الإسلام السياسي وخطورة تحويل الإنساني إلى ديني

الإسلام السياسي وخطورة تحويل الإنساني إلى ديني


06/05/2020

ظهرت عمليات الاستيعاب المعاصر للإسلام، التي بدأت القرن التاسع عشر، مع بدء التحديث في مصر وإسطنبول وتونس والهند، والتواصل مع الغرب المتقدم والمهيمن، فكرة جاذبة ومهمّة للنخب السياسية والفكرية، لأجل الإصلاح واقتباس التقدم الغربي، دون تناقض مع الثقافة السائدة، لكن هذه الجهود الإصلاحية، تحولت في القرن العشرين إلى صياغات معاصرة وتفصيلية، في السياسة والاقتصاد والتعليم والحياة، تعيد إنتاج الشريعة الإسلامية في هيئة قوانين وأنظمة حديثة، وكان ذلك مغرياً وجذاباً أيضاً، للسلطات والجماعات، وإن كان، في حقيقته وجوهره، عمليات تسويغ ديني لتطبيقات وتجارب متراكمة وراسخة في بلاد المنشأ (الغرب)، وبما أنّها تجارب متعددة ومتباينة تتراوح بين الرأسمالية والاشتراكية والتوفيق بينهما، وتفهم السياسة والاقتصاد والاجتماع، من مبادئ وفلسفات محافظة، أو ليبرالية، أو اجتماعية، فقد تعددت أيضاً، الرؤى الإسلامية، أو عمليات الأسلمة، التي اشتغلت بها جماعات الإسلام السياسي، هكذا صارت التجارب الإنسانية فكراً إسلامياً مقدساً، لا تجوز مخالفته، أو مراجعته، رغم إنسانيته وقابليته لأن يكون صواباً أو خطأ.

صارت التجارب الإنسانية فكراً إسلامياً مقدساً لا تجوز مخالفته أو مراجعته رغم إنسانيته وقابليته للصواب والخطأ

وفي هذا الصراع الإنساني، في جوهره، الذي تحول إلى صراع بين الإسلام وخصومه، رغم أنّه ليس كذلك، نشأت متوالية ثالثة للشرّ، عندما تحولت "الأسلمة" للمنظومات السياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، إلى عمليات "البديل الإسلامي،" وصارت تتشكل إلى جانب المؤسسات التقليدية للدولة والمجتمعات، مؤسسات أخرى إسلامية بديلة؛ مدارس وجامعات وبنوكٌ ومؤسساتٌ إعلاميةٌ، ومساجد، وهيئات للدعوة والتربية الإسلامية، وأنظمة وتقاليد للسياحة والعلاقات الاجتماعية، والمصالح، والعمل، والأسواق، والمجتمعات، والأسر، والبيوت، ...إلخ.

لا يمكن تجاهل الارتباط بين التطور السياسي للجماعات وظهور جماعات العنف والتكفير والكراهية

وعندما بدأت الدول والمجتمعات في عالم العرب والمسلمين، تطور أنظمتها السياسية باتجاه الديمقراطية والمشاركة والانتخابات، العامة والنقابية، ظهرت أيضاً، وبسرعة، منظومات إسلامية جديدة للديمقراطية والمشاركة، بدت هي الأخرى جاذبة لقطاع كبير في الأنظمة السياسية والمجتمعات، وقد يبدو صعباً، اليوم، الربط بين عمليات الأسلمة السياسية، ونشوء جماعات العنف والكراهية، وقد يبدو كأنّه لا علاقة بينهما، لكن لا يمكن تجاهل الارتباط بين التطور السياسي للجماعات، وظهور جماعات العنف والتكفير والكراهية؛ لأنّ جماعات الإسلام السياسي "السلمية" نفسها، أنشأت مفاهيم وأفكار المفاصلة والخروج والتكفير، أثناء عمليات الأسلمة التي شغلت بها، وهي أيضاً، بعد تكريسها، تخلت عنها لتنشئ أفكاراً جديدة، فما كان "إسلاماً" تجب الدعوة إليه والمحاربة لأجله، صار خطأً، وتعصباً يجب التخلي عنه، ولم يكن ذلك سهلاً أو متقبلاً بطبيعة الحال، هكذا فإنّ أنسنة الديني المقدس، وإن بدت تحولات ديناميكية جذابة للعمل السياسي، فقد أنشأت، في واقع الحال، التطرف والتكفير والتعصب، وصار لدينا جيل جديد غير مسبوق من الإسلام السياسي، يبيح القتل بلا تردد، ولا شعور بالذنب، ولا تفريق بين شيخٍ وطفلٍ وامرأةٍ، أو بين مسلمٍ، وغير مسلمٍ، أو بين محاربٍ، أو مسالمٍ، بل لم يتردّد في تفجير المساجد والجنازات والاحتفالات والأسواق والفنادق.

