
اعتمد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وإدارته الجديدة ممارسة "سياسة أقصى الضغوط" في معالجة الملف الإيراني، الذي بات أحد أهم الملفات المطروحة على طاولتهم إلى جانب ملفات أخرى، يرتبط كثير منها بالملف الإيراني بشكل أو بآخر، مثل: ملف المواجهة مع الصين، وملف الحرب الروسية على أوكرانيا. ومنذ الأيام الأولى من توليه الحكم، أعلن ترمب أنه يوقع مرسومًا رئاسيًّا يقضي بإعادة تفعيل استراتيجية "أقصى الضغوط"، والتطبيق الصارم للعقوبات التي اتهم هو وإدارته الديمقراطيين بسوء تطبيقها. وما اكتفت الإدارة الأمريكية بالمرسوم الرئاسي الذي تُرجِم فورًا إلى فرض عقوبات إضافية تضاف إلى ركام العقوبات التي يعاني منها قطاع النفط الإيراني، وإنما بدأت ممارسة ضغوط على الجانب الأوروبي، لتفعيل "آلية الزناد" التي يتضمنها الاتفاق النووي لإعادة العقوبات الدولية عبر إحياء القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، والتي كان قد ألغاها الاتفاق النووي لعام 2015.وأوضح الرئيس ترمب في أكثر من مناسبة أن الغاية التي ينشدها هي جلب إيران إلى طاولة مفاوضات مختلفة كليًّا، من طريق وضعها على حافة الإفلاس. ويبدو الرئيس ترمب مقتنعًا تمامًا بمبدأ "الضغط الشامل والسريع" لمعالجة المشكلة الإيرانية، في سياق اعتماده المبدأ نفسه لمعالجة غالبية الملفات المطروحة على طاولته.
"أثر ترمب" في الاقتصاد الإيراني
لم تقتصر الآثار الاقتصادية لعودة ترمب في إيران، والذي تسميه الصحافة الإيرانية بـ "أثر ترمب"، على مرحلة تسلُّمه للحكم، وإنما بدأت قبل ذلك بوقت طويل؛ إذ أظهرت الأسواق الإيرانية منذ الربيع الماضي تفاعلًا مع احتمالات عودة ترمب إلى سدة الحكم، خصوصًا وأن عودته كانت تتزامن مع بلوغ الاتفاق النووي العام الأخير الذي كان يُنذِرُ مُنذ ذلك الحين بالانهيار. وأدّى أثر ترمب على مرّ عدة شهور إلى انخفاض قيمة العملة الإيرانية بنسبة 20%، وانخفاض مبيعات النفط من 1.8 مليون برميل في أكتوبر إلى 1.3 مليون برميل في نوفمبر، ليتبين أنّ الأسواق الإيرانية تتفاعل مع مُتغيّر ترمب، أكثر مما تتعامل مع السياسات التي تضعها الحكومة التي أكدت أنها تنوي رفع مستوى إنتاجها لخام النفط.
لكن مستوى التغييرات التي حدثت قبل عودة ترمب، لا يمكن أن يقارن بما حدث بعد ذلك؛ إذ تُظهِر الأرقام أن قيمة العملة الإيرانية شهدت ما يشبه الانهيار في أقل من ثلاثة أسابيع من عودة الإدارة الجمهورية إلى البيت الأبيض. إذ جرَّب الريال الإيراني انخفاضًا بنسبة 36% من نحو 660 ألف ريال للدولار الواحد إلى 930 ألف ريال للدولار، وسط توقعات بأن يبلغ سعره نحو 1200 ألف ريال في الربيع المقبل. وإذا لم نأخذ بالحسبان تلك السيناريوهات القاتمة التي تتحدث عن أسعار مرتفعة جدًا على مستوى التضخم، وقيمة العملة، والبطالة فإن تداعيات السيناريو الذي يلوّح الأمريكيون بتطبيقه، والذي يتضمّن خفض صادرات النفط إلى أقل من 10% من المستوى الراهن، أو إلى نحو 100 ألف برميل في اليوم، لا يمكنُ وصفها إلّا بالكارثية، بحيثُ:
1- يستهدف البرنامج الأمريكي في مرحلته الأولى قطاع النفط والغاز باعتباره العمود الفقري للاقتصاد الإيراني؛ إذ تُظهِر الأرقام أنه يشكل نحو 40% من مصادر الموازنة العامة، و23.3% من خالص الإنتاج المحلي. كما يُعدّ المحرك الأساسي لمعدلات النمو في الاقتصاد بواقع 24% من إجمالي النمو السنوي في النصف الأول من العام الإيراني الجاري. وخططت الموازنة العامة لتصدير نحو 1.75 مليون برميل من خام النفط بإيرادات متوقعة عند 40 مليار دولار. لكنّ السيناريو الذي لوح به وزير الخزانة الأمريكي يعني انخفاض الإيرادات النفطية إلى نحو 4 مليارات دولار فقط، بما سيفتح أبواب الجحيم على الاقتصاد الإيراني. وعلى صعيد مباشر، فإنّ انخفاضًا بنسبة 90% في الإيرادات النفطية سوف يعني عجزًا بنسبة 30% في الموازنة العامة، وتضخمًا بنسبة 30% يضاف إلى مستوى التضخم الراهن الذي استقر في الشهر الفائت عند نحو 32%.
2- قد يؤدي انخفاض مبيعات النفط إلى هذا المستوى إلى خلل في برامج الدعم الاجتماعي التي رصدتها الحكومة في موازنة العام المقبل، والتي تتضمن رصد نحو 11 مليار دولار من الإيرادات النفطية لتوفير البضائع الأساسية بالسعر المدعوم، وتوفير 4 مليارات دولار لضمان السعر الراهن للوقود (عند 3 سنتات لكل لتر منه)، و5 مليارات دولار لتقديم الدعم النقدي للأسر الإيرانية. وفي حين يعني ذلك ارتفاعًا ملحوظًا في سعر البضائع الأساسية نظرًا للفارق بين سعر الدولار المدعوم (285,000 ريال للدولار وفق الموازنة)، وبين سعر صرفه في الأسواق الحرة (913,000 ريال للدولار في 9 فبراير) فإنّه سيكون مدخلًا إلى ارتفاع الدولار لأسعار أعلى بكثير في ضوء شح مصادر العملة الأمريكية.
3- إذا أخذنا بالحسبان تداعيات العقوبات التي ينوي فريق ترمب فرضها على الاقتصاد الإيراني، سواء من طريق رغبته في فرض عقوبات على قطاعات أخرى، مثل: الغاز، والفولاذ، والبتروكيماويات، والتحويل النقدي، أو من طريق أثرها في انخفاض الصادرات والواردات، فإن ذلك يعني مزيدًا من الضغط على الشارع الإيراني؛ إذ تتوقع مصادر أن تقارب مستويات التضخم نحو 100% في خلال الصيف المقبل لتستقر عند مستويات التضخم المفرط (Hyperinflation) في النصف الثاني من العام الإيراني المقبل، وذلك بعد أن تستنفذ الحكومة غالبية مصادرها المالية لكبح جماحه.
لا تهدف استراتيجية "الضغوط القصوى" لإدارة ترمب إلى القضاء على النظام السياسي الإيراني بقدر ما هي محاولة لإرغامه على العودة إلى طاولة مفاوضات شاملة
إنَّه تماماً سيناريو الإفلاس الذي ترغب في تطبيقه الإدارة الأمريكية الجديدة، وتحاول أن تعزز فرصه من طريق إقحام المجموعة الأوروبية في تطبيقه، وتوفير مظلة دولية واسعة لسياسة "الضغوط القصوى". ومن المفترض أن يحاول النظام السياسي في إيران مواجهة هذا السيناريو من طريق عدة آليات، من ضمنها: تعزيز قنواته لتهريب النفط، والتحايل على العقوبات، وصرف مخزون الدولار الحكومي بأسعار السوق (خلافاً لنص الموازنة العامة). وأيضاً عبر الانخراط في مسارات مفاوضات جزئية. وقد تحقق سياساته بهذا الخصوص نجاحًا جزئيًّا، خصوصًا إذا أخذنا في الحسبان أن الغاية من الاستراتيجية التي وضعتها الإدارة الأمريكية الجديدة ليست القضاء على النظام السياسي الإيراني بقدر ما هي محاولة لإرغامه على العودة إلى طاولة مفاوضات شاملة، لا تقتصر على الملف النووي فحسب.
غير أن ذلك لا ينفي أن العام الجديد سيكون من أسوأ الأعوام التي يمرّ بها النظام الإيراني منذ فجر ثورته في 1979، خصوصًا وأن الأزمة الاقتصادية الناجمة عن عودة أقصى الضغوط تُضاف إلى سلة من الأزمات الاجتماعية، والاقتصادية المتراكمة، مثل: أزمتي المياه، والكهرباء المرشحتين للاستفحال في الصيف المقبل؛ ما يضع الشارع الإيراني أمام حالة أصعب بكثير من عامي 2019 و2020، حيث بلغت نسبة التضخم الشهري نحو 65.3%، وسجَّل الاقتصاد نموًّا سلبيًّا بنحو 3.9%- في 2019.
السيناريوهات المحتملة
تُظهِر مؤشرات الاقتصاد الإيراني تأثُّرًا واضحًا بعودة ترمب، معززةً مستويات الفقر، والسخط الاجتماعي في الشارع الإيراني، وواضعة النظام السياسي في مواجهة احتمال عودة الاحتجاجات الشعبية، خصوصًا في ضوء ظاهرة تراكُم الأزمات. وفي ضوء ذلك، تبدو المسألة الإيرانية منفتحة على عدة احتمالات أو سيناريوهات:
السيناريو الأول: تطبيق سياسة الصّبر الاستراتيجي؛ من المُرجّح أن تسعى إيران إلى استيعاب حملة الضغوط الجديدة، والتأقلم معها، عبر إعادة تفعيل سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي اعتمدتها في خلال الدورة الأولى من رئاسة ترمب. وفي سياق هذا السيناريو الذي تُفضِّله الدولة العميقة في إيران، والتي أكدت رفضها للانخراط في "مفاوضات تحت الضغط" مع الولايات المتحدة، سوف يسعى النظام الإيراني إلى اعتماد نفس الاستراتيجية التي طبّقها في 2018، غداة انسحاب الرئيس ترمب من الاتفاق النووي. وعلى الورق فإن الأرقام تدعم نجاح هذا السيناريو؛ إذ في حين بدأت سياسة "الصبر الاستراتيجي" لعام 2018، بعد مجموع نموّ بنحو 24% في خلال 5 سنوات، بما عزز قوى الاقتصاد الإيرانية في وجه العقوبات، فإن المرحلة الراهنة تأتي بعد مجموع نموّ يقارب 20% في خلال أربعة أعوام؛ بما يعني من منظور إيراني احتمال نجاح سياسة "الصبر الاستراتيجي" حتى نهاية عهد ترمب. لكنّ الوضع الميداني يختلف عمّا تحكيه الأرقام، ويُقلِّل من فرص نجاح هذا السيناريو لعدة أسباب، منها: خسارة الدعم الأوروبي في الجولة الراهنة، وتراكُم الأزمات الاقتصاديّة، وانخفاض فرص نجاح محاولات التّحايُل على العقوبات، واحتمال خسارة الحليف الصيني (الذي يُعوِّلُ عليه صانع القرار الإيراني في نجاح سياسة الصبر الاستراتيجي)، خاصّةً في حال عودة العقوبات الدولية.
