
أجرى الحوار: رامي شفيق
وصف الناشط الليبي عبد الله الغرياني الوضع في بلاده بالعبث، مؤكداً أنّه لا يبشر بالخير. وندد بحالة الانقسام بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
وتابع صاحب كتاب "اغتيال على طريق الحرية " في حواره مع (حفريات) قائلاً: "ليبيا لديها حكومتان وبرلمانان، ومن الصعوبة بمكان الحديث عن انتخابات حقيقية ونظام سياسي مستقر دون توافق حقيقي بين تلك المؤسسات والعمل على توحيدها."
وشدد الغرياني على أنّ تنظيمات الإسلام السياسي في بلاده مسؤولة بشكل رئيسي عن حالة الانقسام في ليبيا. وأشار إلى أنّ ملامح التحالف في الغرب بين حكومة الدبيبة ودار الإفتاء بقيادة الصادق الغرياني أمر خطير جداً، وله تداعيات على واقع البلاد ومستقبلها. وأوضح أنّه من الصعب تصور مستقبل ليبيا دون تجاوز هذا الواقع بمؤسساته وإنتاج سلطة جديدة قادرة على مواجهة هذا التيار الذي أصبح يُعرف بـ "تيار التأزيم".
وهنا نص الحوار:
كيف تقيّم الوضع السياسي الحالي في ليبيا، وما أبرز التحديات التي تواجه البلاد في هذه المرحلة؟
ـ الوضع السياسي الحالي لا يبشر بالخير، فحالة الانقسام السياسي بين السلطات التشريعية والتنفيذية، التي تجاوزت مددها القانونية، تؤكد أنّ العبث هو السائد. وأيّ توافق لا يؤدي إلى إنهاء هذه السلطات وتجديد الشرعية عبر انتخابات حرة ونزيهة، لن يحقق الاستقرار السياسي. وبهذا يبقى مصير ليبيا مرتهناً بيد سلطات عبثية منتفعة من الفساد المالي. لدينا حكومتان وبرلمانان: البرلمان الذي يدخل عامه الحادي عشر، والمؤتمر الوطني الاستشاري الذي يدخل عامه الثالث عشر، بينما تواصل الحكومة في طرابلس استنزاف أموال الخزينة الليبية، وفي الشرق يتم الاعتماد على الاقتراض. هذا المشهد المرعب يجب أن ينتهي في أسرع وقت.
في عام 2023 وصفتَ تنظيمات الإسلام السياسي المتحالفة مع مكونات السلطة في الغرب بأنّها "عصابة استولت على السلطة" و"انتهكت الشرعية". ما الأسباب التي دفعتك إلى هذا الوصف، وكيف ترى دورها في المشهد السياسي الحالي؟
ـ الإسلام السياسي، بجميع فروعه السياسية مثل حزب الإخوان المسلمين وتيار دار الإفتاء، ساهم في تعميق حالة الانقسام منذ خلقهم لأجسام موازية انبثقت عن اتفاق الصخيرات، حين تم تجديد المؤتمر الوطني في شكله الحالي تحت اسم "المجلس الأعلى للدولة". من هنا وجدت هذه التنظيمات نافذة تتحكم من خلالها في كل سلطة تتولى قيادة البلاد. فمنذ تشكيل لجنة الحوار السياسي الأخيرة لعبت هذه التنظيمات دوراً في تحديد ملامح قائمة رئيس الحكومة الحالي، عبد الحميد الدبيبة، ولم تتردد في مناصرته بشكل منفرد، كما فعل مفتي دار الإفتاء الصادق الغرياني. انقسم حزب الإخوان (العدالة والبناء) إلى جناحين: أحدهما لصيق بالحكومة، والآخر تشكّل تحت اسم الحزب الديمقراطي، الذي يمثل الوجه المعتدل للإخوان، هذا الجناح سعى إلى دعم توافقات بديلة مع البرلمان في الشرق لتأسيس سلطة جديدة، خاصة بعد انقلاب حكومة الوحدة الوطنية على خارطة الطريق للحل السياسي الشامل، التي وضعها ملتقى الحوار السياسي في جنيف. اليوم أصبح الدور الذي تلعبه هذه التنظيمات واضحاً، حيث تسبب الانقسام الداخلي في تفرد تيار دار الإفتاء بحكومة الوحدة الوطنية، إضافة إلى انقسام أجنحة الإخوان داخل المجلس الأعلى للدولة.