صار لدينا جيل جديد غير مسبوق من الإسلام السياسي يبيح القتل بلا تردد ولا شعور بالذنب

يمكن اليوم، أن نجد إنتاجاً فكرياً غزيراً، وتجارب سياسية عملية كثيرة، تؤيد ديمقراطية الإسلام السياسي، أو تياراً واسعاً منه، وقبوله بالمشاركة السياسية على أساس صناديق الاقتراع، لكنّها أفكار وتطبيقات تحمل تناقضاً بنيوياً عميقاً، مع ذاتها، ومع الديمقراطية نفسها، والوصول إلى نتائج صحيحة ومقبولة، لا ينتفي التلفيق فيها، ولا تعني صحة المبادئ التي أنشأتها، وأوصلت إليها...

واستهوت فكرة "الديمقراطية الإسلامية"، بالمعنى الذي يردها إلى الإسلام ليجعلها فكرة إسلامية، وأن مخالفتها تمثل مخالفة للإسلام، حماس مفكرين ونشطاء من غير الإسلاميين، إضافة، طبعاً، إلى قطاع واسع من النشطاء الإسلاميين، حاول بعضهم من المستوطنين في الغرب ترويج المشروع، بدعم أمريكي وغربي، وأقيمت ندوات ومؤتمرات كثيرة في فنادق باذخة في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي، تسوّق مقولة التوفيق بين الإسلام والديموقراطية، لكنّ طابعها الاحتفالي جاء شبيهاً بالحملات الإعلامية والإعلانية، وأسلوب العلاقات العامة، التي دأبت الشركات ومنظمات المجتمع المدني، في السنوات الأخيرة، على أتباعها فضل التمويل الغربي الفج والكريم، لدعم حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، وتعزيز الديمقراطية.

حاول بعض المستوطنين في الغرب ترويج مشروع الديمقراطية الإسلامية بدعم أمريكي وغربي

ورغم أنّ الفكر الإسلامي السياسي يحتمل مقولة "الديمقراطية الإسلامية"، ورغم ما في الفكرة من إغراء وتشجيع للمتحمسين للتحديث والإصلاح، من منطلق إسلامي أو غير إسلامي، فإنّ لها أيضاً مخاوف ومحاذير كثيرة، تجعل من المرجَّح والمفضَّل النظر إلى الإسلام، باعتباره يمثل قيمة ومرجعية عليا للقيم الكبرى الأساسية في الحكم والحياة "العدل والحرية والمصالح"، وفي الوقت نفسه، التمييز بين الإسلام، النص الديني "القرآن"، وبين التراث الإسلامي، أو الخطاب الإسلامي، أو الشريعة الإسلامية التي تتضمن الفهم والممارسة العامة، والتأصيل والتقعيد لتطبيق الإسلام على مدى القرون، بما يعني ذلك من خطأ وصواب، وتقدم وتخلف، وإبداع وقصور، وفي الوقت نفسه، اعتبار اختلاف الزمان والمكان، وتطور اللغة والفهم والنظرة العامة نحو القضايا والمسائل، وما يتعلق بذلك من تطور واختلاف في تطبيق الشريعة وفهمها.

هذا التمييز ضروري جداً، لدفع اللبس بين الثابت والمتحول؛ فخطورة ما يسمى الديمقراطية الإسلامية؛ أنّها تؤصَّل باعتبارها الإسلام، ثم تتغيّر الأحوال والاحتياجات، فيصبح ما اعتبرناه إسلاماً، في حاجة إلى مراجعة، وهو أمر جيد لولا اللبس والتبسيط، وتقديم الأفكار والمقولات على أنّها من عند الله {وما هو من عند الله}، ولا بدّ من الارتقاء بفهم الناس، والعمل على تقديم الفكر الإسلامي بعيداً عن التبسيط والمباشرة والترغيب والترهيب، لكن على أساس أنّه فكرٌ سياسيٌّ يحتاج المسلم إلى عملية جهد فكري معقّدة لأجل فهمه وتطبيقه، فمع تطور العلوم والثقافة والتخصصات، يجب أن يتطور التدين نفسه أيضاً، وأن لا يظلّ عمليةً مبسطةً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية