
يشير "ما بعد الإسلام السياسي" إلى الفترة أو الظاهرة التي فقدت فيها الحركات الإسلامية قدرتها على تحقيق أهدافها المعلنة أو التحديات الداخلية والخارجية التي جعلت من الصعب عليها الاستمرار كما كانت، وهو ما عبّر البعض عنه بانتهاء زمن الإسلام السياسي، لكنّ آخرين وأغلبهم من غير المتخصصين، يشير ذلك لديهم إلى عدم الجدوى من الرصد أو التناول أو التحليل للحركات الإسلامية والظواهر المصاحبة لها لعدة أسباب أهمها هزيمتها، أو فقد مضمونها بسبب تكرار الحديث عنها، وأولوية الحديث في قضايا أخرى أكثر أهمية.
تحولات الـ "ما بعديات"
يمكن أن يعبّر مفهوم "ما بعد الإسلام السياسي" عن تحولات داخل الحركات الإسلامية أكثر من كونه نهاية لها، مثل التحول نحو العلمنة، واستخدامها الوسائل الديمقراطية مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا والنهضة في تونس، أو دمج بعضها ما بين العمل الحزبي والجماعاتي، أو فصلها ما بين الدعوي والسياسي، خاصة مع التنوع في تجارب هذه الحركات في الدول والمجتمعات، ممّا يجعل من الصعب تعميم مفهوم واحد عليها جميعاً.
لقد أظهرت بعض الحركات الإسلامية قدرة على التكيف والتجديد بدلاً من الانتهاء، نحو مفاهيم أكثر شمولية وديمقراطية تستخدمها كوسيلة مقاومة وكبديل من أجل التوغل في المجتمعات والبقاء، وهذا يعكس تطوراً وتحولاً داخلياً أكثر من كونه نهاية لهذه الحركات.
ويرى البعض أنّ الحركات الإسلامية وجدت صعوبة في التكيف مع المتغيرات الحديثة مثل العولمة والديمقراطية، وفشلت في تطبيق إيديولوجيتها الدينية، وهذا معناه انتهاء زمنها ودخولها في الـ "ما بعديات"، لكنّ ذلك يوحي بتحولات في الفكر والممارسة، وليس نهاية حقبتها وزمنها.
نضرب مثلاً بالسلفية التي انتقلت من الإيمان بالأفكار الإسلامية العامة المستقاة من النموذج الإسلامي التاريخي إلى الإيمان بالعمل السياسي، والتحول إلى معنى جديد يتكيّف مع التطوّرات السياسية، وينسلخ تدريجيّاً من كل المرحلة التاريخية القديمة إلى حالة تتجاوز كل القديم، وإعمال العقل الفقهي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية عامة للمسلمين.
من هنا شهدنا "ما بعد السلفية" التي استطاعت أن تتجاوز نفسها بعد أن احتكت بالديمقراطية التداولية الحقيقية، وأعادت إنتاج خطابها الكلاسيكي لتكسبه طابعاً جديداً قابلاً للحياة في المجتمع والدولة الوطنية، وليس هذا معناه انتهاء زمنها أو فشلها.
الإسلام السياسي لن ينتهي
إنّ الذين يؤيدون مصطلح ما بعد الإسلام السياسي يتحدثون دائماً عن الفشل السياسي أو التحولات الإيديولوجية ناحية الليبرالية والعلمنة، لكنّهم لا يرون الحركات الإسلامية من ناحية حركيتها أو استراتيجيتها أو تحولاتها السياسية، والتي تعبّر كلها عن بقائها وتكيفها وقدرتها على التواجد برغم ظروف الحصار والحرب.
لننظر إلى الإخوان كجماعة قُطرية ما تزال موجودة في العديد من الدول من الناحية الاقتصادية والسياسية والدعوية، ولننظر إلى شبكة تنظيمها العالمي الموحّد، لننظر إلى قطاعاته المختلفة وسياسته الشبكية والمؤسساتية الميدانية، فهل هذا يشير إلى ما بعد الإسلام السياسي أم إلى بقاء الإسلام السياسي؟
ويثبت استمرار تنظيم (داعش)، رغم فقدانه لأراضيه في العراق وسوريا، وتحوله إلى الاعتماد على العمليات الإرهابية الفردية واللّامركزية، وإلى شكل جديد أكثر تعقيداً وانتشاراً، للدرجة التي يسيطر فيها على مناطق كبيرة بعينها، ويقوم بعمليات كبرى في إيران وموسكو... إلخ، ويهدد بالمزيد في عواصم أخرى، يثبت أنّ الحديث عن انتهاء زمن الإسلام السياسي وما بعده هو محض كلام أكاديمي لا يتجاوز الغرف المغلقة التي تم تناوله فيها، أو صفحات الكتب وسطورها.
أمّا تنظيم (القاعدة)، فعلى الرغم من تراجع نفوذه، إلا أنّه ما يزال نشطاً في بعض المناطق مثل اليمن وأفغانستان، ودول الساحل والصحراء، وأعلن عن أكثر من (100) عملية خلال الشهور المنصرمة، ووصل إلى مناطق جديدة مثل الهند، التي أعلن منها عن مدونة السلوك الجديدة له.
إذن، فبينما يشير العديد من الصحافيين والمهتمين وبعض الباحثين إلى انتهاء أو فشل الإسلام السياسي، ودخولنا في مرحلة "ما بعد"، تبقى الحركات الإسلامية قادرة على التكيف والتحول بطرق مختلفة، لتعكس خطأ الحديث عن فشل الإسلام السياسي إن تناولناه من باب البقاء والتأثير، وليس من باب تحقيقه لأهدافه الإيديولوجية.
ومن هنا فأخطاء تناول هذا المصطلح تكمن في التعميم الزائد، إذ غالباً ما يتم تناوله ليشمل كافة الحركات الإسلامية في مختلف الدول، دون مراعاة الفروق الجوهرية بينها والتجارب المختلفة التي مرت بها، وكذلك الفهم السطحي للتحولات الداخلية، وإهمال العوامل المحلية والسياقات الوطنية التي تؤثر على مسار الحركات الإسلامية، مثل العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.