أردوغان في القاهرة.. انعطافة تركية وثوابت السياسة الإقليمية المصرية

أردوغان في القاهرة.. انعطافة تركية وثوابت السياسة الإقليمية المصرية

أردوغان في القاهرة.. انعطافة تركية وثوابت السياسة الإقليمية المصرية


15/02/2024

سامح إسماعيل

تمثل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر بعد غياب نحو 11 عاماً، خطوة للتأكيد على ثوابت السياسة الإقليمية المصرية؛ وهي ثوابت، تجعل الأطراف الخارجية التي تتورط في تحالفات معادية وأجسام سياسية مشبوهة تؤدي لخصومة مع القاهرة نتيجة مواقف ملتوية وضد الأمن القومي لمصر.

بالتالي، انعطافة أردوغان الأخيرة إنما تأتي ضمن خطواته المستمرة منذ حوالي ثلاث سنوات لاستعادة العلاقات المصرية التركية، وتحسين شروطها.

وتعكس، مرة أخرى، زيارة أردوغان، وقوف مصر باعتبارها دولة مركزية في محيطها الإقليمي من دون اهتزاز أو رجوع في لحظة ثبات بينما أردوغان يعاود ويراجع موقفه المتسبب في الخصومة ثم القطعية لنحو أكثر من عقد.

من ثم، فإن القاهرة وأمام تنازلات متعددة لأنقرة تتمثل في تقليص وجود جماعة “الإخوان المسلمين” التي توافرت لهم ملاذات آمنة بتركيا، وتقييد حركة بعضهم، وتحديداً أنشطتهم الهجومية على سياسات مصر المحلية والإقليمية تؤكد على ذات الأهداف في عقل الدولة ومفادها رفض المكونات المشبوهة ذات المرجعيات غير الوطنية، إنهاء أي صراع من شأنه تقويض فعاليتها الجيواستراتيجية.

خصومة أردوغان وتحالفه مع "الإخوان"

وكانت الخصومة التي خاضها أردوغان ضد النظام بمصر قد حدثت إثر تحالفه مع جماعة الإخوان، وهجومه المستمر على النظام الذي جاء بتأييد شعبي في 3 تموز/ يوليو 2013 بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي وتوفير منصات تلفزيونية وصحفية مؤيدة للإخوان لشن حملات سلبية.

مع عشرية “الربيع العربي”، والتحولات الطارئة على الإقليم بعد الثورات التي أنهت حكم نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا ثم بن علي في تونس ومبارك في مصر، كان الاستقرار سريعاً حليفاً لمصر بوضع الدولة وأجهزتها ومؤسساتها التي لا ترتبط بأي نظام، وتحديداً مؤسسة الجيش بميراثها الوطني والشعبي، بينما تصطف دوماً وتاريخياً مع مطالب الشعب كما حدث في ثورة 25 كانون الثاني/ يناير ثم ما حدث في الثورة الثانية على حكم الإخوان في 30 حزيران/ يونيو 2013.

ولم يكن أردوغان يدرك أن مواقفه ضد السياسات المصرية في ليبيا، مثلاً، والتي تصدت لها بقوة عندما حدد الرئيس السيسي أو بالأحرى هدد تركيا عندما لوحت بالهجوم على جفرة وسرت بأنهما “خط أحمر”، الواقع السياسي والاجتماعي لمصر بأنها لن تسمح بتحرش في مواقعها الجيواستراتيجية أو تمس نقاطها المتاخمة للحدود والتي تقع ضمن أهدافها القومية وامتدادات أمنها الحيوي. فكان حضور السيسي وسط جنوده في قاعدة عسكرية جوية غرب مصر وبالقرب من ليبيا سوى رسالة عسكرية على جاهزيته التامة للتدخل العسكري.

كما أن هجوم أردوغان ضد مصر على خلفية دعم الإخوان إنما هو صدام مع المدنيين والقوى الاجتماعية وليس النظام. وعليه، فإن عودة أردوغان لمصر ولقاء السيسي (وليس العكس) هو دليل الصوابية السياسية والإقليمية للأول، وفعالية الدور الخارجي المصري وثوابته.

ملف القضية الفلسطينية

ويمكن القول إن هذه الزيارة ليست مفاجأة سواء على مستوى التوقيت أو السياق السياسي ودلالة كل منهما. فإخفاقات أردوغان وانحسار دوره في ملفات مهمة كالقضية الفلسطينية بعد أحداث غزة تلح على ضرورة التنسيق مع مصر التي تقطع أشواطاً مهمة في صناعة مقاربة سياسية للحل، وبناء توافقات مهمة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل وذلك برعاية الولايات المتحدة.

هذا فضلاً عن انفتاح القاهرة (بخلاف تركيا التي تتعاطى مع حركة حماس) على الأطراف كافة وقدرتها على التنقل بين كل طرف والوصول لصيغة تفاهم، بما في ذلك السلطة الفلسطينية بطبيعة الحال.

فشل الاعتمادية الكاملة على الإخوان والإسلام السياسي بالمنطقة الذي شهد زخماً مزيفاً بعد “الربيع العربي” وفقدانه حاضنته مجتمعياً بالإقليم، أحد المحفزات السياقية في هذه العودة التركية نحو القاهرة.

وفي هذه المساحة سبقت لي الإشارة بأن مشهد العلاقة بين تركيا ورعايتها للإسلام السياسي بات يمثّل عبئاً وخسارة تقوّض وضع أنقرة الجيوسياسي، ومن الواضح أن القضية الفلسطينية التي تناور طهران كما الأولى من خلال ورقة الدّين وتوظيف الحركات الإسلاموية في إطار أهدافها السياسية والإقليمية لم تعد بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كما في السابق.

فمع اندلاع “طوفان الأقصى” بدا أن دور أردوغان في الوساطة ضعيفٌ ومحدود، بينما تقوم مصر وقطر بمهام التسوية بين حركة “حماس” وإسرائيل. ثم كان استهداف قادة “حماس” في الخارج ومنها لبنان بمثابة رسالة تحذيرية لتركيا.

تراجع فرص الإسلام السياسي

ومع محاولة تركيا التقارب مع مصر مؤخراً، وهي ليست المرة الأولى لكن زيارة أردوغان الحالية لمصر يجعل هناك انفراجة جادة على ضوء المشهد الإقليمي، الأمر الذي يجعل فرص الإسلام السياسي بتركيا ضعيفة وتتلاشى بل من المتوقع أن تبدأ تضييقات عديدة كما حصل في السابق عندما بدأت أنقرة مع القاهرة ما عُرف بالمباحثات الاستكشافية قبل نحو عامين وترتّب عليها إبلاغ القنوات المحسوبة على جماعة “الإخوان المسلمين” بالحدّ من التغطية السياسية، وتناول الشأن السياسي المصري والاكتفاء بالشؤون الثقافية والاجتماعية، والتوقّف عن الهجوم والتنابذ.

ومن هنا، تسترد القاهرة بأوسع مدى نشاطها الإقليمي المركزي في الملف الفلسطيني وتعمم رؤيتها الواسعة التي تضمن السلام بعيداً عن التوظيف البراغماتي لرصيد حزب أو حاكم يحلم بـ”الخلافة” و”الزعامة” الدينية المسيسة.

وهنا كان منطقياً أن يعلن الناطق بلسان الرئاسة المصرية بأن من بين الملفات النقاشية المطروحة على جدول الزيارة هي وقف إطلاق النار بغزة وإنفاذ المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع.

كما أن أردوغان يضع في حسبانه الغاز في شرق المتوسط الأمر الذي يلح على ضرورة استعادة العلاقات بدرجة أو أخرى وإنهاء الخصومة وتخفيض الصراع، لا سيما أن القاهرة نجحت في عمل سياسات على هذا الجانب جعل تركيا منبوذة وأمام مصالح مفقودة وفرص ضائعة بينما تحترق أطرافها بهذه الثروات أو تتجمد بدلاً من أن تشعر بالدفء لحيازتها النصيب الممكن.

