تأملات في ظاهرة محمد صلاح

تأملات في ظاهرة محمد صلاح


13/06/2018

محمد شومان

بعد 48 ساعة، يلعب منتخب مصر مباراته الأولى في كأس العالم 2018، الفريق يشارك لأول مرة منذ 28 عاماً، ومع ذلك فإن سقف توقعات المصريين يتجاوز قدرات الفريق ونتائج مبارياته الأخيرة والسبب محمد صلاح، نجم فريق ليفربول الإنكليزي والذي حصد خلال هذا العام عدداً من الألقاب منها هداف الدوري الإنكليزي، وأفضل لاعب بإنكلترا، وأحسن لاعب في إفريقيا.

صلاح صار ظاهرة مصرية وعربية، أيقونة للنجاح الفردي المعتمد على الموهبة والجدية، نشأ في أسرة بسيطة في إحدى قرى دلتا النيل، حيث لا يوجد بها نادٍ رياضي أو مدرب لكرة القدم، لكن الطفل الصغير كان لديه حلم وأمل... كان يسافر ست ساعات يومياً لكي يتدرب في نادي «المقاولون العرب» بالقاهرة، وهناك مارس شغفه بكرة القدم وأكد موهبته، وصمد وواصل اجتهاده بعد أن رفضت الأندية الأكبر والأكثر شهرة كالأهلي والزمالك ضم الفتى الريفي، لم ييأس صلاح وتعب على نفسه وموهبته... إلى أن التقطته أندية أوروبا وصولاً إلى ليفربول محطته الأخيرة، حيث أمضى موسماً كروياً كان الأفضل بالنسبة له وبالنسبة لناديه وجماهيره، فقد صار اسمه مطروحاً في منافسة مشروعة مع أبرز نجوم الكرة في أوروبا والعالم وأصبح من أغلى وأشهر نجوم الكرة، بسبب موهبته وجديته وتواضعه وخلقه الطيب واعتزازه بوطنه وثقافته، باختصار قدم صلاح نموذجاً إيجابياً لشخصية المصري – العربي – المسلم، كما قدمت جماهير الكرة الإنكليزية وزملاؤه في الملعب تسامحاً ومحبة لسلوكيات صلاح وتمسكه بدينه، وسجدة الشكر لله كلما أحرز هدفاً أو أدى دوره في الملعب بطريقة مرضية.

نشأة صلاح البسيطة، وإصراره على تحقيق حلمه وشغفه بكره القدم، المصاعب والمشكلات... الغربة والحياة في أوروبا... تضحيته بالدراسة التقليدية والرتيبة في مصر... كل ذلك وربما أكثر يمكن أن تجده في حياة بيليه أو مارادونا أو غيرهم من نجوم كره القدم، لكن استقبال وقراءة المصريين قصة صلاح ونجاحه لها طعم آخر ودلالات أكثر تركيباً... دلالات ترتبط بالمرحلة التاريخية التي تعيشها مصر والمصريون ويتطلعون فيها على المستوى الجمعي أو الفردي لنجاح ما، من هنا تماهت غالبية المصريين مع صلاح بمن فيهم غير المهتمين بكرة القدم، وشعروا بأن هناك أملاً وفرصاً متاحة للنجاح، وتحول صلاح إلى ظاهرة - أيقونية، فالشباب في القرى والمدن يرسمون جداريات لصلاح ويعلقون صوره في غرفهم أو يضعونها على صفحات الـ «فايسبوك»، ويتابعون مباريات صلاح... وأخباره وأحاديثه بولع واهتمام شديدين، ويحتفون به في وسائل التواصل الاجتماعي.

يشكل الشباب المصري حوالي 60 في المئة من المجتمع، ومع ذلك فإنه يشكو من البطالة والتهميش السياسي والاجتماعي والإحباط بعد ثورتين، لذلك بدا نجاح صلاح – الظاهرة -نجاحاً لهم، ودليلاً مقنعاً على أنهم قادرون على العمل والتفوق والوصول إلى العالمية إذا توافرت لهم الظروف، باختصار رأى كل شاب نفسه في صلاح، بخاصة أبناء القرى البعيدة عن القاهرة الذين يقاومون الإهمال وضعف الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومواصلات... لكن صلاح واحد منهم... وهم مثله قادرون على العمل والاجتهاد والنجاح.

هكذا تعددت القراءات لظاهرة صلاح... ومع كل قراءة كان هناك توظيف ما، نفسي – اجتماعي أو سياسي أو دعائي، أو ديني، فالإعلام الحكومي ركز على تبرعات صلاح السخية لأهل قريته، وتبرعه لصندوق تحيا مصر. ووجد في ذلك نموذجاً وقدوة أمام كل المصريين لمساعدة وطنهم. بينما سعت حملة حكومية لمحاربة إدمان المخدرات لتوظيف نجاح صلاح في إقناع الشباب بالابتعاد من المخدرات حيث شارك صلاح متبرعاً في إعلانات تلك الحملة، وبالتوازي استفادت شركة للهاتف من ظاهرة صلاح في حملة إعلانية بدت مشروعة تماماً، فالرجل يتبرع لأبناء قريته ووطنه، وبالتالي لم تظهر أي انتقادات لظهوره في إعلانات تجارية للترويج لخدمة أو سلعة ما.

