"سلامة زين العابدين"... رحلة شاب من ضيق التطرف إلى رحابة المعرفة

"سلامة زين العابدين"... رحلة شاب من ضيق التطرف إلى رحابة المعرفة

"سلامة زين العابدين"... رحلة شاب من ضيق التطرف إلى رحابة المعرفة


14/06/2025

في الأعوام الأخيرة عرف الحقل الأكاديمي الطريق إلى التأريخ من باب قراءة الأدب والروايات، حتى أصبحت مصدراً غير تقليدي لقراءة التاريخ في أقسام التاريخ بالجامعات، مسألة قد يستهجنها البعض الآخر بحجة أنّ الرواية تعتمد على التخييل في المقام الأول، بيد أنّ هناك روايات استطاعت أن تأخذ مكانها مصدراً تاريخياً للحياة الاجتماعية والثقافية في بلادها، في المقدمة منها ثلاثية نجيب محفوظ التي أرخت للقاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، وهناك أيضاً رواية "سلامة زين العابدين" للروائي السعودي محمد الحارثي، التي صدرت طبعتها الثانية في القاهرة عام 2023، ساردة واحدة من أخطر التحولات التي شهدتها المملكة العربية السعودية في النصف الثاني من القرن العشرين، وصعود ما أطلق عليه الصحوة الإسلامية وسيطرة الفكر المتطرف على عقول البعض.

استطاع الحارثي في روايته التي تدور في فلك تاريخ معاصر أن يهرب من الكتابة التقريرية من خلال تقديم حكاية متخيلة عن عائلة سكنت قرية الزاهية ـالمتخيلة أيضاً- قبل بضعة قرون، وفي الخلفية يسرد الحارثي صراعات القبائل قبل أن يوحدها الإمام سعود منطلقاً بالمملكة إلى العصر الحديث في نهايات القرن السابع عشر وصولاً إلى الملك عبد العزيز آل سعود وتدشين المملكة العربية السعودية.

 

عائلة سلامة زين العابدين بطل الرواية عاشت تحولات المملكة جميعها، منذ أن كانت هناك نجد والحجاز والمدينة ومكة، ومنذ أن كانوا تحت سلطة مجموعة من القبائل والمشايخ، يتصارعون في فرض سيطرتهم على مجمل مدن المملكة. جدهم الأكبر سلامة الشنهاري المقاتل الذي عاش حياته غازياً، وحمل الراية من بعده حفيده ابن سلامة الشنهاري في الغزو، حتى أنّه قتل في واحدة منها. بيد أنّ سلامة الشنهاري اختار طريقاً غير طريق الوالد، وتبعه ولده إبراهيم في العمل بالتجارة.

نقطة تحول مهمة تعيد تكوين المشهد في المملكة عموماً، من مجرد قرى بدوية تعيش على الغزو والقتال إلى مدن حضرية تعتمد التجارة والشكل الحديث للدول، المسألة التي التفت إليها الإمام سعود في القرن السابع عشر مقرراً الخروج بأرض نجد من ظلمات العصور الوسطى إلى رحابة العصر الحديث. 

الكاتب والروائي: محمد الحارثي

اعتمد المؤلف في عرض أفكاره فلسفة الحكي في المقام الأول، تاركاً للقارئ استخلاص التاريخ من بطون الحكايات، فأنت في البداية أمام الجدّ الشنهاري والتاريخ المحيط الممتلئ بصوت السيف والاستعلاء بالخرافة والجهل، ثم ينتقل بك الحال إلى الابن الذي اختار الاستقرار من خلال العمل بالتجارة، ثم في مرحلة لاحقة الشتات الذي عاشته الأسرة بعد صراعات من بعض القوى الإقليمية المحيطة بنجد، والتي حاولت كسر مخطط النهضة داخل المملكة، وصولاً إلى تأسيس المملكة ودخول الحجاز عصر الحداثة بسرعة الصاروخ، ثم تأتي عقدة الرواية التي تدور حولها الرواية بالكامل، مع الحفيد سلامة الزين الذي عاش أصعب فترات التحولات في المملكة العربية السعودية، بداية من منتصف الستينات وصولاً إلى قيام الفوضى في منطقة الربيع العربي.

