
أجرى الحوار: كريم شفيق
ما تزال جماعة الإخوان، وذراعها السياسية في اليمن حزب (الإصلاح)، تفاقم الأزمات، وتمارس عدة أدوار مشبوهة وتخريبية، طالت الدولة والثورة، وتسببت في انحرافاتها عن مسار التغيير ثم الاستقرار والتنمية، بل إنّ الجماعة الإسلاموية تواصل اصطفافها مع الميليشيات الطائفية المسلحة المماثلة لها في الجناح الشيعي، بينما القاسم المشترك في ظل التباين الظاهري بينهما هو إدارة النهب واستغلال الموارد لصالح اقتصادياتهم العسكريتارية، فضلاً عن قمع المدنيين وتحويلهم إلى رهائن في سبيل أجندة إقليمية مشبوهة.
وحول الدور التخريبي للإخوان في اليمن، التقت (حفريات) الأكاديمي اليمني قاسم المحبشي، أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة، بكليّة الآداب في جامعة عدن، والذي سبق أن تعرّض لتهديدات بالتصفية الجسدية من القوى الإسلاموية المتشددة، والمحبشي حاصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ والحضارة من كليّة الآداب ـ جامعة بغداد عام 2004، وماجستير في الفلسفة المعاصرة من كليّة الآداب ـ جامعة عدن، وبكالوريوس في التربية والآداب من قسم الفلسفة والاجتماع بجامعة عدن، وتولى منصب نائب عميد كلية الآداب للشؤون الأكاديمية، ورئيس قسم الفلسفة بكليّة الآداب جامعة عدن في الفترة بين عامي 2007 و2010.
وقد سبق لمجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية أن أعلن أنّ المحبشي اضطر إلى الاختفاء إثر تعرّضه لتهديد بالقتل من جهة مجهولة. وأوضح الدكتور المحبشي أنّه قام بإبلاغ السلطات الأمنية المعنية بكافة حيثيات التهديد وتفاصيله، وطلب منها فتح تحقيق بالقضية، لكنّه لم يتلقَّ أيّ رد حتى اللحظة، وأنّه سيبقى مختفياً حتى اكتشاف هوية الجهة التي هددته.
نص الحوار:
كيف ترى الأحزاب الإسلامية في عالمنا العربي؟ وهل نجحت في حل تناقضاتها؟
ـ الأحزاب الإسلامية تعكس مفارقة منطقية، فكيف يمكن السماح لجماعة سياسية أن تدّعي إنّها إسلامية في مجتمعات مسلمة من رأسها حتى أخمص قدميها؟ فهي بذلك تستأثر بكل مقومات وعناصر القوة المادية والرمزية التي تنطوي عليها المؤسسة الدينية؛ بوصفها أهم وأخطر المؤسسات الاجتماعية الثقافية التاريخية التقليدية الراسخة في حياة المجتمعات البشرية، التي وفرت للفاعلين الاجتماعيين إطاراً عاماَ للانتماء والتماهي مع مجتمعاتهم المحلية، في صيغة تضامنية ميكانيكية، ومنحتهم الشعور بذاتيتهم الجمعية، بوصفهم هوية (نحن) متميزة في مقابل الآخرين (هم)، فضلاً عن منحهم عقيدة عامة ورؤية كليّة في تصوير وتعريف وتبرير وتأكيد أنفسهم وعلاقتهم بالله والكون والحياة والتاريخ والعالم.
ومن الأخطاء القاتلة السماح للناس بتأسيس أحزاب سياسية تحمل أسماء دينية، وتدّعي تمثيل الدين، الذي هو شأن عام لجميع أفراد المجتمع المتعين بلا استثناء، حتى أولئك الذين فقدوا الإيمان به ولم يعد يستهويهم.
كيف استغل الإخوان وأنصارهم أدوات الديمقراطية من أجل الصعود السياسي؟
ـ شاهدنا بأمّ أعيننا وعشنا مأساة استزراع الديمقراطية في البلدان العربية، وما تمخض عنها من ثورات الخراب العربي الوبيل؛ بسبب صعود أحزاب الإسلام السياسي في مختلف الدول العربية، ومنها اليمن. وقد بينت تلك التجربة وما وفرته من تغذية راجعة أنّ الديمقراطيات لا تجعل المجتمعات دائماً أكثر تحضراً، لكنّها تفضح دائماً، وبلا رحمة، صحة المجتمعات التي تحاول تجريبها … فإذا كان المجتمع في صحة غير معقولة، فإنّ الديمقراطية لن تكون فقط محفوفة بالمخاطر، بل ربما تكون كارثة أيضاً. وهذا يعني أنّ المشكلة ليست في التعددية الحزبية والانتخابات، بل في خلق مؤسسات بيروقراطية قانونية حديثة مستقرة قوية، وقادرة على تهيئة الملعب السياسي العمومي المستقل، وقواعد لعبته الخاصة المحايدة، التي تقف على مسافة واحدة من جميع أفراد الشعب الذي تمثل سيادته، بوصفهم مواطنين أحراراً على درجة متساوية من القيمة والأهلية والحقوق، بغضّ النظر عن مرجعياتهم وهوياتهم المختلفة.
كيف يمكن السماح لجماعة سياسية أن تدّعي إنّها إسلامية في مجتمعات مسلمة من رأسها حتى أخمص قدميها؟
أمّا في ظل غياب المؤسسة البيروقراطية القوية، مؤسسة المؤسسات (أي الدولة الوطنية الجامعة العادلة)، مثل حال معظم المجتمعات العربية الراهنة، فلن تخدم الديمقراطية والانتخابات إلّا قدرة القوى الاجتماعية والهويات التمزيقية، وغالباً الرجعية؛ في هدم بنية السلطة العامة وشبكات الأمان الاجتماعي. وهو ما أكدته الوقائع الشاخصة من اليمن العراق وليبيا وسوريا والصومال وغيرها، التي تصدعت فيها دول الجمهوريات تصدعات عمودية وآفقية طائفية وقبلية ومناطقية وجهوية تقليدية.
وما الذي حدث في اليمن؟ وكيف تمكن الإخوان من تغذية مكونات وجودهم وتوظيف الثورة لصالح مشروعهم؟
ـ يُعدّ حزب الإصلاح اليمني؛ فرع الإخوان المسلمين الدولي في اليمن، أهم الأحزاب وأكثرها تدميراً للثورة والجمهورية اليمنية، وذلك باعتراف قيادات الحزب ذاتها. قبل شهرين مات زعيم حزب الإخوان الروحي في اليمن عبد المجيد الزنداني في تركيا؛ فتذكر الشيخ الإخواني عبد الله العديني، في محاضرة لشباب حزب الإصلاح يحثهم فيها على مواصلة السير في طريق شيخهم الكبير، وذكّرهم بفضائله، وذلك في فيديو على صفحته جاء فيه: "إنّ حزبهم (جماعة الإخوان المسلمين في اليمن) أنشِئ لغرض مقاومة ثورة 26 أيلول (سبتمبر) 1962م وجمهوريتها المخالفة للحكم الإسلامي، وتم إسقاطها ودعسها بالإقدام، والحمد لله على نعمة الإسلام".
ومن المعروف أنّ بذور حزب الإصلاح (إخوان اليمن) زرعت في الأربعينيات على يد الفضيل الورتلاني، الداعية الجزائري الذي كلّفه حسن البنا، مؤسس الإخوان في مصر، بإنشاء جناح للحركة في اليمن. وسوف تمرّ (50) سنة أخرى حتى يتم تشكيل حزب الإصلاح رسميّاً، عندما أصبحت الأحزاب السياسية قانونية في اليمن، في تسعينيات القرن المنصرم، بحسب الأكاديمي اليمني.
لعب التنظيم دوراً خفيّاً في إدارة عناصر التطرف والإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، بالتنسيق مع أجهزة استخباراتية تابعة لنظام صالح
وسمح التفاهم بين الرئيس السابق علي عبد الله صالح، والزعيم القبلي القوي عبد الله بن حسين الأحمر، للأخير بالمساهمة في تأسيس حزب الإصلاح؛ لتحقيق التوازن على حساب الاشتراكيين في اليمن الموحد حديثاً، وفقاً لسيرة الأحمر الذاتية. ومع ذلك، فإنّ الكثير من أعضاء الحزب اليوم يعيشون في المنفى، ومنذ تأسيسه سعى حزب إخوان اليمن للسيطرة على الدولة اليمنية، حيث ظل جزء من منظومة (الدولة اليمنية)، وكان لجماعة إخوان اليمن دور بارز في شيوع ظاهرة الإرهاب ضد القوى الوطنية وأحزابها، وكان دورهم بارزاً في قمع الحركة الوطنية في المناطق الوسطى في ثمانينات القرن الماضي.
ولعب التنظيم دوراً خفيّاً في إدارة عناصر التطرف والإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، بالتنسيق مع أجهزة استخباراتية تابعة لنظام صالح، وتم استخدام تلك العناصر ورقة ضد الجنوب الاشتراكي، وكان لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن دور بارز في استقدام الجهاديين العرب بعد خروج الروس من أفغانستان، وضمنوا لهم ملاذات آمنة، واستخدموهم في تنفيذ فتوى تكفير الجنوب في حرب 1994م، وما زال إخوان اليمن يقومون بذلك الدور حتى اليوم في عمليات تخادم بين الإخوان والحوثي، وبين الإخوان والإرهاب.
وقد بدأت تتكشف بوضوح حقيقة الأدوار المشبوهة للإخوان بعد خلافهم مع نظام عفاش عند قيام ثورة الشباب في صنعاء المطالبة بإسقاط النظام.
وارتفعت أسهم إخوان اليمن بعد وصول أول حزب إسلامي في المنطقة إلى السلطة بفوزه بالرئاسة في مصر عام 2012، فقد أصبح الإسلاميون في اليمن أكثر قوة، ووصلوا إلى ذروة اعتقادهم بأنّ عصر التمكين وعودة الخلافة على وشك أن ينكشف، كما جاء في كلمة ألقاها في ذلك الوقت عبد المجيد الزنداني في ساحة التغيير بصنعاء.
أدى سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، الذي لم يدم طويلاً، في تموز (يوليو) 2013، إلى تقليم أظافر انتفاضات الربيع العربي، وشعرت بارتدادات سقوطه الحركات الإسلامية السنّية في جميع أنحاء المنطقة، التي وصلت إلى السلطة من خلال العديد من الثورات الشعبية. وفي اليمن فتحت فصلاً صعباً أمام المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين. ولم يساعد تطور الأحداث اللاحقة في تونس، وانهيار نظام عمر البشير المتحالف في السودان، في أن يجعل من صباحاتهم أفضل بعد ذلك قط.
جعل الإخوان الثورات العربية ربيعاً إخوانياً، "الربيع الإخواني" جعلوه منطلقاً لتنفيذ أجنداتهم ومحاولة زعزعة الدولة الوطنية، فنجحوا في بعض البلدان وأخفقوا في بعضها، وكان تنبه الجيش المصري أقوى عامل، حيث هزم مشروعهم الذي بمجرد أن انهزم في مصر، تداعى بالانهيار في بقية البلدان العربية، لكنّه ظل مؤثراً ويلعب دوراً تخريبياً في اليمن، شماله وجنوبه، حتى اليوم.
وما أبرز التداعيات التي نتجت عن صعود الإخوان في اليمن؟ وكيف أدى ذلك إلى تخريب بنية الدولة ومؤسساتها؟
ـ أسهم حزب إخوان اليمن إسهاماً حاسماً في تدمير الدولة ومؤسساتها الحديثة في اليمن؛ المؤسسة التربوية والتعليمية والمؤسسة السياسية الدستورية والمؤسسة العسكرية والأمنية، فضلاً عن تأسيس التطرف والإرهاب في اليمن، إذ لم يكن اليمنيون يعرفون التطرف والعنف والإرهاب إلا بعد تأسيس حزب الإصلاح لهذا الغرض، كما قال مؤسسه الرئيسي الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي كشف في كتابه عن سرّ تأسيسه، وحيثياته، فقام بوظيفته كاملة في تدمير ما بقي من النسيج الوطني اليمني، ببيان تكفير الجنوب الشهير في حرب 1994 الغاشمة.
وأين دور النخب اليمنية؟ ألم يتصدّ أحد لمحاولات الأخونة المتواصلة عبر عقود طويلة؟
ـ أتذكر الآن مناظرة يتيمة، أعلن عنها في صنعاء ذات يوم من عام 1992، في صباح ذلك اليوم ذهبت إلى كليّة الآداب بجامعة صنعاء، وشاهدت جموعاً محتشدة بجانب قاعة جمال عبد الناصر؛ معظمهم بالزي اليمني التقليدي، وبعضهم يحملون أسلحة نارية. سألت أحدهم: ماذا يوجد هنا؟ فأجابني: مناظرة فكرية بين الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور أبو بكر السقاف، شكرته وتوجهت مباشرة إلى القاعة.
كانت مزدحمة بذوي الرؤوس المعممة ولم ألحظ الطلاب، أخذت مكاناً في الخط الثاني في زاوية قريبة للمنصة التي كانت خالية، بعد (10) دقائق من الانتظار الممل في قاعة تعج بالضجيج القبلي، دخل الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف منفرداً لا يرافقه أحد، فنهضت لاستقباله وعرفته بنفسي فأنا من المعجبين به وبكتاباته الرصينة. رحب بي وجلس في حالة من الذهول والدهشة من نوعية الحضور.
بعد (3) دقائق اكتظت البوابة العريضة بسيل من المسلحين الرسميين والقبليين برفقة الشيخ الزنداني، نهض معظم الذين كانوا في القاعة مرددين الشعار الأثير (الله أكبر)، مع همهمات غير مفهومة. شق موكب الزنداني طريقة مباشرة إلى المنصة في مشهد احتفالي غوغائي من التصفيق الحماسي. أجلسوا الشيخ على المقعد الأول في المنصة. كان مبتسماً كعادته ابتسامة الواثق من نفسه وربه، فحضر شخص آخر كان عضواً في هيئة التدريس في الجامعة، لم أعد أتذكر اسمه، ربما هو (منصور الزنداني)، وعلمت أنّه كان رئيساً لنقابة هيئة التدريس في الجامعة حينها، أخذ الميكرفون وافتتح الجلسة بمقدمة طويلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والترحيب بالشيخ الجليل، وقال بلهجة ساخرة: أين الفيلسوف أبو بكر السقاف؟ ردّ السقاف بصوت خفيض: أنا هنا. قال: تعالَ إلى المنصة نبدأ المناظر الفكرية! ردّ السقاف: أيّ مناظرة فكرية في ثكنة عسكرية؟ لن أصعد إلى المنصة قبل أن تختفي هذه المظاهر المسلحة، ليس خوفاً منها، ولكن احتراماً للمؤسسة الأكاديمية وللفكر ذاته.
أتدرون ماذا كان ردّ الشيخ الزنداني؟! قال بلكنة ساخرة تفتقد إلى أيّ خلق فكري: هؤلاء جند الله لا تخف منهم، اصعد يا سقاف! نهض الدكتور أبو بكر بحقيبته المعلقة على كتفه، وانصرف بهدوء من القاعة، فضجت بالتصفيق البليد بانتصار الشيخ على الفيلسوف.
انتظرت أن أرى ما الذي سوف يحدث بعد انسحاب الدكتور أبو بكر من القاعة، فكانت محاضرة دعوية تحريضية ضد الفكر والفلسفة والمفكرين الأحرار، ردّد خلالها الشيخ الكثير من الترهلات والخزعبلات التي لم ما أنزل الله بها من سلطان، في قاعة تعجّ بتلاميذه فقط.
وكيف كانت ردة فعلك؟
ـ شعرت بحالة من الخوف والغثيان، وأيقنت أنّ البلاد ذاهبة في "ستين داهية". لم أكمل الاستماع، وخرجت بعد أن سمعته يصرخ بضرورة إغلاق أقسام الفلسفة في الجامعات اليمنية، وتحويلها إلى أقسام للعلوم الشرعية. وهذا ما تحقق بعد أيام حيث تم إغلاق قسم الفلسفة في كليّة التربية بصنعاء.
خرجت من القاعة وأنا أتصبب عرقاً في عز الشتاء. حمدت الله على أنّني غريب في وسط هذه الجلبة، ولا أحد يعرفني أو يعرف تخصصي. هل يوجد إرهاب فكري أكثر من هذا؟ من يتجرّأ على الكلام؟ وكيف يمكن للفكر والعلم والمجتمع أن ينمو ويزدهر في بيئة قمعية متوحشة مثل هذه؟!
في ضوء ذلك، تنامت خطابات الشيخ التكفيري المسلح، وتمّ تهميش خطاب الفيلسوف الفكري العقلاني، فضاعت البلد في مهب العاصفة. فالحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، والعلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة.
هل يعني ذلك أنّ الحرية للمفكر هي السبيل إلى التغيير، وأنّ حرية التفكير لا الديمقراطية الشكلية هي السبيل إلى الخلاص؟
ـ كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي من أخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، وقد أعطى العلم، بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح؛ لذا فإنّ العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء، منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أنّ الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بآخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف: "بما أنّ العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها، فإنّه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص، وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي، التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها".
كروبر: "إنّ حاجة العلم إلى الحرية مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين"
ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلا بدّ لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أنّ الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، ويقول كروبر: "إنّ حاجة العلم إلى الحرية مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أمّا إذا طليت النوافذ بالسواد، كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدّمه وازدهاره. وبدون أن تؤمّن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار. هكذا نلاحظ أنّ حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أسّ الأسس ولبّ المسألة برمّتها. كان أبو بكر السقاف هو الفيلسوف اليمني الوحيد تقريباً، ولم يكن له تلاميذ يصرخون، بينما الشيخ الزنداني تناسل له آلاف التابعين المسلحين بالفتاوى والعبوات الناسفة، وأسس جامعة الإيمان في صنعاء بدعم سخي من السلطة الجمهورية الوحدوية، التي كانت هناك، وصارت اليوم أثراً بعد عين.