
تمر تونس بمرحلة فارقة في تاريخها السياسي، حيث تلوح في الأفق تحولات كبيرة قد تكتب نهاية حضور جماعة الإخوان، التي تجسدت في العقود الأخيرة من خلال حزب حركة النهضة.
هذه الحركة التي صنعت نفوذًا واسعًا بعد الثورة التونسية، تجد نفسها اليوم في مواجهة ضغوط قضائية ومجتمعية غير مسبوقة، وسط نقاش واسع حول شرعية استمرارها ومستقبلها في البلاد.
تجد هذه الأزمة امتداداتها في مطالب متكررة لحظر حركة النهضة، سواء عبر مسارات قضائية أو عبر مبادرات تشريعية، إذ يرى قطاع واسع من التونسيين أن استبعاد الإسلام السياسي نهائيًا بات شرطًا ضروريًا لضمان الاستقرار وتجنيب البلاد موجات العنف والانقسام.
السيناريوهات المستقبلية
ويجد مراقبون أن مستقبل الإخوان في تونس مرهون بسيناريوهات متباينة، يتصدرها احتمال استمرار التراكم القضائي ضد القيادات والكوادر التنظيمية، ما قد يفضي إلى حل الحزب وحظر نشاطه بشكل رسمي ونهائي. ويعتبر هذا المسار منطقيًا إذا واصل القضاء إصدار الأحكام في قضايا الإرهاب والتآمر، خصوصًا مع الدعم الشعبي الواسع لهذه الإجراءات. وفي هذا الصدد، قال المحلل السياسي المنجي الصرارفي، في تصريح سابق لموقع "العين الإخبارية"، إن “كل المؤشرات تؤكد أن الإسلام السياسي يلفظ أنفاسه الأخيرة في تونس، لكن ذلك لا يمنع من اتخاذ إجراءات قانونية واضحة بحظره وتفكيك هياكله التنظيمية”.
تمر تونس بمرحلة مفصلية قد تشهد نهاية حضور الإخوان المسلمين، بعد ضغوط قضائية ومجتمعية متزايدة تطالب بحظر حركة النهضة نهائيًا من المشهد السياسي.
في المقابل، يبرز سيناريو ثانٍ يقوم على لجوء الحركة إلى تحولات تكتيكية، مثل إعادة صياغة خطابها السياسي ومحاولة الاندماج في تحالفات جديدة تحت عناوين إصلاحية أو مدنية، بهدف تجاوز الصورة السلبية التي التصقت بها. وقد تلجأ النهضة لتخفيف شعاراتها الأيديولوجية سعياً لاستمالة قواعد شعبية فقدتها خلال الأعوام الماضية.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في انتقال الحركة نحو أساليب المقاومة المدنية والتصعيد عبر الحشد الميداني، إلا أن مراقبين يشككون في قدرة النهضة على تعبئة الشارع، في ظل الرفض المجتمعي الواسع لها بعد تجربة الحكم.
ووفق تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في يناير 2024، فإن “التعبئة الميدانية لجماعة الإخوان في تونس تواجه صعوبات هيكلية بسبب تراجع المصداقية وشدة الضغوط القضائية”.
تتعدد السيناريوهات المحتملة لمستقبل النهضة بين الحل القضائي الكامل، أو تحولات خطابية تكتيكية، أو حشد الشارع، أو الانكفاء للعمل الثقافي والرمزي.
يبقى السيناريو الرابع الأكثر اعتدالًا، وهو قبول الحركة بتقليص نفوذها والانخراط في العمل الجمعياتي والثقافي بعيدًا عن الطموحات السلطوية، لضمان البقاء القانوني والاحتفاظ بقدر من الحضور الرمزي. ويرتبط نجاح هذا السيناريو بمدى استعداد القيادات لتجاوز صراعاتها وقبول واقع جديد.
الضغوط السياسية والقضائية
ومنذ إعلان الرئيس قيس سعيّد عن التدابير الاستثنائية في 25 تموز / يوليو 2021، تسارعت الإجراءات القانونية والسياسية ضد حركة النهضة، حيث شملت غلق مقار الحزب، ومنع الاجتماعات، وملاحقة القيادات أمام القضاء بتهم تتعلق بالإرهاب والفساد والتآمر. وقد صدرت بحق قيادات بارزة أحكام بالسجن، بينما لا تزال ملفات عديدة مفتوحة، ما يعزز فرضية أن القضاء بات أداة رئيسية لضبط المشهد السياسي.
يشكك مراقبون في قدرة النهضة على التعبئة الشعبية، في ظل الرفض المجتمعي المتزايد، وتآكل مصداقيتها بعد تجربة حكم مثيرة للجدل.
كما رئاسة الحكومة شددت في أكثر من مناسبة على أن حل الحزب يقتضي صدور أحكام قضائية باتة ونهائية، ما جعل الملفات القضائية تكتسب أهمية استراتيجية في تقرير مصير الحركة. وفي هذا السياق، صرّح النائب السابق بمجلس نواب الشعب الصحبي بن فرج، في تصريحات نقلتها "العين الإخبارية"، بأن “حظر حركة النهضة لم يعد مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة قانونية لحماية الدولة من مخاطر التسلل الأيديولوجي ومحاولات التآمر على الأمن القومي”.
وتتزامن هذه الحملة مع غضب شعبي واسع من الأداء السابق للنهضة، حيث يعتبر جزء كبير من التونسيين أن الإسلام السياسي ساهم في الأزمات الاقتصادية والانقسامات المجتمعية. وقد أسهمت هذه القناعة في خلق تأييد قوي للإجراءات القضائية.