لكن الخيال الشعبوي وبعض الكتابات الصحافية قدمت القراءة والتوظيف الأغرب لظاهرة صلاح، حيث راهن البعض على نجاح صلاح في تحسين صورة العرب والمسلمين في بريطانيا وأوروبا، وتحمس آخرون فأشاروا إلى دخول بعض الإنكليز إلى الإسلام تأثراً بأخلاق صلاح وموهبته، وإسلامه الوسطي المعتدل. وثمة قراءة أخرى حالمة ترى أن صلاح قادر على قيادة منتخب مصر لاجتياز الدور الأول في البطولة، والصعود إلى الدور الثاني بالمونديال في إنجاز لم يسبق للفريق تحقيقه، لكن وبحسب أغلب المحللين الرياضيين فإن قدرات وإمكانيات المنتخب المصري لا تمكنه من ذلك، لكن الخيال الشعبي والقراءة بالأمنيات حولت صلاح إلى صانع معجزات، أو صانع للفرح... فرح المصريين بإنجاز ما بعد أن عزت عليهم الإنجازات والانتصارات منذ سنوات.

أعتقد أن القراءات السابقة وغيرها تحمّل صلاح فوق طاقته، فهو في التحليل الأخير فرد في فريق أو أيقونة نجاح فردي، شكل ظاهرة جمعت غالبية المصريين والعرب، ومنحتهم الشعور بالفخر وبإمكانية النجاح، لكن صلاح الفرد لا يمكنه أن يغير صورة العرب والمسلمين بمفرده مهما أحرز من أهداف، ومهما حصل على جوائز، ولا يمكن لتبرعات صلاح السخية لقريته أن تغير من الأوضاع الصعبة لقريته، فما بالنا بأوضاع مصر. أيضاً لا يمكن لصلاح مهما تفانى في المباريات التي سيلعبها مع فريق بلاده أن يحرز النصر، لأن كرة القدم لعبة جماعية تعتمد على جهود وتعاون 11 لاعباً، والمدهش أن الخيال الشعبوي والتغطيات الإعلامية المتحمسة للفريق المصري ولموهبة صلاح قد تعترف بمحدودية دور اللاعب الفرد، ومع ذلك تتحدث بشغف وتراهن على أداء صلاح في الملعب، وعلى مدى اكتمال لياقته بعد الإصابة التي تعرض لها في نهائي دوري أبطال أوروبا.

وأتصور أن هذا الإصرار الممزوج بالأمل بشأن دور صلاح هو جزء من ثقافتنا، التي تراهن كثيراً على دور الفرد - القائد أو الأمير – في صناعة الأحداث وقيادة الأوطان إلى بر الأمان، بينما تهمل دور المجتمع ومؤسسات الدولة في العمل والإنجاز بشكل جاد ومتواصل. لقد سبق وراهنت الثقافة العربية على صلابة وبطولة وحكمة عبد الناصر – سبقه تاريخياً في مصر سعد زغلول والنحاس - وامتد الرهان إلى ياسر عرفات وصدام حسين وصولاً إلى الرئيس السيسي، فالقائد أو الزعيم في كل تلك التجارب التاريخية المختلفة قادر على قيادة الشعب ومحاربة الأعداء وتحقيق التنمية والرخاء، وهي من دون شك رهانات شعبوية خاطئة، لكنها ثقافتنا التي اعتمدت في عصور سابقة على نسخة المستبد العادل والقائد الملهم، ويبدو أن الثقافة ذاتها كشفت عن حضورها وتأثيرها القوي في الرهان على محمد صلاح كزعيم أو قائد كروي قادر بمفرده على تحقيق المعجزات وإنتاج الفرح، بغض النظر عن مستوى وأداء الفريق الذي يلعب فيه.

في هذا السياق، أكد الرئيس السيسي مراراً وتكرراً أن المصريين وليس هو شخصياً سيحققون النصر على الإرهاب، والتنمية والتقدم، ومع ذلك فإن حملة البخور والإعلام الشعبوي يركزون على دور الرئيس، تماماً كما يركز الإعلام الكروي على محمد صلاح، الذي أصبح أمل المصريين في مباريات كأس العالم بروسيا، وهو أمر يتجاوز موهبة صلاح وإمكانياته، كلاعب فرد. والخوف من أن تأتي نتائج الفريق المصري أقل بكثير من توقعات الجماهير ورهانها الجامح، وغير المنطقي على قدرات صلاح الفردية... ستكون من دون شك صدمة، وإحباط جمعي كما تعلمنا دروس التاريخ في حزيران (يونيو) 1967، وفي غيرها من هزائم العرب وانكساراتهم السياسية والرياضية، لكن العزاء الوحيد أنها ستكون مجرد هزيمة كروية، وقد يستفاد منها في تسلية الرأي العام وحرف انتباهه عن ما قد يجري في مجالات أهم، تتعلق بمصالح الشعب ومستقبله.

عن "الحياة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية