
لطالما كانت أوروبا مساحة رحبة لأنشطة جماعة الإخوان المسلمين، خاصة في الفترات التي عانت الجماعة خلالها تضييقات في المنطقة العربية، وقد بدا ذلك واضحاً منذ 2013، لكن مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم مؤخراً في عدة دول أوروبية، يبدو أنّ ميزان القوة ليس في صالح التنظيم الذي يواجه العديد من الأزمات في الوقت الراهن.
في السياق، ترصد دراسة حديثة صادرة عن مركز (رع للدراسات الاستراتيجية)، للباحثة أسماء دياب، حالة قلق وترقب تعيشها جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا؛ بسبب صعود الأحزاب اليمينية الراديكالية في البرلمان الأوروبي، وداخل برلمانات بعض الدول الأوروبية، ممّا يمثل تهديداً وجودياً لعناصر الجماعة المهاجرين منذ عقود.
وقد تزامن هذا مع احتقان أصاب الأوساط السياسية والشارع الألماني إثر تظاهرات خرجت في ألمانيا منذ شهر من قبل متطرفين تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت إحدى نتائجها تقديم الحكومة الألمانية مشروع قانون، تعديلاً لقانون "الحق في الإقامة"، يتضمن طرد الأجانب الذين يوافقون على فعل إرهابي أو يروجون له، وما يزال القانون المقدم منذ أيام ينتظر موافقة البرلمان الألماني ليدخل حيز التنفيذ.
وتشير الدراسة إلى أنّ المناخ الذي أفرز هذه التحركات من جماعات الإسلام السياسي، وتحركات مضادة من الحكومات الأوروبية، خلق حالة من القلق المحمل بالمخاوف من حصول الأحزاب اليمينية على نسب تصويتية، تمكنهم من الهيمنة على التشريعات أو تشكيل حكومات في بعض الدول الأوروبية، أو تكوين تحالفات داخل البرلمان الأوروبي تشكل قوة موجهة، تلك التخوفات تتمثل في توقع قيام اليمين الراديكالي بمجموعة من التدابير والإجراءات فور تمكنه، من شأنها تهديد مصالح جماعات الإسلام السياسي، خاصة الإخوان المسلمين، بل تهدد وجودهم داخل أوروبا، ممّا يثير التساؤلات؛ ما الإجراءات المتوقعة من اليمين المتطرف التي تدعو جماعة الإخوان إلى القلق؟ وما مصير عناصر جماعة الإخوان في حالة التضييق عليهم في أوروبا نتيجة الإجراءات المتوقعة؟
أزمة كبرى للإخوان
لم يستطع عناصر جماعة الإخوان، وفق الدراسة، إخفاء تخوفهم من صعود أحزاب اليمين الراديكالي في الانتخابات الأوروبية، وقد ظهرت تخوفاتهم من خلال تصريحات لبعض عناصر الجماعة عبر صفحاتهم الإلكترونية، ومن خلال الإعلام الفضائي للجماعة، خاصة مع اتخاذ إجراءات فعلية وسنّ تشريعات تهدف إلى مراقبة وتحجيم نشاط جماعة الإخوان في أوروبا خلال الأعوام الـ (5) الأخيرة.
وقد صدرت عدة قوانين أوروبية في هذا الإطار؛ منها صدور قانون 25 آب (أغسطس) 2021 "تعزيز احترام المبادئ الجمهورية"، المعروف إعلامياً بقانون "محاربة الانفصالية الإسلاموية"، ويهدف القانون إلى الرقابة على التمويل والتبرعات التي تتلقاها الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، حيث تسيطر الجماعة على الجمعيات والمؤسسات ودور العبادة الإسلامية، كما يجرم القانون عقد اجتماعات سياسية داخل المساجد.
في السياق نفسه؛ سعى الرئيس ماكرون، لأسباب سياسية تتمثل في تحجيم نشاط الإسلام السياسي في فرنسا، إلى عرقلة تمدد وجود اليمين الراديكالي، الذي يكتسب شعبيته من نشر دعاية الخوف من الإسلام السياسي، فضلاً عن الأسباب الأمنية التي تتعلق بمكافحة موجة العمليات الإرهابية التي اجتاحت فرنسا منذ 2015، من خلال وقف نشاط بعض المنظمات والجمعيات التي تتزعمها قيادات دينية ذات نزعة سياسية متطرفة، وترحيل بعض الشخصيات التابعة للإخوان المسلمين بسبب تهم تتعلق بالتطرف والكشف عن مصادر تمويل مشبوهة، مثل (أحمد جاب الله) رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا سابقاً (الفرع الأوروبي للإخوان المسلمين)، والقيادي السابق في حركة النهضة التونسية (أحمد الورغمي).
كذلك اتخذت ألمانيا إجراءات أمنية مكثفة تهدف لتحجيم نشاط الإسلام السياسي، تمثلت آخر تلك الإجراءات في تقديم الحكومة الألمانية مشروع قانون يوجب ترحيل أيّ شخص يمجد التطرف، ولم يوضح القانون مفهوم التطرف على وجه الدقة، ممّا يتيح المجال للسلطات لترحيل أيّ مهاجر تحت هذا الوصف، وجاءت تلك الإجراءات الأوروبية نتيجة تقارير أمنية واستخباراتية أوروبية، حذرت من توغل جماعة الإخوان وشبكاتها المالية والسياسية في المجتمع الأوروبي، وتزايد عناصر قيادات الإخوان في العاصمة برلين، فقد زادت العناصر المؤثرة في تنظيم الإخوان في ألمانيا من (1350) عام 2019 إلى (1450) عام 2020، ونتج عن ذلك ظهور إيديولوجية الجماعة، وطفوها على السطح في المجتمع الأوروبي، كذلك اتخذت النمسا وبريطانيا والسويد إجراءات مشابهة ضد الجماعة لأسباب سياسية وأمنية.
تضييق مرتقب
صرحت قيادات لأحزاب يمينية أوروبية في مواقف سابقة مختلفة عن عزمها القضاء على جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا، منهم (مارين لوبان) المرشحة الرئاسية اليمينية السابقة في فرنسا، حيث قالت في سياق الدعاية الانتخابية السابقة: "الحديث عن موقف لديها من الإسلام غير صحيح، وإنّ جماعة الإخوان المسلمين هي مقصد الحملة التي يشنها اليمين الفرنسي"، وأكدت (لوبان) "أنّ الإخوان المسلمين يجب أن يخافوا منها، لأنّها ستعمل على تطهير فرنسا منهم"، كما صرحت في أيلول (سبتمبر) 2022 أمام تأييد حاشد من أنصارها: "يجب تجريد المواطنين مزدوجي الجنسية المرتبطين بالإيديولوجية الإسلاموية من جنسيتهم وطردهم، والفرنسيون الذين يتبنون عقيدة العدو يجب تقديمهم للعدالة ومعاقبتهم، وسيتم طرد دعاة الكراهية والجمعيات السلفية، وسوف نحلّ جماعة الإخوان المسلمين".
وتعتبر هذه القيادات أنّ تقويض خطط الجماعات المتطرفة لأسلمة أوروبا، وفق الوثائق التي حصل عليها الأمن في منازل قيادات إخوانية، منهم يوسف القرضاوي قبل وفاته، مسألة تتعلق بالأمن القومي الأوروبي، فقد دعا القرضاوي إلى "الفصل بين المسلمين الذين يعيشون في أوروبا والحضارة الأوروبية" حين قال: "فلتسعوا إلى إقامة الجيتو الإسلامي الخاص بكم في أوروبا"، وبذلك يُعدّ القرضاوي أوّل من رسخ وأسس فكرة الانعزالية الإسلامية داخل المجتمع الأوروبي.
بناء عليه؛ يتوقع الخبراء، كنتيجة لصعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، تمكنه من اتخاذ إجراءات وسنّ تشريعات ضد المهاجرين من الإخوان المسلمين، وكذلك ضد المجنسين من الأجيال الجديدة من أبناء الجماعة الذين تمكنوا من نشر إيديولوجية الجماعة من خلال تقديم أنفسهم باعتبارهم الممثل الحصري للإسلام داخل أوروبا، خاصة مع قدرتهم على مخاطبة المجتمع الأوروبي لنشأتهم فيه أبناء الإخوان من الجيلين الثالث والرابع، ممّا مكنهم من التغلغل في مؤسسات صنع القرار والمؤسسات البحثية والإعلامية.
الملاذات البديلة
وفق الباحثة، استهدفت الجماعة (3) دول أوروبية في المقام الأول بشكل رئيسي لتتمركز فيها قيادات الجماعة، هي فرنسا وألمانيا وإنجلترا، بغرض ممارسة أنشطة الجماعة، ورسم الخطط وتنفيذها لمهاجمة الدول العربية، فمع إعلان تلك الدول حزمة من الإجراءات ضد الجماعة، مع توقع استمرار وتصاعد وتيرة تلك الإجراءات في الفترة المقبلة، رفعت الجماعة من حدة اعتماد سياسة ترويج المظلومية بتوظيف مصطلح "الإسلاموفوبيا" لشحن مشاعر المسلمين الأوروبيين وغير المسلمين من الليبراليين للتعاطف معهم، كنتيجة تردّ بها الجماعة على تلك الإجراءات الأوروبية، وكذلك استغلال أحداث غزة وتوظيفها أداة لجمع تبرعات تصب في خزينة الجماعة.
على الجانب الأخر تبحث الجماعة عن دول تصلح أن تكون ملاذات بديلة، ربما تضطر بعض عناصر الإخوان اللجوء إليها من المعرّضين للترحيل من دول أوروبا، خاصة في ظل احتمالية عودة (دونالد ترامب) إلى الحكم في الولايات المتحدة، الذي يُعدّ أكبر معادٍّ لجماعات الإسلام السياسي، فقد عمل (ترامب) على محاولة تصنيف جماعة الإخوان جماعة إرهابية من قبل الكونجرس الأمريكي خلال فترة حكمه، حيث هاجرت إلى الولايات المتحدة أعداد من قيادات الجماعة من الصفين الأول والثاني في فترات تاريخية مختلفة، ومن الدول المحتمل هروب عناصر الجماعة إليها ماليزيا، وباكستان، وإيران، وسنغافورة، بفعل اشتداد الأزمة الخانقة التي تطارد الجماعة.
وتخلص الباحثة إلى أنّ الأوضاع السياسية الدولية في الدول الأوروبية وأمريكا (صعود اليمين الأوروبي، أحداث غزة) قد تؤدي إلى التضييق على جماعة الإخوان، ووضع تعريفات للتطرف قد تشمل اعتبار الإخوان تنظيماً متطرفاً، كما فعلت إنجلترا، فضلاً عن تصنيف مجموعات وجمعيات وأشخاص مرتبطة بالإخوان باعتبار أنّها تنظيمات وشخصيات متطرفة.
غير أنّ اعتبار جماعة الإخوان جماعة مصنفة إرهابية في أوروبا بشكل عام محتمل في بعض الدول الأوروبية دون غيرها، فالأنظمة والاستخبارات الأوروبية ما زالت في حاجة لاستخدام ورقة الجماعة كأداة ضغط على الأنظمة العربية، وبالتالي استخدام استراتيجية العصا والجزرة، بنسب متفاوتة ما زالت مستمرة إلى إشعار آخر.