السيناريو الثاني: مواجهة الانهيار الاقتصادي؛ قد تؤدي سياسة "أقصى الضغوط" التي بدأت إدارة ترمب في ممارستها، وتطالب الأوروبيين بالانضمام إليها، وتعزيزها من طريق تفعيل "آلية الزناد" إلى انهيار اقتصادي شامل في إيران. وقد لا يعني ذلك بالضرورة انهيار النظام السياسي في إيران، لكنّه سيضمن دخول إيران إلى قائمة "الدول الفاشلة"، أو "الهشة". وتبدو الإدارة الأمريكية غير راغبة بإسقاط النظام الإيراني، لكنّ تراكم الأزمات الاقتصادية الإيرانية بمستويات غير مسبوقة من التضخم، وانهيار قيمة العملة المحلية، وفشل الحكومة في توفير الخدمات الأساسية على مستوى الكهرباء، والمياه إلى جانب احتمال إفلاس العديد من الشركات، والمؤسسات الصناعية، أو فشلها في صرف الرواتب – على غرار ما حدث في خلال الموجة الأولى من أقصى الضغوط – يُنذِر باحتجاجات عمّالية، وأخرى شعبية، على غرار تلك التي حدثت في ولاية روحاني الثانية، ووضعت النظام السياسي حينها أمام مأزق كبير. أما إذا افترضنا أن هناك رغبة سياسية في الولايات المتحدة وإسرائيل باستبدال النظام السياسي في إيران بآخر غير أيديولوجي، فإن سيناريو الاضطراب السياسي سيكون واردًا. غير أنه حتى الآن، لا يبدو هذا هو السيناريو المرجح؛ إذ تظهر الإدارة الأمريكية عدم رغبتها في اعتماده، مُفضِّلةً التوصُّل إلى صيغة تفاهم مع النظام الإيراني بشكله الحالي.
من المُرجّح أن تسعى إيران إلى استيعاب حملة الضغوط الجديدة، والتأقلم معها، عبر إعادة تفعيل سياسة "الصبر الاستراتيجي"
السيناريو الثالث: العودة إلى طاولة المفاوضات؛ وهو السيناريو الذي تعلن الإدارة الأمريكية الراهنة أنها راغبةٌ فيه، ويتضمن إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات بإرادة سياسية واضحة نحو تقديم التنازلات. ولا تُشير غالبية المواقف التي صدرت حتى الآن من الإدارة الأمريكية إلى الرغبة في إسقاط النظام الإيراني، أو إخضاعه عسكريًّا. إلّا أنّ إدارة ترمب لا تُظهر مرونةً فيما يتعّلق بالوقت اللازم لإنضاج هذه المفاوضات، ولا ترغب في دخول مسار طويل، ومجزّأ منها، بل تريد مسارًا سريعًا، وحاسمًا في سياق استراتيجية عامة تمارسها إدارة ترمب في أكثر من ملف على المستوى الدولي. وفي حين أنّ تأكيد الحكومة الإيرانية على جاهزيتها للجلوس على طاولة المفاوضات لفض الخلاف بشأن الملف النووي كان قد دعم فرص تحقُّق السيناريو فإن إصرار الإدارة الأمريكية على أن الطاولة يجب أن تتضمن ملفات أخرى، وتقترب من مفهوم "المفاوضات الشاملة" من جهة، وإصرار الدولة العميقة الإيرانية ممثلة بمؤسسة "بيت القائد" على رفض فكرة المفاوضات مع إدارة ترمب من جهة ثانية، يُقللّانِ من فرص تحقيق هذا السيناريو.
ختامًا، حتى إن لم تتحقق أيٌّ من هذه السيناريوهات الثلاثة فإن "سيناريو الأمر الواقع" سيكون سيّد الموقف في إيران؛ حيث يعني أنّ المجتمع الإيراني سيُعاني من مستويات مرتفعة من الفقر والبطالة والتضخم والسخط الاجتماعي، وأنّ النظام السياسي الإيراني لن يكون قادرًا على فض الأزمات الاقتصادية، وستقف إيران على مشارف التحوُّل إلى "دولة فاشلة". وسوف يضطرّ النظام السياسي الإيراني إلى تقليص الإنفاق على البرامج العسكرية، وعلى برنامج التوسع الإقليمي، وسينصبّ تركيزه على آليات لكبح السخط الاجتماعي في الشارع.
مركز الإمارات للسياسات