
يمكن القول إنّ الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة فتحت الباب أمام جملة من التصورات الجديدة، القادرة بدورها على إعادة تشكيل منطق الأمور في الشرق الأوسط، بشكل مغاير للتوقعات التي صاغتها خطط العمل الإخوانية، عبر عقود طويلة، على جبهات التماس في الشرق الأوسط؛ ذلك أنّ المعطيات التي انبنت على ضوئها المعادلات الجيوستراتيجية في المنطقة اتجهت نحو قلب منطق الأمور، وإعادة تشكيل الأدوات الفاعلة، بفعل مسارات جديدة، بعضها لم يكن في الحسبان.
وإن جاز التعبير، اتخذت الأجندة الإخوانية، منذ "طوفان الأقصى"، نزعة شمولية، امتصت داخلها كل أشكال وصور التمثلات السياسية الكلاسيكية الساذجة، دون قراءة حقيقية للواقع، في ضوء امتداداته السياسية البنيوية، بشقيها العقلاني والموضوعي.
التحالف مع إيران نفق بلا ضوء
في البداية، ثمّنت الجماعة من أهمية التحالف مع إيران، بوصفها نقطة التمركز الأساسية لمحور الممانعة، وغضت الطرف عن أهداف المشروع الشيعي الطائفي، القائم على تصدير الثورة، والإمعان في الهيمنة، خاصّة بعد نجاح طهران في وضع قدم ثقيلة في (4) دول عربية، باتت أشبه بالرهينة داخل حظيرة الولي الفقيه؛ هي: العراق وسوريا واليمن ولبنان.
مضت الجماعة طواعية نحو الذئب في عرينه، فابتلع حزب الله ذراع الإخوان في لبنان (الجماعة الإسلامية) واستخدمها أداة وظيفية لمشروع ارتهان الدولة؛ في سبيل معركة التحرر! وظهر الأمين العام الشيخ محمد طقوش بصحبة حسن نصر الله، في مشهدية خلاصية مرتبكة، تفتقد إلى أبسط قواعد الاتساق السياسي والإيديولوجي.
لم تجد طهران أفضل من الجماعة الإٍسلامية اللبنانية، كفصيل فعّال ضمن المكون السنّي، لمدّ غطائها السياسي وتوسيع رقعته في لبنان، بالتوازي مع الهيمنة الكاملة على سوريا، واندفع محمد طقوش نحو تحقيق حلمه القديم بمحاكاة شخصية بحجم ونفوذ حسن نصر الله؛ فأعاد إحياء ميليشيا الفجر، وقدّم إخوان لبنان على طبق من فضة لإيران.
وبالمثل، نجحت طهران في احتواء ذراع الإخوان الأكثر نشاطاً في شبه القارة الهندية، حيث ظلّت لعقود طويلة تطمح نحو توظيف الجماعة الإسلامية في باكستان، وظنّ سراج الحق، أمير الجماعة، أنّه يستطيع تقديم أوراق اعتماد جديدة للداخل الإخواني، بعد فشله الانتخابي الذريع، فسارع بالانضمام إلى معركة إيران، وقدّم فروض الولاء في طهران، بل وغضّ الطرف عن العملية العسكرية الإيرانية داخل حدود بلاده، التي استهدفت الجماعات المعارضة في بلوشستان.
هذا الامتصاص التكتيكي الذي انتهجته إيران لم ينجُ منه حزب الإصلاح الإخواني في اليمن، أو الأذرع الميليشياوية الإخوانية في السودان، التي تخوض غمار حرب أهلية طاحنة، حيث قدّمت طهران نفسها كصاحبة مشروع تحرر إسلامي أوحد في المنطقة، يستهدف تحرير الأقصى في المقام الأول!
تناقضات حادة تكشف عن نفسها
نجحت طهران في مدّ غطائها السياسي والعسكري، عبر الإخوان، لكنّها لم تستشرف هي الأخرى مستقبل التعاون مع أذرع التنظيم، ومدى التناقضات البنيوية الحادة فيما بينها، فاصطدمت بموقف الضد الحاد لإخوان سوريا وعدائهم المطلق لها، وهو ما صدم العقلية الإخوانية الساذجة أيضاً؛ بسبب العجز عن قراءة التناقضات الموجودة بين الحاضنة التركية لإخوان سوريا، والمشروع الإيراني في الشرق الأوسط.
وفي آسيا تمّت الإطاحة بسراج الحق، وفشلت مناورته السياسية في استدعاء الدعم الإيراني داخل حزبه، وحاول خليفته حافظ نعيم الرحمن اتخاذ مواقف أكثر حذراً تجاه التعامل مع إيران، التي فقدت حليفاً مهماً في أصعب الأوقات، داخل جسد التنظيم الدولي للإخوان.
ومن جهة أخرى، تخلّت الجماعة الإسلامية في بنغلاديش عن القضية الفلسطينية، لصالح السعي تجاه السلطة، بعد سقوط نظام حسينة واجد، وتوقفت بشكل تام العلاقات بين الجماعة وإيران، فقد دخل الإخوان في تحالف ضمني مع حكومة محمد يونس الانتقالية، وسارع أمير الجماعة شفيق الرحمن نحو تقديم أوراق الاعتماد إلى الدول الغربية، وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة والمجموعة الإسكندنافية.
وبالنظر إلى الخلاف بين حركة مجتمع السلم (حمس) ذراع الإخوان في الجزائر، وحزب العدالة والتنمية الإخواني (المصباح) ذراع الجماعة في المغرب، نجد أنّه تجلّت فيه كل أوجه الصراع والتناقض الوظيفي داخل التنظيم الدولي، في ظل التراشق بالاتهامات والتخوين، وبات عبد الإله بنكيران، الأمين العام للمصباح، غير قادر على تجاوز حقيقة أنّ حزبه هو من وقّع اتفاق التطبيع الثلاثي مع إسرائيل. وبالمثل تمّ تهميش عبد الرزاق مقري، الأمين العام السابق لحركة مجتمع السلم داخل الحزب، وهو أحد أبرز حلفاء طهران، وجبهة الممانعة، وفضلت الحركة الدخول في مفاوضات مع الدولة تمهيداً للمشاركة في الحكومة.
وبالمثل يبدو حزب التجمع الوطني للإصلاح (تواصل)، ذراع الإخوان في موريتانيا، أبعد ما يكون عن المعادلة، خاصّة في ظل معاناته من تبعات السقوط الانتخابي، والانشقاقات الداخلية، وعدم الثقة بينه وبين ذراع الإخوان في المغرب.
وفي الكويت فشلت الحركة الدستورية الإسلامية (حدس) في توظيف الحدث الفلسطيني كما اعتادت، ومع حلّ البرلمان دخلت في كمون سياسي، ربما يطول، خصوصاً بعد حلّ ذراعها الطلابي.
الفشل في توظيف المأساة الفلسطينية
في بداية الحرب، ومع جنون آلة القتل الإسرائيلية وتصاعد العدوان بشكل غير مسبوق، ظنّ الإخوان أنّهم بمقدورهم الضغط على الحكومات الغربية، ودفع كرة الثلج إلى الأمام، باستغلال التعاطف الشعبي العالمي مع مأساة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لكنّ الأذرع الإخوانية ظهرت ثقيلة الحركة، وغير قادرة على محاكاة ماضيها، في ظل الإجراءات الأوروبية الصارمة، التي قطعت الطريق أمام مسارات الأوعية المالية الخاصة بالتنظيم، وسنّت القوانين التي شلّت إلى حد كبير قدرة المؤسسات الإخوانية على الحركة والضغط.
كما عجزت الأذرع الإخوانية في الولايات المتحدة عن بناء أيّ موقف سياسي يمكن من خلاله استغلال الصراع الانتخابي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لصالح وقف إطلاق النار في غزة، وخرجت الجماعة خالية الوفاض، عاجزة عن المناورة، ليصل في النهاية رئيس يميني بمعروف بمواقفه الموالية لإسرائيل.
وعليه، انهارت تصورات الإخوان حول القدرة على ضم العالم المتغير إلى إطار إيديولوجي ثابت، وفشلت الجماعة في إعادة تقديم نفسها كوكيل حصري للقضية الفلسطينية، وانهارت صورتها تماماً مع انكشاف نهجها الانتهازي، وعجزها التنظيمي.
ومع انهيار حزب الله في لبنان، وانكشاف عدم الجاهزية العسكرية بشكل غير متوقع، وانهيار مقدرات الحزب العسكرية دفعة واحدة، لجأت قيادات الجماعة الإسلامية اللبنانية إلى الاختفاء، في ظل استهداف أمينها العام محمد طقوش، ورئيس المكتب السياسي علي أبو ياسين، وقادتها العسكريين.
تركت الحرب على الساحة اللبنانية أحد أبرز أذرع الإخوان في حالة من الفوضى، وبدأ الأمين العام السابق عزام الأيوبي، ونائب الجماعة عماد الحوت، في التحرك صوب فك الارتباط مع حزب الله، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظل فشل المقامرة التي قام بها طقوش وجناحه.
وما زالت الجماعة الأم على حالة من التشرذم والانحلال، مع فشل حلمي الجزار في إقناع النظام المصري بالمصالحة، أو عودة الجماعة إلى المشهد بأيّ شكل. بالتزامن مع انحلال عُرى التحالف الإخواني التركي، وابتعاد تركيا عن التحالف الضمني مع الجماعة، التي باتت الآن في مهب الريح، تجرّ أذيال الخيبة، بفعل رداءة الحسابات السياسية الفاشلة.
وبدورها، اكتشفت طهران مدى هشاشة الإخوان، وعدم قدرة الجماعة على تشكيل أيّ مركز ثقل سياسي أو عسكري على الإطلاق، وأنّها لم تعد تمثل كتلة واحدة، متسقة المواقف والتوجهات، الأمر الذي يؤكد أنّ التحالف في طريقه إلى نهاية درامية لم يتوقعها أكثر المتشائمين.
لقد سقط الخطاب القائم على تجاهل قيمة الفرد، مقابل تنظيم الناس في طبقات تشبه الأرقام المجردة، ولم تعد الشعوب تنظر إلى القتلى كمجرد أرقام في سبيل قضية الحرية، ومع التأكيد على عدالة قضية فلسطين وأسبقيتها كل الأولويات النضالية، تبقى أيضاً قيمة الفرد ضرورة تفرض على صاحب القرار مراجعة حساباته، واكتشاف أهمية الحسابات العقلانية، بعدم اتباع أجندة موازية، تحاول توظيف المقاومة لصالح مشروع طائفي، ينزع تجاه معارضة أيّ تغيير في المعادلات القائمة، وإحياء عناصر الثبات والجمود التي انطوت على مغالطات فجة، جعلت من مفهوم وحدة الساحات مبرراً لخوض حرب بالوكالة لصالح إيران، وجعلت دول المواجهة مجرد حديقة خلفية لمشروع الملالي، ومجرد درع لامتصاص الصدمات نيابة عن إيران.