سوق الزاهية

"في أحد الأيام قدم إلى سوق الزاهية مجموعة من الناس، شعث اللحى، وجوههم مغبرّة، وذوو شعور طويلة، وأطمار بالية تظهر الزهد في الحياة وكثرة السفر، يقولون إنّهم من الجماعة السلفية المحتسبة". هكذا وصفهم المؤلف على لسان بطل الرواية سلامة الزين، وفي الوصف لمحة شديدة الأهمية، وهي غرابة ذلك الشكل على المجتمع السعودي في تلك الفترة، وعلى قرية بعيدة عن المدينة والحضر، ممّا يشير إلى أنّ الدولة كانت تسير في طريقها إلى حداثة تبناها آل سعود وعملوا على تطبيقها، حتى اصطدموا بالماضي البعيد الذي عرفوه أيام الشنهاري الكبير، من رجال الصحراء مغبري الوجوه الذين اعتمدوا على الغزو والقتال سبيلاً، وامتلأت عقولهم بالخرافة والدجل.

يستكمل المؤلف على لسان البطل: "نظر إليهم أحد الباعة وهم يدبرون خارجين من السوق، ثم أقسم بالله قائلاً: "والله وراءكم بلاء ومصيبة". وهو ما حدث بالفعل بعد أن قررت الجماعة السلفية المحتسبة اقتحام الحرم المكي في واقعة عظيمة اهتزت لها أركان العالم الإسلامي أجمع. ووسط الهرج والمرج خرج كبيرهم جهيمان العتيبي معلناً أنّ المهدي المنتظر بينهم، وأنّهم سيعيدون نور الإسلام إلى الأرض من جديد!

انتهت هجمة المحتسبة، لكن ظلت آثارهم على المملكة باقية، ومن تلك الأثار صعود نجم الداعية ابن الدباس أحد أبناء الزاهية، والذي اعتبر نفسه خليفة الله في تلك القرية، رغم سخافة معاركه التي دخلها مع الدولة الحديثة، في المقدمة منها اعتراضه على دخول الهاتف إلى قرية الزاهية بحجة أنّه سيفض بكارة البنات العذارى ممّن يستخدمنه للحديث في السوء، وقرر أن يقود أبناء الزاهية في معركة انتهت بطلب أهل القرية من الحكومة أن تمتنع عن مد خطوط الهاتف إليها!

الصراع بين الماضي والحاضر كان شاغل المملكة وأهلها، بل شاغل قرية الزاهية نفسها.

الصراع بين الماضي والحاضر كان شاغل المملكة وأهلها، بل شاغل قرية الزاهية نفسها، التي استطاع المؤلف أن يوظفها رمزياً لتصبح نموذجاً يصلح تطبيقه على آلاف القرى العربية، وعلى ملايين العرب ممّن عاشوا في مواجهة المحتسبة في كل زمان ومكان؛ فلم تكن الزاهية مجرد قرية عادية، ولم يكن الدباس مجرد شيخ قروي، وبالضرورة أيضاً لم يكن سلامة الزين مجرد فتى ساقه القدر للعيش في قرية الزاهية، وإنّما كانوا جميعاً صورة مصغرة من الألم الأكبر الذي سيعيشه العرب، وسيحصدون مساوئه بعد عام 2011.

ثنائية الخير والشر

ينتهي اقتحام الحرم المكي بتعطيل عجلة الحداثة في المملكة العربية السعودية؛ فبقاء وحدة المملكة والأمن الاجتماعي بين أهلها كان أهم من أيّ طموحات وأيّ تحديث، بيد أنّ التقهقر إلى الخلف في عملية الحداثة والتمسك بالماضي في صورة الأصولية الدينية لمواجهة شعوذة وخرافة المحدثة لم يستطع أن يوقف ورثة جهيمان العتيبي.

