
بلال المزوغي
يعتبر البحث في الشخصيات من المسائل الهامّة لفهم المشاريع الفكرية والاجتماعية للأعلام التي قدّمت إضافة إلى الفكر والمجتمع. فاستحضار ما قدّمته هذه الأعلام من أفكار يجعلها حاضرة في الذاكرة والأذهان ويضمن استمراريتها وتداولها بين الأجيال، وبالتالي تجاوز نسيانها في الزمن وضمان بقائها. كما أنّ الاهتمام بها يجعلنا نعيد قراءة مؤلّفاتها وتحليل الأفكار والمواضيع التي تناولتها بالعودة إلى المدوّنة الفكرية التي تركتها من كتب، مقالات، نصوص…إلخ، إضافة إلى البحث في تجاربها الاجتماعية واستعادة أفكارها الحيّة التي يزال فيها ما يعين على إنارة غموض الحاضر واستشراف المستقبل.
وفي هذا السياق يهتمّ مقالنا بشخصيّة الطاهر الحدّاد (1899 – 1935)، باعتباره شخصية تونسية لها مميّزات متعدّدة الأبعاد والملامح نظرا لما قدّمته من أفكار ومشاريع في المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي.
يعتبر الطاهر الحدّاد نموذجا “للإنسان المتعدّد” بعبارة عالم الاجتماع الفرنسي برنارد لاهير حيث إنّه من الشخصيّات التي تتميّز بفكرها الشمولي والموسوعي ويتجلّى ذلك من خلال مؤلّفاته وكتبه ومقالاته. كما أنّ شخصية الطاهر الحداد تعتبر نموذجا للفكر التجديدي والمختلف التي تستحق المزيد من الفهم والتمعّن، فقد اختار الحدّاد منهج حياة منفردة وطريقة تفكير مغايرة لما هو موجود. فهو مثال للاختلاف والفرادة باعتباره يفكر خارج الصندوق والمعايير القيمية والاجتماعية التي وضعها المجتمع. فالحدّاد استطاع أن يستبق عصره من خلال ما قدّمه من أفكار إصلاحية ومشاريع تبلورت في المستقبل بعد استقلال البلاد التونسية.
الحداد وقضية المرأة
يعتبر الطاهر الحدّاد في المجتمع التونسي علامة فارقة ويُلقّب بمحرّر المرأة التونسية، حيث قدّم مشروعا فكريا متكاملا تبلور بالخصوص في مؤلّفه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الصادر سنة 1930، حيث وصف المرأة بكونها “نصف الإنسان وشطر الأمّة نوعا وعددا وقوة في الإنتاج من عامّة وجوهه، فإذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط فإنّما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا. ورضائنا بما نحن فيه من هوان وسقوط. وإذا كنّا نحبّها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلّا صورة من حبّنا واحترامنا لأنفسنا. وسعينا في تكميل ذاتنا”.
طرح الحدّاد قضايا متعدّدة مرتبطة بالمرأة، إذ نقد بشدّة الفكر الذكوري المهيمن بالمجتمع التونسي بذلك الوقت، والذي يحتقر المرأة ويجعلها في مرتبة دونيّة مقارنة بالرجل ويقتصر دورها فقط على شؤون المنزل. وبالتّالي فإنّ السبب الرئيسي الذي يكمن وراء طرح الحدّاد لقضيّة المرأة هو إيمانه بدورها الأساسي في المجتمع وبضرورة تثمين قيمتها في المجتمع حيث يعتبر الحدّاد المرأة هي أمّ الإنسان.
ناقش الحدّاد العديد من القضايا المرتبطة بالمرأة مثل حقّها في التعليم، حيث قدّم موقفا واضحا في هذه المسألة، ويقول في مؤلّفه بكون “التعليم حاجة الإنسان الكبرى في الحياة. ويجب أن يكون شائعا بين جميع أفراده بقدر ما لهم من المواهب والاستعداد للانتفاع به. فبقدر ما امتازت الحياة الإنسانية بالفكر بقدر ما تشعّبت وجوهها وزادت حاجتها بفعل التطوّر المطرد. ومن هنا لزم أن يتعاون الرجال والنساء جميعًا على إنارة هذه السّبل وسدّ تلك الحاجات لتبتسم لهم الحياة لا أن يبقى نصف الإنسان جاهلا عاطلا غبيا يعيش تحت إمرة وسيادة نصفه الآخر. ولئن أمكن للعصور الخالية بما فيها من خمول أن تتحمّل هذه الحياة الهازلة فإنّ العصور الحاضرة قد ألهبت بنار يقظتها الأرواح الخامدة وحرّكت جميع الأمم التي مازال حيّا في أعماقها حب الحياة إلى العروج بالمرأة في مراقي العرفان لتقوم بواجبها في عمل الحياة المنتج لخير الإنسانية جمعاء”.
لقد دافع عن حق المرأة في التعليم وانفتاحها على العلوم الرياضية والطبيعية كي يتثقّف عقلها وتكتسب معارف تصقل بها شخصيّتها، فالتعليم يحقق قدرتها على فهم الحياة. كما طرح الحدّاد حقّها في تعلّم الرياضة البدنية، حيث اعتبرها ضروريّة لنموّ عقلها وكمال نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، انتقد الحدّاد الأفكار النمطية السائدة بتلك الفترة والتي تحتقر المرأة، فمثلا أبدى رفضه لفكرة تعدّد الزوجات واعتبرها تقليلا من شأنها. كما طرح فكرة حرية الحياة للمرأة وحقّها في التزيّن وأن تستمتع بطيب العيش ومباهج الحياة في لهو ومرح نزيه كما يكون ذلك للرجل سواء.
وتعتبر هذه الأفكار التي طرحها الحدّاد “صادمة” في تلك الفترة فهي تناقش قضايا تُصنّف من المحظورات والممنوعات ويرفضها أغلب المجتمع التونسي. حيث تجرّأ في سنّ مبكّرة على الخوض في المسكوت عنه وخصوصا في قضيتين أساسيتين، الأولى موقفه من الحجاب حيث يقول إنّ “الحجاب قد منع المرأة من التعلّم والقدرة على الاقتصاد المنزلي وإدارة شؤون المعاش اليومي ويكفي أن نتصوّر عجزها عن الحساب من الواحد إلى ما فوق العشرة….”، فالحجاب بالنسبة إلى الحدّاد يعيق من انفتاح واندماج المرأة في الحياة العامة والمهنية ويجعلها في عزلة غير قادرة على معرفة العديد من الأمور الضرورية في الحياة.
أمّا القضية الثانية، فموقفه من مسألة الميراث، حيث يعتبر الحدّاد أنّ “حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التامّة وروح الحقّ الأعلى”.
مشروع تنويري
استلهم الطاهر الحدّاد أفكاره ومشاريعه التنويرية من روح الإسلام، حيث يعتمد قراءة نقديّة للموروث الإسلامي مختلفة عن القراءات الأخرى، كما يفسّر العديد من الآيات باعتماد العقل والسياقات التاريخية والاجتماعية التي وجدت فيها. فالحدّاد كان مختلفا في نظرته للعديد من المسائل مقارنة بغيره من الزيتونيّين الذين يعتبرون التجديد بمثابة الخروج عن الملّة، كما أنّ رفضهم للاجتهاد في تأويل النصوص الدينية يندرج ضمن فرض القراءة الواحدة والرسمية التي تمثّلها في تلك الفترة جامعة الزيتونة.
يندرج فكر الطاهر الحدّاد ضمن مشروع تنويري ظهرت ملامحه منذ 1899 عندما أصدر المفكّر المصري قاسم أمين كتابه “تحرير المرأة”، حيث ناقش في مؤلّفه العديد من المسائل المتعلّقة بحقوق المرأة. ويوجد إجماع على أنّ هنالك تشابها بين ما قدّمه قاسم أمين سنة 1899 وبين ما كتبه الحدّاد سنة 1930، وقد يلقّب البعض الطاهر الحدّاد “بقاسم أمين تونس” حيث ناقش كلاهما مسائل مرتبطة بالمرأة مثل علاقتها بالعمل، التعليم، الحجاب…إلخ.
تندرج أفكار الطاهر الحدّاد ضمن جدل فكري منذ القدم بين ثنائيّات متناقضة على غرار النقل والعقل، الماضوية والتجديد، الظلاميّة والتنوير وغير ذلك. فكلّ مشروع فكري جديد يجد معارضة ونقدا من الذين لا يريدون التغيير ويرفضون كل من يفكّر خارج الصندوق وخارج المعايير المجتمعية والقيميّة، وبالتالي فكتاب الحدّاد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” أحدث جدلا في المجتمع التونسي ووجدت حملات لشيطنة فكر الحدّاد ومهاجمته وإقصائه خصوصا من قبل مشائخ الزيتونة المحافظين الذي ضيّقوا الخناق عليه واتهموه بالكفر والخروج عن الملّة. كما ظهرت العديد من المقالات والكتب التي جاءت كردّ وتقزيم لفكر الحدّاد ونذكر منها كتاب “الحداد على امرأة الحدّاد” لمؤلفه محمد الصالح بن مراد.
مصلح اجتماعي
يتميّز فكر الطاهر الحدّاد بكونه شموليا، حيث ناقش قضايا تبدو في تلك الفترة من الممنوعات، كما أبدى رأيه في العديد من القضايا الوطنية مثل موقفه من التجنيس، المرأة، الإصلاح الديني، مناهج التعليم الزيتوني…إلخ. فهو مثقّف ملتزم بالخوض في القضايا الكبرى التي يعيشها المجتمع، كما أراد أن يكون فاعلا في محيطه وبيئته، وبالتّالي فقد طرح مسائل جديدة ومختلفة ساهمت في ظهور فكر نقدي وحركة تنويرية تقوم على العقلانية وإعادة قراءة الدين من منظور اجتماعي وتاريخي.
ورغم كونه عاش ظروفا صعبة حيث تم إقصاؤه واستبعاده من الزيتونة وسحب شهادته، إضافة إلى التنكيل به واتهامه بالزندقة والكفر، إلا أنّه بقي حاملا لمشروعه ومدافعا عن أفكاره بكلّ جرأة.
يندرج فكر الطاهر الحدّاد ضمن مشروع إصلاحي بدأت ملامحه منذ ظهور النخبة الإصلاحية التي نادت بضرورة إصلاح أوضاع المجتمع التونسي وذلك منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونذكر منها خيرالدين التونسي (1822 – 1889) ومحمد بيرم الخامس (1840 – 1889) وأحمد بن أبي الضّياف (1800 – 1874). “فهذه النخبة دعت إلى الإصلاح السياسي معتبرة أنّ تمدّن الأمّة التونسية وتحسّن أوضاعها مرتبط بإرادة الحاكم، إذ تفتّح وعي هذه النخبة على الأوضاع الأوروباوية وأدركوا تقدّم المجتمعات الغربية وفهموا أنّ السرّ في تقدّم تلك الأمم هو ما تحظى به من ديمقراطية وعدل ومساواة بين جميع أفراد الأمّة الواحدة وخير من عبّر عن هذه الفكرة هو خيرالدين التونسي عندما أوضح المقصد من تأليف كتابه ‘أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك’ سنة 1868“.
ظهر المشروع الإصلاحي للطاهر الحدّاد في أغلب مؤلّفاته، ويعتبر كتاب “التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة” من أهمّ المراجع التي تعبّر عن مشروع الإصلاح الديني الذي طرحه الحدّاد، إذ يعتبر أنّ إصلاح التعليم الزيتوني مسألة حياة أو موت، إذ يقول “هذه المسألة يجب أن يعتبرها التونسيون مسألة موت أو حياة إذا أدركنا أنّ هذا المعهد هو اليوم المعهد الوحيد الذي يمكننا أن نحمي به جوهرنا من الاندثار بإحياء لغتنا وآدابنا الصحيحة مع درس علوم حياتنا فيه بلساننا”.
ففي تلك الفترة كانت الزيتونة تحظى بقيمة معرفية ورمزية إذ ينضوي تحتها عدد كبير من المتعلّمين الذين سيمسكون بدواليب الدولة إثر تخرّجهم، إضافة إلى كونها السلطة الدينية الرسميّة للبلاد التونسية، وبالتّالي فإنّ الحدّاد يرى أنّ حركة الإصلاح يجب أن تبدأ من الأصل أي تغيير مناهج التعليم المعتمدة وانفتاح العقول على المعارف والعلوم.
يمكن أن نعتبر الحداد مصلحا دينيا واجتماعيا حيث قدّم مشروعا متكاملا للمجتمع التونسي، وكان لديه الهاجس بالتغيير وبضرورة استيعاب التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها بقية المجتمعات بالعالم. فقد كان يؤمن “بتسريع” التاريخ أي ضرورة فهم تطوّر الزمن وما يحدث من تغيّرات في مجتمعات أخرى والالتحاق بركب الحضارة من خلال تجاوز الماضوية والقوى التي تجذب إلى الوراء.
بفضل تكوينه واطّلاعه على العلوم والمعارف الأجنبية استطاع أن يطرح فكرا نقديا يقوم على طرح البدائل بالحجج ومناقشة الأفكار التقليدية باعتماد المعرفة والإقناع. وهو ما كان يرفضه أغلب المتشدّدين الذين يعتبرونه تمرّدا وضربا لمصالحهم وخاصّة الزيتونيّين الذين هاجموه وسلّطوا عليه كلّ أشكال الإقصاء والرفض، ليجد نفسه وحيدا ضد تيّارات تمتلك السلطة والمال والوجاهة الاجتماعية.
وقضّى الحداد بقيه أيامه معزولا ومنبوذا عن المجتمع، يُرمى بالحجارة في الشّارع، ويُضرب ويُهان بقسوة، وحتّى حين رحل عن الدنيا بعد أشهر من ذلك، بسبب داء القلب ومرض الصّدر وبسبب العذاب النّفسي أيضا، لم يسِر في جنازته إلاّ عدد قليل من الأهل والأصدقاء. وقد رثاه صديقه الأديب الطاهر العبيدي، بعد ما وقف على قبره في قصيدة قال فيها:
أخي إن سامك السفهاء سوءا
وكان زمانكم نذلا كنودا
فلا تحزن فذا التاريخ عدل
سيمنح اسمكم منه الخلودا.
العرب