كما أكد بن فرج أن “القضاء اليوم أمام مسؤولية تاريخية لإغلاق هذا الملف وتحصين المسار الإصلاحي”، في إشارة إلى أن الحسم القضائي في ملفات الإخوان سيحمل وزنًا سياسيًا حاسمًا للمرحلة المقبلة.
التحديات الداخلية التي تواجه الإخوان
إلى جانب الضغوط القضائية، تعيش حركة النهضة صراعات داخلية معقدة تفقدها التماسك، حيث تتواجه تيارات ترى ضرورة مراجعة النهج السياسي وتبني خطاب جديد أقل صدامية، مع تيارات أخرى ما تزال تراهن على المواجهة السياسية والإعلامية والعودة للشارع.
الملفات القضائية المفتوحة ضد النهضة، خاصة المتعلقة بالإرهاب والفساد، باتت أداة مركزية لإعادة تشكيل المشهد السياسي وضبط موازين القوى.
هذه الخلافات خلقت حالة من الارتباك التنظيمي، جعلت الحركة عاجزة عن تقديم استراتيجية واضحة، أو حتى صياغة خطاب موحد يلتف حوله الأعضاء والأنصار. وقد انعكست الأزمة أيضًا على مستوى القواعد، إذ فقدت النهضة دعم قطاعات واسعة من الناخبين، بعدما حمّلها كثيرون مسؤولية الأزمات.
إضافة إلى ذلك، يعاني التنظيم من أزمات مالية خانقة بعد تجميد الحسابات البنكية ومراقبة مصادر التمويل، وقد حد هذا الوضع من قدرته على تمويل الحملات الدعائية وتنظيم أنشطة اجتماعية وخيرية كانت تمثل أدوات النفوذ التاريخي للحركة.
بعد عقود من النشاط، تواجه النهضة نهاية محتملة لمسار طويل بدأ في السبعينيات، وبلغ ذروته بعد 2011، ثم تآكل مع الزمن والإخفاقات السياسية.
كما طالبت منظمات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيانات مطلع 2024، بحظر النهضة وتجريم خطابها التحريضي، معتبرة أن ذلك “شرط أساسي لإعادة بناء الثقة المجتمعية وتحصين الانتقال الديمقراطي”. هذه المواقف المجتمعية تضاعف عزلة الحركة وتعمق أزمة الشرعية.
الدعم الإقليمي والدولي
رغم هذه التحديات، لا يزال للإخوان في تونس قنوات دعم خارجي، خصوصًا مع قطر وتركيا اللتين تعتبران الحركة امتدادًا لمشروع الإسلام السياسي الإقليمي، إذ وفرت هذه العلاقات غطاءً إعلاميًا وماليًا ساعد النهضة على مقاومة الضغوط مؤقتًا.
كما تلجأ الحركة إلى توظيف المنظمات الحقوقية والمنصات الدولية للادعاء بأنها ضحية تراجع الديمقراطية. فالمنصف المرزوقي، الحليف التقليدي للإخوان، قدم في آذار / مارس 2024 شكاوى إلى مؤسسات أممية ضد قضاة تونسيين، وهو ما اعتبره محللون محاولة للتأثير على مسار العدالة. غير أن هذه المناورات تجد معارضة صلبة داخليًا.
الحركة تواجه عزلة متزايدة، في ظل مطالب مجتمعية لحظرها وتجريم خطابها، ضمن مساعٍ لإعادة بناء الثقة وتحصين الانتقال الديمقراطي في تونس.
ومع ذلك، تؤكد تقارير حديثة على تراجع الحماس الدولي لدعم الإسلام السياسي في تونس، حيث أشار تقرير مركز المستقبل إلى أن “المانحين الدوليين يضعون مكافحة التطرف شرطًا أساسيًا لاستمرار التعاون”، ما يجعل الدعم الخارجي اليوم أقل فاعلية في إعادة تمكين الحركة.
هذا التراجع النسبي في المساندة الخارجية يقوّي موقف الدولة التونسية ويمنح القضاء هامشًا أوسع للتحرك، ويجبر النهضة على التفكير بواقعية أكبر حول مستقبلها.
هل ينتهي مسار الإسلام السياسي في تونس؟
هذا وتعود بدايات الإخوان في تونس إلى سبعينيات القرن العشرين مع تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي، مستلهمة تجربة الإخوان الأم في مصر. لكنها لم تبلغ نفوذًا حقيقيًا إلا بعد 2011، حين ظهرت حركة النهضة بوصفها القوة السياسية الكبرى في انتخابات المجلس التأسيسي.
رغم دعم خارجي من تركيا وقطر، يلاحظ تراجع الحماس الدولي لحماية الإسلام السياسي، مع اشتراط المانحين مكافحة التطرف لاستمرار التعاون.
وقد حكمت النهضة تونس ضمن تحالف الترويكا بين 2011 و2014، وهي فترة اتسمت بتوترات سياسية واتهامات بالفساد وتورط بعض القيادات في ملفات التسفير والاغتيالات. ومع انتخابات 2014 بدأت شعبية الحركة بالتراجع تدريجيًا.
ثم جاءت إجراءات 25 يوليو 2021 التي قلبت المشهد، حيث أغلق البرلمان وبدأت حملة قضائية غير مسبوقة استهدفت قيادات النهضة. واليوم، بعد أكثر من عقد من الصعود، تواجه الجماعة تحديات هي الأخطر في تاريخها، وتكاد تجد نفسها أمام نهاية مسار سياسي امتد عقودًا.