
يُستخدم مفهوم الردع منذ القدم لمنع الخصم من تجاوز سقف معين، عن طريق إقناعه بأنّ أيّ تجاوز لشروط اللعبة سوف يقابل برد قوي. ولكي ينجح الردع، لا بدّ من توافر شرطين: الشدّة والمصداقية.
والشدّة هنا تعني استخدام الحد الأقصى من التهديد بالانتقام، الذي من شأنه أن يفوق أيّ مكاسب محتملة قد يأمل الخصم في الحصول عليها. بينما تعني المصداقية جعل الخصم يعتقد أنّ عدوانه الإضافي سوف يؤدي إلى انتقام لا يمكن احتماله.
وتُعرف آلية الردع باسم التدمير المتبادل المؤكد، والذي يعني الامتناع عن الاستخدام الفعلي لأسلحة الدمار الشامل، واقتصارها على حفظ التوازن العسكري، وتحجيم الخصم.
ربما تجاوزت حرب الجليد بين روسيا وأوكرانيا مفاهيم الردع التقليدية، وأصبح العالم على شفا حرب نووية، في ظل فشل الطرفين في حسم الصراع العسكري، ومحاولة الغرب تقويض البنية العسكرية الروسية، من خلال إدخال أسلحة غير تقليدية إلى مضمار الحرب الدائرة.
هجوم بصواريخ باليستية أمريكية
بحسب تقارير إعلامية روسية، سمح الرئيس الأمريكي جو بايدن لأوكرانيا باستخدام صواريخ من طراز (ATACMS) ضدّ أهداف داخل الأراضي الروسية، وبالتحديد في منطقة كورسك، التي تشهد قتالاً عنيفاً منذ تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. ويبلغ مدى هذه الصواريخ نحو (300) كيلومتر (185) ميلاً.
وقالت وزارة الدفاع الروسية الثلاثاء الفائت: إنّها أحبطت هجوماً أوكرانياً باستخدام صواريخ باليستية طويلة المدى من طراز (ATACMS) في منطقة بريانسك الغربية، وذلك قبل وقت قصير من قيام الكرملين بتحديث عقيدته الخاصة بالأسلحة النووية؛ للسماح بشن ضربات نووية رداً على هجمات الصواريخ الباليستية الأجنبية.
وأكد مسؤولان أمريكيان لشبكة (إيه بي سي نيوز) أنّ أوكرانيا أطلقت للمرة الأولى صواريخ ATACMS)) على أهداف في روسيا.
وكتبت وزارة الدفاع الروسية على صفحتها الرسمية على تطبيق (تليغرام) أنّ القوات الأوكرانية أطلقت (6) "صواريخ باليستية"، تمّ إسقاط (5) منها وتضرر السادس. وأضافت: "وفقاً للبيانات المؤكدة، تمّ استخدام صواريخ (ATACMS) الأمريكية الصنع". وأضافت الوزارة أنّ "شظايا صاروخ (ATACMS) سقطت على منشأة عسكرية في منطقة بريانسك، ممّا أدى إلى اندلاع حريق تمّ إخماده".
مسؤول عسكري أمريكي قدّم رواية مختلفة للضربة، زاعماً أنّ روسيا اعترضت (2) من الصواريخ الـ (8) من طراز (ATACMS) التي أطلقتها أوكرانيا. وأضاف المسؤول أنّ الصواريخ الـ (6) الأخرى أصابت موقعاً لتخزين الذخيرة في مدينة كراتشيف.
يذكر أنّ الرئيس الروسي بوتن أكد في مؤتمر مجلس الأمن التابع للاتحاد الروسي حول الردع النووي الذي عقد في 12 أيلول (سبتمبر) الفائت، أنّ بلاده قررت تغيير العقيدة الروسية القائمة بشأن استخدام الأسلحة النووية. وقال بوتن: إنّ قائمة التهديدات العسكرية التي يمكن استخدام الأسلحة النووية ضدّها كرادع سوف تتوسع. وأضاف: "أود أن ألفت انتباهكم على وجه التحديد إلى ما يلي: من المفترض أنّ نعتبر أنّ أيّ عدوان على روسيا من جانب أيّ دولة غير نووية، ولكنّها مدعومة من قبل أيّ دولة نووية، هو بمثابة هجوم مشترك ضدّ الاتحاد الروسي". كما ناقش الاجتماع إمكانية توجيه ضربة نووية استباقية، وكان المبدأ القديم يسمح فقط باستخدام الأسلحة النووية كضربة مضادة.
مرسوم بتفعيل استخدام الأسلحة النووية
في الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: إنّ السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ تجاه روسيا من شأنه أن يؤدي إلى "جولة جديدة مهمة من التصعيد". كما أشار إلى تصريح سابق للرئيس بوتن في أيلول (سبتمبر) الفائت قال فيه: "لا يحق إلّا لأفراد عسكريين من حلف شمال الأطلسي إسناد مهام طيران لهذه الأنظمة الصاروخية. ولا يجوز للجنود الأوكرانيين القيام بذلك. وبالتالي، فإنّ الأمر لا يتعلق بالسماح للنظام الأوكراني بضرب روسيا بهذه الأسلحة أم لا، بل يتعلق الأمر بتقرير ما إذا كانت دول حلف شمال الأطلسي ستشارك بشكل مباشر في الصراع العسكري أم لا".
