عبده وازن
ليس ما هو أشدّ جسامةً من مسألة الطائفية في لبنان. وقد تكون هي المسألة الرئيسة التي حالت – وتحول – دون اكتمال الفكرة اللبنانية ودون قيام لبنان وطناً بذاته، بحسب عبارة المفكر شارل مالك، الوطن الرسالة بصفته بلد الحوار والتعدد والاختلاف. بل حالت هذه المسألة دون قيام لبنان وطناً مثل سائر الأوطان، دولة وشعباً، الجميع فيه مواطنون تحت سقف قانون يحميهم ويحمي حقوقهم كلها. نخرت الطائفية هذا «الجسم» حتى أشلّته، فلم تنفع به كل الأدوية المزيفة والمساحيق، ولم تنقذه الأكاذيب «الوطنية» والشعارات والنفاقات... معظم اللبنانيين طائفيون لكنهم لا يعترفون. معظمهم متواطئون في حفلة التنكر الفولكلوري، هذه الحفلة الأهلية التي ترتفع فيها الأقنعة من كل لون ولون. ولكن لا يمكن إلا استثناء قلة تنبذ الطائفية بحق.
قبل أيام، فازت جمعية «أديان» بجائزة «نويوانو» العالمية للسلام التي تمنحها اليابان وهي توازي جائزة نوبل للسلام، ولكن في منأى عن السياسة و «التوظيف» السياسي. فهي تكافئ منظمات ومؤسسات تساهم في «التعاون ما بين الأديان» وفي السلم العالمي. وتشمل الجائزة أيضاً الأفراد الذين يكرسون أنفسهم للعمل من أجل تعزيز ثقافة السلام. وقد منحت هذه الجائزة إلى منظمات عالمية وشخصيات معروفة في حقل الحوار الديني ومنها: رئيس الأساقفة البرازيلي هيلدر كامارا، اللاهوتي العالمي هانس كونغ، الأمير الحسن بن طلال... وفازت بها أيضاً مؤسسة مؤتمر العالم الإسلامي. ومن مبررات فوز مؤسسة «أديان» اللبنانية بالجائزة كما لحظها أعضاء اللجنة، وهم خبراء عالميون في السلام، أن هذه المؤسسة تملك خلفيات دينية متعددة وتعمل على تعزيز التنوع الديني والسلام والعدالة الاجتماعية، موليةً «التربية على السلم» اهتماماً واضحاً، إضافة إلى جمعها بين القاعدة الشعبية والطبقة المتعلمة في وقت واحد، وإلى اختيارها شمولية القيم والمبادئ الما بين دينية والتضامن الروحي في «جزء من العالم معرض للصراعات والنزاعات».
تستحق مؤسسة «أديان» هذه الجائزة وهذا التكريس العالمي، وهي عبر فوزها هذا، تقدم وجهاً آخر للبنان، غير مألوف عالمياً. فهذا البلد ما زال يُعدّ أرضاً «مفخخة» وعرضةً لحرب أهلية مؤجلة، على رغم المزايا التاريخية التي يتسم بها بصفته نقطة تلاق وحوار. تستحق تجربة «أديان» الفريدة فعلاً أن تُعمم على سائر الجمعيات اللبنانية وأن تكون نموذجاً لما يسمى الحوار الديني والثقافي الحقيقي، في الداخل والخارج. منظمة سلمية، تبتعد من مضارب النظريات والشعارات وتعمل مباشرة مع الجماعات والأفراد، وباتت تضم ثلاثة آلاف عضو واستفاد من خبرتها خمسة وثلاثون ألف شخص مباشرة في بلدان عدة، علماً أن عشرة أعوام مضت على تأسيسها. تسعى «أديان» التي تضم أسماء من مختلف الطوائف، إلى تعميم مفهوم المواطنة تحت سقف الميثاقية، وإلى نشر التربية الدينية على القيم المشتركة بين المسيحية والإسلام، مركزةً على مفهوم التنوع الديني، انطلاقاً من كونه جزءاً من التراث الحضاري الوطني. وتنظر إلى السلام الداخلي في كونه عيشاً مشتركاً وحقيقياً، وتضامناً روحياً وعدلاً وكرامة في دولة المواطنة.
قبل ايام، عمد شابان لبنانيان مسلمان إلى تحطيم تمثال للسيدة مريم في كنيسة المعهد الذي يدرسان فيه، فقبض عليهما وأوقفا، وفي المحكمة أصدرت قاضية مسيحية في حقهما قراراً غير مألوف: حفظ آيات من سورة مريم وإلقاؤها شفهياً في المحكمة. طبعاً تحمس بعض اللبنانيين لهذا الحكم وأيدوه واعترض بعضهم عليه وذريعتهم أن الحكم يجب أن يكون مدنياً لا دينياً. ما يمكن استخلاصه من هذه «الجنحة» أن اللبنانيين بمعظمهم لا يجهلون فقط أديان إخوتهم الآخرين في المواطنة، بل يجهلون أيضاً أديانهم نفسها. لكنّ هذه الظاهرة أقل فداحة من المشكلة الأخرى المتمثلة في جهل اللبنانيين بعضهم أديان بعض. وما داموا يعانون هذا «الجهل»، فهم لن يجيدوا إحياء الحوار الديني الذي يطبل له ويزمر السياسيون من كل حدب وصوب، وهم أبعد الناس منه وأقلهم معرفة به وهدفهم استغلاله لغايات سياسية معروفة.
ما أحوجنا فعلاً إلى مؤسسة مثل «أديان»، لا سيما الآن في فترة التشرذم الطائفي والمذهبي. ولعل الجائزة التي فازت بها «أديان» ليست للبنان فقط أو لطوائفه بل هي أيضاً لجماعة من العلمانيين الذين يناضلون من أجل دولة المواطنة والعدل.
عن "الحياة"