تعرضتَ لمحاولة اغتيال في عام 2014 أدت إلى إصابات جسيمة. كيف أثرت هذه الحادثة على نشاطك المدني والسياسي، وما الدروس التي استخلصتها منها؟
ـ نعم، تم استهدافي بزرع عبوة لاصقة تحت مقعد سيارتي، بعد (6) أشهر من اغتيال أحد قيادات التيار المدني، المحامي عبد السلام المسماري. أصبحت بعدها أكثر وضوحاً في توصيف الحالة في بنغازي، التي كانت تخضع لحكم الميليشيات المسلحة، مثل فرع تنظيم القاعدة "أنصار الشريعة"، والميليشيات الموالية فكرياً لجماعة الإخوان. كان هذا التحالف يستهدف المدنيين والعسكريين والإعلاميين وكل من حاول مناهضة سلوكياتهم الإرهابية، من اقتحام مؤسسات الدولة إلى تشكيل مجموعات مسلحة موازية للجيش والشرطة. في ذلك الوقت لم يكن أمامنا خيار سوى التحول إلى مشروع فدائي لإنقاذ بنغازي، فأطلقنا عشرات التظاهرات المدنية الرافضة لهذا الواقع المرعب. كنت مندفعاً جداً، وخرجت مراراً عبر الشاشات لأتحدث عن الأوضاع، مشيراً بوضوح إلى أنّ التيار الإسلامي يقف وراء مشروع الموت. وعندما انفجر حراك "تمرد" في مصر، خرج في ليبيا حراك "لا للتمديد"، الذي طالب بإجراء انتخابات برلمانية وفق الجدول الزمني المحدد في الإعلان الدستوري. لكنّ تيارات الإسلام السياسي والميليشيات التابعة لها حشدت ضد الحراك، خشية أن ينهي سيطرتهم على القرار التشريعي داخل المؤتمر الوطني العام. آنذاك دعمت الكتل المدنية داخل المؤتمر هذا الحراك، وهددت بالانسحاب في حال تجاوز المؤتمر مدته الدستورية. وفي خضم ذلك خرج مفتي دار الإفتاء، الذي يحظى بدعم قيادات الميليشيات، ليصف كل من يعارض المؤتمر الوطني العام بـ "الفئة الباغية". بعد ذلك، وجدت نفسي في مواجهة الموت، إذ تعرضت لمحاولة اغتيال، لكنني نجوت بأعجوبة. ورغم الإعاقة الدائمة التي أصبت بها، فقد زادتني هذه التجربة قوة وثباتاً، وأصبحت شاهداً حيّاً على بشاعة هذه التنظيمات وإرهابها.
الآن أقولها من جديد: لم أصمت، ولن أصمت. ولهذا أصدرتُ كتابي "اغتيال على طريق الحرية" لأقدّم شهادتي عن تلك الأيام الثقيلة التي وقعت فيها مدينتي تحت سيطرة إرهابيي تنظيم (داعش)، بدعم من تنظيم الإخوان وأموالهم.
لذا كان الكتاب في جانب منه شهادة ميدانية على ما حدث في تلك الفترة، كما أنّه يُحذر الجميع من خطورة هذه التنظيمات، ويؤكد أهمية الاتحاد خلف مفهوم الوطن والدولة المستقرة الواحدة، باعتبار ذلك الملاذ الآمن من أيّ تنظيمات متشددة ومتطرفة.
في عام 2018 طالبتَ بضبط نشاط "الوهابية السلفية" في بنغازي. ما المخاطر التي كنت تراها في ذلك الوقت، وكيف تُقيّم مستقبل الإسلام السياسي في ليبيا؟
ـ المد النجدي في ليبيا هو وليد "الصحوة" التي انطلقت في منتصف الثمانينات، وتمكنت آنذاك من التغلغل في العمق الليبي. لم يكن هناك تصادم واضح في البداية، لأنّ هذه التيارات تبنت العزلة نهجاً لها، ولم تكن طرفاً في الصراعات التي مرت بها ليبيا. لكن بعد هيمنة الإخوان على السلطة وسيطرة ميليشياتهم على السلاح، تراجع التيار الوهابي عن فكرة التناظر، باستثناء بعض المواقف الفردية من بعض الدعاة. وعند انطلاق العمل المسلح ضد التنظيمات الإرهابية، تدخل التيار السلفي المسلح استجابة لدعوة وُجهت إليه من السعودية، وكان لهم دور مفصلي في القضاء على التنظيمات الإرهابية، إلى جانب عشرات الوحدات العسكرية والمجموعات المساندة. لكن رغم ذلك، برز داخل هذا التيار صوت إقصائي، إذ حاول فرض رؤيته في مجتمع ليبي عرف بتقاليده المالكية الأشعرية الصوفية منذ تأسيسه عام 1952. هذا التوجه خلق تصادماً مع المجتمع، وبدأ بعض أتباع التيار السلفي في تبنّي خطاب متعصب يهدد الحياة المدنية المسالمة. ومن هنا طالبتُ في مقال كامل بضرورة ضبط هذا التيار. اليوم ما تزال الحركات الإسلامية السياسية متغلغلة في المشهد السياسي والعسكري، ممّا يشكل أكبر تهديد لتطلعات الليبيين في بناء دولة تنهض وترفض التعصب، وتؤسس مجتمعاً مسالماً لا يعتدي فيه أحد على الآخر. لذلك أؤكد على ضرورة الفصل بين المسار السياسي والمؤسساتي وبين التجاذبات الدينية والعقائدية، لأنّ المؤسسات الليبية ملك أصيل لجميع المواطنين بمختلف توجهاتهم وآرائهم ومعتقداتهم.
