
يمكن القول إنّ هناك استدارة أوروبية لمكافحة الإسلاموية، وإعادة النظر من جديد في أوضاعها، وعلى رأسها جماعة الإخوان، خاصة مع تزايد العمليات الإرهابية منذ عام 2020 في فرنسا تحديداً. فالجماعة الأم للإسلام السياسي تشكل جملة ضغوط أمنية وسياسية ومجتمعية وقانونية تشريعية على أوروبا. ومن ثم، برزت الحاجة الملحة إلى تصفية نفوذهم المتغلغل من خلال شبكات اجتماعية واقتصادية ومالية ضخمة، بعضها في هيئات مدارس ومراكز ثقافية دعوية ومساجد، والبعض الآخر في هيئة دور تنظيمي حركي خفي تقوم به عناصر التنظيم المنتشرة بين الجالية العربية المسلمة.
توصيات صارمة في فرنسا
يعيش في فرنسا نحو (6) ملايين مسلم، وهي النسبة الكبرى في أوروبا، بل إنّ الإسلام يأتي في المرتبة الثانية بعد الكاثوليكيةلم تكن حرب غزة التي اندلعت إثر هجمات حماس المباغتة على إسرائيل، في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023، سوى لحظة انكشاف قصوى لأثر تهديدات الإسلام السياسي بالغرب، لا سيّما مع الخطابات التحريضية التي عمدت إلى الترويج لها وتعميمها في أوساط الجاليات العربية والمسلمة، وقد طوقت الحواضن الإسلاموية عدة عواصم أوروبية بالتظاهرات والاحتجاجات التي اصطفت فيها مع نظام الملالي في إيران، ووكلائه، بشقيه السنّي والشيعي، بداية من حزب الله في لبنان، مروراً بالحوثي في اليمن، حتى حماس في غزة. فضلاً عن ممارسة الإرهاب الرقمي من خلال تحويل وسائط التواصل الاجتماعي إلى منصة متخمة بالعنف والإرهاب من حيث الانتشار. هذه العوامل شكلت بيئة ديموغرافية عدها الإخوان فرصة بهدف الاستثمار فيها، وتحويل أفرادها إلى حوامل إيديولوجية في إطار مشروعهم الانعزالي، ليس فقط لمواجهة المجتمعات الأوروبية، من الناحية القيمية والسياسية، وإنّما لبناء قاعدة حركية ضمن مشروع "أستاذية العالم" ومفهوم "الخلافة" المتخيل، الأمر الذي ينعكس في تهديدات للغرب كما برز من خلال تضاعف العمليات الإرهابية، وتفشي ظاهرة الـ "ذئاب المنفردة"، والالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق.
جماعة الإخوان تستغل الجاليات المسلمة في أوروبا لبناء أنظمة موازية تعيد تعريف الهوية والانتماء والمواطنة خارج قيم الجمهورية.
مؤخراً، تزامن مع صدور تقرير حكومي بفرنسا وصف الإخوان بالضلوع في أنشطة تهدف إلى إعادة أسلمة المجتمع، وتقويض قيم الجمهورية، انبعاث حالة الاستقطاب من جديد، خاصة مع توصيات التقرير ببدء إجراءات تشريعية عاجلة تشمل تجميد التمويل ومراقبة الجمعيات الدينية المرتبطة بها. وفي استجابة مباشرة لذلك جُمّدت أصول المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، أحد أبرز المؤسسات المتهمة بالارتباط بالجماعة، وشرعت السلطات في إجراءات لحل الجمعية المشرفة عليه، بحسب ما ذكر موقع (سكاي نيوز).
وفي السياق، قالت دراسة بحثية لمركز تريندز للبحوث والاستشارات: إنّ جماعة الإخوان تشكل قوة منظمة تهدف لإعادة تشكيل بعض مكونات المجتمع الفرنسي عبر تغلغل نفوذها الإيديولوجي المستمر وطويل الأمد، وكذا شبكات موازية من المؤسسات الاجتماعية والدينية والتعليمية. وألمحت الدراسة المعنونة بـ "الإخوان المسلمون في فرنسا: الهياكل، النفوذ، واستجابة الدولة"، أعدتها الباحثة شمسة القبيسي، إلى أنّ الجماعة تعتمد استراتيجية دقيقة تقوم على العمل داخل الأطر القانونية، مع توظيف المؤسسات الرسمية والدينية لتوسيع حضورها، وتعزيز رؤيتها المجتمعية القائمة على أولوية الشريعة على القيم الجمهورية العلمانية.
الدراسة الفرنسية كشفت أربعة محاور للنفوذ الإخواني: المساجد، والمؤسسات التعليمية، والتأثير الرقمي، والشبكات المجتمعية، جميعها تُسهم في خلق وعي بديل.
اللافت أنّ الدراسة تزامن صدورها في أعقاب التقرير الحكومي الفرنسي الذي تم رفع السرّية عنه في أيار (مايو) 2025، وقالت إنّ "الجماعة تسلك نهجاً مزدوجاً: أحدهما وجه علني يتمثل في المساجد والمدارس والجمعيات المجتمعية، والوجه الآخر خفي يُدار عبر قيادة داخلية تحدد التوجه الإيديولوجي. هذا التوجه يهدف إلى خلق "أنظمة إسلامية موازية" تعيد تعريف مفاهيم الهوية والانتماء والمواطنة وفقاً لقيم تدّعي أنّها دينية قد تتعارض مع مبادئ الجمهورية الفرنسية". وكشفت عن (4) محاور رئيسة للنفوذ الإخواني في فرنسا؛ تتمثل في البنية التحتية الدينية "المساجد"، والمؤسسات التعليمية، والتأثير الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والشبكات المجتمعية المحلية. موضحة أنّ هذه المحاور تُستخدم لتشكيل الوعي الديني والسلوك الاجتماعي، بما يعزز نموذجاً حياتياً موازياً للمجتمع المدني الفرنسي.
كما أبرزت الدراسة الدور المحوري للتمويل الخارجي في تمكين الجماعة من بناء مؤسساتها في فرنسا، محذرة من أنّ هذه الموارد ـ رغم قانونيتها الظاهرية ـ تُسهم في تكوين شبكات مؤسسية موالية إيديولوجياً، وتعمل على نشر خطاب ديني مؤدلج قد لا ينسجم مع قيم الاندماج والانفتاح.
تحوّلت حواضن الإسلاموية إلى بيئات خصبة للذئاب المنفردة والتجنيد الإيديولوجي، مستفيدة من الخطاب الرمزي المعادي للغرب.
وتُعدّ الاستدارة الأوروبية نحو تقويض جماعات الإسلام السياسي لحظةً مفصلية في تطوّر العلاقة بين الغرب وامتداداته الإسلامية الداخلية، وهي استدارة لا يمكن قراءتها من خلال منطق سياسي ظرفي فحسب، وفق الباحث التونسي في علم الاجتماع، الدكتور إلياس الهمامي، بل ينبغي فهمها في إطار تحوّل معرفي وأمني عميق في تمثّل الإسلام داخل المجال الأوروبي. فمنذ الربيع العربي انكشفت تناقضات الإسلام السياسي، ليس بفعل فشله في إدارة الحكم فقط، بل أيضاً من خلال تفكك خطابه الأسطوري، الذي لطالما احتمى بمظلومية استعمارية، واستثمر في فكرة "المقاومة الرمزية" ضد الدولة القومية الحديثة.
ويوضح إلياس لـ (حفريات) أنّه "قد تبيّن، من خلال تجربة الإسلاميين في الحكم، وخصوصاً في تونس، أنّ ما رُوّج له كبديل ديمقراطي ذي خصوصية إسلامية، لم يكن سوى إعادة تدوير لأطر براغماتية قديمة، تسعى للتموضع داخل منظومة الدولة الحديثة دون مساءلة منطقها البنيوي أو تجاوزها، بينما تحافظ على خطاب هوياتي ثقافوي، يختزل الدين في رموز وشعارات، ويحوّله إلى رأسمال سياسي قابل للتوظيف في الصراعات الاجتماعية، لا في إنتاج شرعية سياسية عميقة".
تحرر الخطاب الأوروبي من عقدة الذنب
يقول إلياس: هذا الانكشاف التدريجي أفضى إلى "تحرر الخطاب الأوروبي من عقدة الذنب الاستعماري، وسمح بإعادة تعريف العلاقة مع الإسلام السياسي، لا بصفته فاعلاً دينياً ضمن المجال العمومي، بل بوصفه حقلاً رمزياً مقاوماً ينبغي تفكيكه وتحجيمه، خشية أن يتحول إلى بديل سردي للهوية الغربية. فالمسألة، في عمقها، لم تعد أمنية بحتة، بل أصبحت وجودية، ثقافية، وهوياتية؛ إذ بات الإسلام السياسي يُنظر إليه، لا كإيديولوجيا فقط، بل كحركة مضادة للحداثة الغربية، تنبض داخل الجسد الأوروبي ذاته، وتهدد نموذجه القيمي والسيادي".
يخوض الإسلام السياسي معركة رمزية لإعادة تموضع الـ"نحن والآخر"، ساعيًا لاحتكار مفهوم المقاومة والشرعية في الوعي المسلم الأوروبي.
في هذا السياق، مثّلت حرب غزة الأخيرة لحظة كشف جديدة؛ إذ لم يتحرك الإسلام السياسي خلالها كفاعل تضامن إنساني فحسب، بل بوصفه منتجاً لـ "معانٍ ثورية عابرة للحدود"، تسعى إلى إعادة تشكيل الخيال الجمعي للمجتمعات المسلمة في الغرب، من خلال استدعاء سرديات المظلومية، وإعادة تموضُع الـ "نحن والآخر". وهنا يتجاوز التهديد بُعده الأمني، ليغدو خطاً من خطوط الصراع الرمزي على احتكار تعريف "العدل" و"الشرعية"، وهي مفاتيح تؤسس للدولة الحديثة الأوروبية ذاتها، بحسب الباحث التونسي في علم الاجتماع. وقد جاءت الاستجابة الأوروبية على شكل استراتيجية تجفيف مزدوجة: قانونية ورمزية. من جهة، تم استهداف البنى المؤسسية لهذه الجماعات عبر الرقابة، والتضييق المالي، وتشديد شروط الفعل الديني، ومن جهة أخرى سُحبت منها الشرعية الخطابية، وأُعيد تعريف "الإسلام المقبول" داخل أوروبا: إسلام منزوع الطابع السياسي، منزوع الذاكرة، منزوع المشروع، لا يتجاوز الحيز الخاص، ويخضع لرقابة الدولة ومحدداتها.
أزمة الإسلام السياسي في أوروبا ليست أمنية فقط، بل وجودية وهوياتية، تهدد سردية الدولة الأوروبية الحديثة في تعريف العدل والشرعية.
إنّ الإسلام السياسي، في هذا السياق، لا يُحارَب فقط بسبب شبهة التطرف، بل لأنّه يُعيد طرح سؤال السيادة خارج الأطر الليبرالية المعيارية. فعندما يطالب بشراكة ندية مع الدولة، أو يقترح منظومة قيم مغايرة، فإنّه يوقظ أشباح التعددية ما بعد الحداثية التي تخشاها الدول الأوروبية، خصوصًا بعد صدمة 11 أيلول (سبتمبر). ومن هنا، فإنّ الاستدارة الأوروبية نحو ضرب الإسلام السياسي لا تعني محاربة الإسلام كدين، بل تعني إعادة ترسيم الحدود بين الدين والسياسة، وإعادة ضبط المجال العمومي، وفقاً لنسق قيمي أحادي، يُقصي أيّ مشروع ديني يهدد بتعدد المعنى. فالنهاية التي تُرسم للإسلام السياسي اليوم ليست حلّه التنظيمي فحسب، بل تجميده في صورة "الآخر المفارق"، العالق في هوامش التاريخ، غير القادر على الاندماج أو التأثير. وهي بذلك نهاية رمزية أشد فتكاً من السجن أو النفي، لأنّها تُنهي الإسلام السياسي كنموذج سردي، وكإمكانية في الوعي، وليس فقط كتنظيم في الواقع.