وقال بيسكوف: إنّ النسخة الجديدة من العقيدة النووية تشكل "وثيقة مهمة للغاية ينبغي دراستها" في الخارج، في تهديد مباشر باستخدام السلاح النووي.
وبالفعل، وقّع الرئيس بوتن يوم الثلاثاء مرسوماً يوسع نطاق استخدام روسيا للأسلحة النووية، الأمر الذي يبعث برسالة واضحة إلى الغرب وأوكرانيا. ومن شأن هذا المرسوم أن تتمكن موسكو فعلياً من انتهاج رد نووي، في حالة تعرضها لإطلاق نار مكثف جواً؛ حتى لو كانت الأسلحة المستخدمة تقليدية.
الولايات المتحدة قلّلت من احتمالات تنفيذ بوتن لتهديداته، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر للصحافيين: إنّه "لم يفاجأ للأسف" بقرار روسيا تغيير عقيدتها النووية. وقال ميلر: "منذ بداية حربها العدوانية ضدّ أوكرانيا سعت روسيا إلى إرغام وترهيب أوكرانيا ودول أخرى في جميع أنحاء العالم، من خلال الخطاب والسلوك النووي غير المسؤول". وأضاف: "على الرغم ممّا تقوله روسيا، فإنّ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لا يشكلان أيّ تهديد لروسيا".
وقال ميلر: إنّ الولايات المتحدة "لا ترى أيّ سبب لتعديل وضعها النووي، لكنّنا سنواصل دعوة روسيا إلى التوقف عن الخطاب العدواني وغير المسؤول".
هل تورطت واشنطن بشكل مباشر؟
أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر يوم الإثنين الفائت أنّ رد الولايات المتحدة على التعاون العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية في الحرب سيكون حازماً.
وتؤكد واشنطن أنّ هناك الآن نحو (10) آلاف جندي كوري شمالي ينشطون في منطقة كورسك الروسية، وأنّه يجري بالفعل نشرهم في ساحة المعركة؛ الأمر الذي يمثل تحولاً مربكاً للمشهد العسكري من الناحية الجيوستراتيجية، قبل أن يضع الكرملين، رسمياً، خيار الرد النووي على الطاولة في شكل عقيدة محدثة.
وكانت واشنطن قد رفضت في السابق السماح بمثل هذه الضربات بصواريخ (ATACMS) أمريكية الصنع، خشية أن يؤدي ذلك إلى تصعيد في الحرب.
من جهته، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يوم الثلاثاء: إنّ الهجوم الأوكراني باستخدام (ATACMS) هو إشارة إلى أنّ الدول الغربية تريد التصعيد. وأضاف لافروف خلال مؤتمر صحفي على هامش قمة العشرين في ريو دي جانيرو: "من المستحيل استخدام هذه الصواريخ عالية التقنية بدون الأمريكيين".
ويمكن القول: إنّ التورط الأمريكي المباشر ربما يدفع موسكو إلى التعجيل بالهجوم المضاد المباشر في كورسك، بالتزامن مع عملية دفع الجيش الأوكراني إلى الوراء ببطء في منطقة دونيتسك الشرقية.
وربما ينفذ بوتن تهديداته التي أطلقها في حزيران (يونيو) الفائت، عندما حذّر من أنّ روسيا قد توفر أسلحة بعيدة المدى لأطراف أخرى لضرب أهداف غربية؛ رداً على سماح حلفاء الناتو لأوكرانيا باستخدام أسلحتهم لمهاجمة الأراضي الروسية؛ الأمر الذي يهدد القواعد الغربية في آسيا والمحيط الهادي.
وربما يكون توقيع بوتن على مرسوم العقيدة النووية الجديدة، الذي يوسع الشروط التي يجوز لموسكو بموجبها استخدام أسلحتها النووية، هو الوصول الأخطر إلى حافة الهاوية، منذ أزمة خليج الخنازير في العام 1960.
إنّ استخدام موسكو لمفهوم الردع بهذا الحجم، تزامن مع إجراءات سعى من خلالها بوتن إلى تأكيد المصداقية والجدية في هذا الشأن، حيث بدأت روسيا في تنفيذ جملة من الإجراءات الاستثنائية، تحسباً لمواجهة حرب نووية حقيقية الثلاثاء، بالإعلان عن نشر وتدشين عدد ضخم من الملاجئ النووية المتنقلة، التي يتم استخدامها لحماية الناس من الانفجار النووي أو التلوث الإشعاعي، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الروسية الرسمية (ريا نوفوستي).
هذه القرارات من شأنها إرباك التحركات الأمريكية، وإعادة البنتاغون إلى منطقة الحرب التقليدية، ذلك أنّ التصعيد الذي احتاجت إليه إدارة بايدن قبل وصول ترامب، يمكن أن يؤدي إلى كارثة عالمية باندلاع حرب نووية مدمرة، لا يستطيع أحد تحمل تبعاتها.