تتحالف حكومة الدبيبة مع دار الإفتاء والصادق الغرياني بشكل تكتيكي في غرب ليبيا. إلى أيّ حد ترى استدامة هذا التحالف؟
ـ هذا التحالف يشكل خطراً كبيراً. في وقت سابق ساهم تيار دار الإفتاء في دعم وتمرير الفتاوى للميليشيات المسلحة الإرهابية في بنغازي، وكان للمفتي دور بارز في تأجيج الأحقاد داخل المجتمع الليبي والتحريض على الاقتتال الأهلي. هذا الإرث الثقيل يجعل قبول حكومة الدبيبة بهذه التحالفات أمراً مقلقاً. وهذا ما حدث بالفعل، فقد أصبح رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ناطقاً باسم دار الإفتاء، التي تتبنّى توجهاً ثورياً زائفاً، مستغلة شعار "التغيير" الذي رفعته ثورة شباط (فبراير) 2011 لممارسة البلطجة السياسية والمزايدة. المفارقة أنّ تيار دار الإفتاء كان في السابق من أشد مؤيدي مشروع التوريث لسيف الإسلام القذافي، بينما كانت أسرة الدبيبة من كبار المقاولين الفاسدين في مشاريع البناء والتشييد. هذا التحالف لن ينتهي إلا برحيل عائلة الدبيبة، وإنتاج سلطة جديدة قادرة على مواجهة هذا التيار، الذي أصبح يُعرف بـ "تيار التأزيم".
ما الخطوات الضرورية لتعزيز حقوق الإنسان والحريات المدنية في ليبيا؟
ـ أوّلاً: إنهاء الاعتقالات التعسفية وفتح مناخ حر يتيح للمجتمع التعبير عن أفكاره بحرية بعيداً عن الاستقواء بالسلاح أو النفوذ السياسي. كما يجب دعم الجهود الدولية للقبض على زعماء الميليشيات ومحاسبتهم وتضييق الخناق عليهم، حتى لا يتمكنوا من الإضرار بالمواطنين. هذه خطوة أساسية لتعزيز السلم والحريات في البلاد.
ثانياً: دعم دور المنظمات المحلية في تفقد السجون وحماية المواطنين من التعسف والانتهاكات المسلحة. تحتاج ليبيا إلى عدة مراحل للوصول إلى هذا الوضع، وأهمها إعادة ثقة المواطنين في السلطات الأمنية، التي كانت حتى وقت قريب أدوات للقمع وإذلال الصحفيين والمدونين، كما حدث مع الصحفي المختص بالشأن الاقتصادي أحمد السنوسي داخل سجون الأمن الداخلي في طرابلس.
مثل هذه الحوادث تؤكد أنّ المناخ ما يزال مليئاً بالمخاطر، لكن هناك خطوات إيجابية، مثل قرار القيادة العامة للجيش في شرق البلاد فتح تحقيق في حالات التعذيب التي سُربت في مقاطع مصورة من داخل سجن قرنادة. هذا الإجراء يبعث على بعض الاطمئنان، كونه يمثل تصرفاً شجاعاً في مواجهة الانتهاكات ضد السجناء.
كيف يمكن للمجتمع المدني الليبي أن يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وبناء دولة المؤسسات؟
ـ يحتاج المجتمع المدني إلى بناء ثقة متبادلة مع السلطات الحاكمة، فهذه الخطوة أساسية لخلق بيئة مدنية قادرة على تصويب المشهد السياسي والوطني. من جانبها، يجب على السلطة أن تكون أكثر مرونة في التعامل مع المجتمع المدني، من أجل تأسيس شراكة ثابتة تمهد لواقع مستقر ينقذ البلاد من شبح الجهل والانهيار الثقافي، ويسهم في ترميم الحياة المدنية السلمية.
فدولة المؤسسات لا يمكن أن تُبنى إلا بمشاركة مجتمع مدني فاعل، يسهم في رسم ملامح دولة قوية ومستقرة، وهذا بالضبط ما تحتاجه ليبيا اليوم.