غاز المتوسط

وكانت مصر وإسرائيل قد نجحتا في تدشين منتدى إقليمي للغاز في شرق المتوسط بالقاهرة عام 2019، والتقى في هذا المنتدى نحو سبعة وزراء للطاقة من الأردن وإيطاليا وقبرص واليونان، وكان وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز قد اعتبر المنتدى خطوة مهمة ليس فقط “على المستوى المالي والثروات إنما له أهمية جيوسياسية ودبلوماسية”.

وهنا يقول المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إن إيجاد صيغة تفاهمية لإدارة القضايا الإشكالية (ليبيا – شرق المتوسط)، يعكس قرار ترفيع العلاقات الدبلوماسية إدراكاً من قبل البلدين لمكانتهما الإقليمية وإمكانية توظيفها من خلال التشاور وإدارة الخلافات والتوافقات وليس التنازع، واستغلال نفوذهما السياسي والاقتصادي لتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي وتبريد الساحات المشتعلة بما ينعكس بشكل إيجابي على المنطقة عموماً.

ومع ذلك يضع المستوى الحالي من العلاقات بين البلدين عدداً من القضايا الإقليمية أمام صانعي القرار لإيجاد صيغة تفاهمية ما تضمن تفهم كل طرف لمصالح الطرف الآخر، وإدارة تصوراتهما المختلفة تجاه بعض القضايا الإقليمية المهمة مثل ليبيا وشرق المتوسط.

فبالنسبة لمسألة الثروات الغازية في البحر المتوسط، فإنها المحرك الرئيسي لتركيا باتجاه استعادة العلاقات مع القاهرة، فقد أدركت أنقرة أن التهدئة هي المسار الوحيد لاختراق شبكة التعاون الإقليمية التي نشأت مما يسمى بالشراكات الثلاثية (مصر-قبرص-اليونان)، و(قبرص-اليونان-إسرائيل) وكسر الاصطفاف السياسي ضدها ضمن منظمة غاز شرق المتوسط، إذ تتيح المصالحة الفرصة أمام دخول دول حوض شرق المتوسط في مفاوضات جماعية وهي خطوة حاسمة نحو تسوية خلافاتها.

كما تطمح أنقرة بالحصول على دعم مصري لانضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط، كذلك تُبدي تركيا اهتمامها بتوقيع معاهدة ثنائية لترسيم الحدود البحرية مع مصر، وبحسب تصريحات لدبلوماسيين مصريين لصحيفة “الأهرام” المحلية، فقد كانت قضية ترسيم الحدود البحرية على طاولة المحادثات الفنية منذ الإعلان عن المباحثات رفيعة المستوى بين البلدين في أيار/ مايو 2021، لكنه لم يطرح على جدول أعمال اللقاء القصير بين السيسي وأردوغان في الدوحة.

لكن في جميع الأحوال لن تتنازل القاهرة عن إتمام أي ترسيم حدودي وفق المعاهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة، وبما لا يتعارض مع مصالح شركائها في المنطقة، فقد سبق ورفضت اقتراحاً تركياً لترسيم الحدود البحرية يدعي منحها منطقة اقتصادية أكبر من تلك التي أتاحتها اتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان، وهذا يعني أن المصالحة لن تغير معادلة التوازن القائمة في شرق المتوسط.

وإجمالاً فإن عبد الفتاح السيسي يحسب خطواته الخارجية بدقة، ولا يساوم على جملة اعتبارات استراتيجية في ذهنية العقل السياسي المصري الممتدة لعقود منذ تدشين الجمهورية الأولى عام 1952، ومتمثلة في رفض الصدام أو عسكرة السياسة الخارجية، والبحث عن المشتركات وبناء سياسة تعاونية وتوافقيه مع الدول الإقليمية، وعدم البدء في سياسة العدوان أو الدخول في خصومة، وسياسة مصر دفاعية وتحمي مرتكزاتها ومصالحها الجيواستراتيجية حتى النهاية دون تنازلات أو حتى قبول بضغوط. فإدارة الملفات الإقليمية يكون من خلال مركزية الدولة المصرية ذات الأبعاد المحورية بالمنطقة والعالم، الأمر الذي يجعل الأدوار والمسارات وازنة.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية