواجهة الصين، لا تريد بؤر استنزاف أخرى في العالم، على غرار أفغانستان. وهي إذا كانت تريثت في الإنسحاب من العراق، فإنما ذلك مرده إلى رغتها في الحفاظ على عامل توازن مع النفوذ الإيراني في هذا البلد، فضلاً عن الحاجة لدعم 900 جندي أميركي منتشرين في شرق سوريا.
بايدن ومؤيدو الانسحاب بأي ثمن، يرون أن أميركا تحررت من عبء أفغانستان. لكن لا أحد يمكن الجزم بما يمكن أن يحمله المستقبل، خصوصاً إذا تكررت الأحداث ذاتها التي حدثت قبل 20 عاماً.
عن "النهار" العربي