بعد أعوام قامت الحرب في أفغانستان، وساق ورثة المحتسبة الأخبار إلى المملكة، وبدأ مدرس مصري يعيش في قرية الزاهية من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يدعو إلى دينه الجديد، ويخبر الناس أنّ الملائكة تتجلى للناس في أفغانستان، عاث المعلم بين أبناء الزاهية حتى انتبهت له الدولة فأبعدته، لكنّ ظل ابن الدباس، ولحقه أحد شباب القرية ممّن سافروا إلى أفغانستان للقتال فيها، ثم عاد محمّلاً بالقصص والروايات المبهرة عن القتال في جبال تورا بورا، ليقف الشاب محمود غفلة بين أقرانه محدثاً إياهم بنصر الله لأتباعه الأفغان في مواجهة السوفييت الكفار، وفي تلك اللحظة بالتحديد انقسمت قرية الزاهية إلى قسمين، بالفعل قسمين كما أورد المؤلف، ما بين البيوت التي على يمين القرية والبيوت التي على اليسار، بين من تبع محمود غفلة وصدق دعوته، وبين من اعتبروا أنّ ما يردده لا علاقة له بالدين، وأنّه يتاجر بالإسلام ليحصد المكاسب.

كان من الحظ السيّئ الذي وقع فيه سلامة الزين أنّ منزلهم كان في النصف الذي اتبع محمود غفلة، على الرغم من كونه طفلاً صغيراً في تلك الفترة، بيد أنّ أخويه الهادي ومهدي قررا اتباع محمود غفلة، وبالتالي يجب أن تتبعه بقية الأسرة، بما فيهم الطفل سلامة الزين.

معضلة الشر الكبرى

الأزمة التي واجهها سلامة الزين لم تكن ظهور المحتسبة، ولا سيطرة أفكار المدرس المصري عضو جماعة الإخوان، ولا تحكمات ابن الدباس، أو عودة محمود غفلة من بلاد الأفغان؛ بل كانت معضلة سلامة الزين في الأثر الذي نتج عن كل ذلك، معضلة جيل بأكمله نشأ وتربى وسط خرافات جماعة الإخوان المسلمين ودينهم الجديد الذي فرضوه على العقل، ليختلّ ميزان الحلال والحرام، وتظهر أزمة معضلة الشر في نفوس الشباب، بين من يسأل عن حقيقة الله وشرّ الإخوان، وهل هما منفصلان؟ وبين من قرر ترك كل ذلك والعيش بعيداً عن فكرة الدين بالأساس.

نحن أمام رواية وثيقة شديدة الأهمية للتاريخ غير الرسمي للمملكة.

يلتقي سلامة الزين في الجامعة بعد 2011 بمجموعة من الشباب يحملون الألم نفسه، ونشؤوا وسط أفكار مرفوضة داخل عقولهم، فبدأت رحلة التحرر، التي تمثلت في مكان يجتمعون فيه كل مساء، للتفكر والنقاش والقراءة والغناء، ثم تطور الأمر وخرجت أفكارهم إلى العلن، ثم كان الصدام بالجماهير الذي عطل كل شيء فجأة.

اكتشف سلامة الزين أنّ هناك خطراً أكبر من ابن الدباس ومحمود غفلة؛ خطر الجماهير ووعيهم الجمعي الرافض للتغيير. وقوتهم التي تستطيع أن تقتل أيّ شيء أمامها إن قرر الوقوف ثابتاً أمامهم، فالتعامل مع الجماهير يجب أن يكون بحساب، فهم ليسوا العالم أو المفكر أو الطبيب أو... أو، إنّهم الجماهير صاحبة السلطة في النهاية، ومن يملك التحكم فيهم يملك التحكم في كل شيء، وربما استطاع الإسلاميون العثور على بعض الثغرات التي سهلت عملية التحكم أو السيطرة أو توجيه الجماهير، فمسألة التحكم على إطلاقها معقدة بعض الشيء، وإنّما مسألة التوجيه مقبولة نوعاً ما.

 في النهاية نحن أمام رواية وثيقة شديدة الأهمية للتاريخ غير الرسمي للمملكة، بعيداً عن التاريخ المدوّن في الوثائق والكتب، إنّما التاريخ الذي وثقته قرية الزاهية وأهلها.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية