متلازمة المرأة والغواية: من الموروث الديني إلى الثقافة العامة

متلازمة المرأة والغواية: من الموروث الديني إلى الثقافة العامة


10/06/2018

قد يلفت انتباهنا تصاعد حدة العنف اللفظي تجاه الفتيات بشكل عام، وغير المحجبات بشكل خاص، في نهار شهر رمضان، فحتى المحجبات لم ينجون من التحرش، ولو أنّ الظاهرة تطال غير المحجبات بشكل ملحوظ.

ويبدأ هذا العنف بعبارات: "أستغفر الله العظيم، واللهم إني صائم" المسموعة، وتنتهي ببعض المضايقات والألفاظ النابية التي تتوعد الفتاة جنسياً، لكن بعد الإفطار، وذلك لأنّ المتحرش صائم، كما يدعي. 

انعدام الأخلاق هو المتهم الأول في هذه الظاهرة، إلا أنّ ما يمرّ علينا مرور الكرام؛ هو الآثار النفسية الناتجة عن تنشئة أجيال بأكملها على مفاهيم عورة المرأة والفتنة التي توقظها لدى الرجال الصالحين، فمن الممكن هنا أن يصبّ الرجل جام غضبه عليها ويتوعدها؛ لأنها راودت نفسه المؤمنة المستغفرة.

الخطاب الديني تجاه المرأة ليس دخيلاً فهو مستمد من جذور فقهية نخشى الاقتراب منها

ولا يجب في هذا السياق، التقليل من تأثير الموروث الفقهي والديني وما تبعه من فتاوى على الذهنية العامة، وسنعرض هنا ثلاث مقاربات عن الخطاب الديني في هذا الأمر، ما بين الأزهر والإخوان والسلفيين، ومدى ارتباط الخطاب الديني تجاه المرأة بالموروث الديني؛ أي إنّ الخطاب الديني تجاه المرأة ليس نبتاً شيطانياً، أو دخيلاً، لكنّه مستمد من جذور فقهية نخشى الاقتراب منها، فنلجأ إلى نقد الخطاب دون قراءة في المصادر.

أولاً: الأزهر وخطابه الضمني

وهنا يتبادر للأذهان الردّ الرسمي للأزهر على لجنة حقوق المرأة في الأمم المتحدة، حين علق الأزهر، في بيانه الرسمي الصادر في آذار (مارس) 2013، على بعض المتطلبات الحقوقية، وفي المحور رقم (6) من البيان، شدّد الأزهر على ضرورة توفير حماية للمرأة من العنف، ثم عاد الأزهر ليؤكد على الزيّ الشرعي للمرأة الذي لا يُظهر سوى الكفين والوجه، وتساءلنا حينها عن تلك الإيماءة التي ربطت ضمنيّاً بين الإقرار بمناهضة العنف ضدّ المرأة من ناحية، والتزامها بزيّ شرعيّ من ناحية أخرى، فهل يسقط حقّ المرأة في الأمان إن كانت لا ترتدي ما يقره الأزهر والمجتمع؟

وصف المرأة بأنّها الفتنة الأكثر ضرراً على الرجال ترك بصمة واضحة في الذهنية المجتمعية حيال المرأة

وإن كانت إشارة الأزهر ضمنية عام 2013، فلم تكن فتوى الشيخ عطية صقر، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر كذلك عام 1997؛ حيث علّق الشيخ مجيباً عن سؤال بشأن ملابس الفتيات في الأماكن العامة، فقال: "الفتاة لا بدّ من أن تلتزم الأدب في مشيها وكلامها، والمقصرة في ذلك تسيء إلى نفسها بالتعرض لها أو التحرش بها"، وعضد إجابته بحديث: "ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء"، هو حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم، ورد في البخاري في "كتاب النكاح"، باب ما يُتقى من شؤم المرأة، ورواه مسلم في كتاب الرقاق (باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء)، وجاء في "نزهة المتقين شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين" للإمام النووي، وصف المرأة بأنّها الفتنة الأكثر ضرراً على الرجال، ترك بصمة واضحة في الذهنية المجتمعية حيال المرأة، فهي فتنة وعورة تضرّ الرجال، ومن هذه الموروثات انبثقت فتاوى تقول إنّ المرأة مثل اللحم المكشوف والحلوى غير المغطاة.

اقرأ أيضاً: السعودية تواجه التحرش بنظام جديد.. هذه هي العقوبات

وكانت هذه الفتوى تحمِّل الفتاة مسؤولية التحرش بها لما تحويه من تحريض ضمني، كما أنّها تركت حقّ تأويل وتفسير طريقة سير وكلام الفتيات للمارة، فأصبح المتحرش هو الحكم عليها، فإن تراءى للجاني أنّ هناك فتاة "غير محتشمة"، وفق رؤيته، تسير في الشارع، تحرش بها، وهي من تتحمل الإساءة، والأصل هو أنه لا يجوز التحرش، أو المضايقة، أو الإساءة لأيّ فتاة في الطريق العام أو العمل أو غيره، تحت أيّ مسمّى.

ثانياً: خطاب حسن البنا في عورة المرأة والبعد التاريخي للنص

وفي سياق تاريخي آخر؛ كان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا (1906-1949) يشدّد دوماً على مفهوم عورة المرأة في خطابه، لكن من أين كان يستقي البنا هذه المفاهيم؟

لطالما حرص البنا على دعم خطابه بالأسانيد الفقهية، لذلك دعم خطابه بحديث "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنّها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها" (رواه الترمذي)

يستند المدافعون عن وصف المرأة بالعورة إلى الإمام ابن تيمية المُلقب بشيخ الإسلام

وفي سياق تاريخي أبعد، يستند المدافعون عن وصف المرأة بالعورة، إلى الإمام ابن تيمية، المُلقب بشيخ الإسلام، الذي يقول في "مجموع الفتاوى"، في المجلد (15)، ص 279: "المرأة يجب أن تصان وتحفظ، ولهذا خُصَّت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حقّ الرجل، لأنّ ظهورها للرجال سبب الفتنة، والرجال قوامون عليها"، يبدأ حديث ابن تيمية هنا بضرورة صون وحفظ المرأة، ومن منا يعترض على صون كرامة المرأة وحفظها؟ لكن لماذا يرتبط حفظ المرأة وصونها باحتجابها وجلوسها في قعر بيتها وحبسها بالمنزل كأنها تحت الإقامة الجبرية؟ هذا المنطق يسلب المرأة حريتها، لكنّه يتذرع بصونها وحفظها كجملة استباقية لتبرير حصارها، فحصارها مطلوب لأنّها "إن خرجت استشرفها الشيطان"؛ أي تبعها لتقع في الغواية وتدمر الأمة.

ومن أكثر الأحاديث تداولاً لدرء فتنة المرأة: "إنّ المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه".

المرأة بحسب القرطبي والنووي مُحركة الشهوة وتوسوس كالشيطان وبالتالي لا يجب أن تخرج إلا للضرورة!

والحديث صحيح، رواه الإمام مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، ويقول الإمام القرطبي (توفَّى 671هـ) في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": إنّ المرأة تقبل في صورة شيطان؛ أي: في صفته من الوسوسة، والتحريك للشهوة؛ بما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية، والميل الطبيعي، وبذلك تدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان.

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: إنّ المرأة شبيهة الشيطان في دعائه إلى الشرّ بوسوسته، وتزيينه له، ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها ألَّا تخرج بين الرجال إلا لضرورة".

فالمرأة، بحسب تفسيرات القرطبي والنووي؛ مُحركة الشهوة ومن صفتها الوسوسة كما الشيطان، بالتالي لا يجب أن تخرج إلا للضرورة، وبالطبع فإن تفسير الضرورة اختلف من عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، عبر القرون الفائتة، حتى ارتفع سقف ضرورة خروج المرأة لتصل إلى أعلى المناصب القيادية، وهكذا وقفت هذه التفسيرات عالقة في الماضي، بينما حركة التاريخ كانت في صفّ خروج المرأة من قعر بيتها، ولهذا نجد دائماً أنّ دعاة السلفية من الرجال والنساء يروجون لتلك الموروثات في الحاضر.

اقرأ أيضاً: طارق رمضان: حفيد مؤسس الإخوان ومتهم بالتحرش

وإن كانت المرأة عورة يستشرفها الشيطان وتقبل وتدبر في صورة شيطان، إذاً فلا عجب أنّها أكثر أهل النار، فبحسب ما جاء في البخاري وفي مسلم وفي الترمذي، فإنّ "أكثر أهل الجنة هم الفقراء وأكثر أهل النار هن النساء"، وهو حديث حسن صحيح.

ثالثاً: الصحوة الإسلامية والنظرة السلفية للمرأة

مع الصحوة الإسلامية، وصعود التيار السلفي، وصل الخطاب تجاه المرأة والغواية إلى أقصى درجات التشدد، وقد وصل الأمر ببعض الدعاة، ومنهم الداعية ياسر برهامي، إلى إدانة ضحايا التحرش الجنسي، مستنداً إلى حديث رواه مسلم في الصحيح: "صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط يضربون بها الناس يعني ظلماً كالشرطة الظالمين، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدون ريحها".

وصل الخطاب تجاه المرأة إلى أقصى درجات التشدد وقد وصل الأمر ببعض الدعاة إلى إدانة ضحايا التحرش

ومن معاصي النساء التي تثير كثيراً من النقاش، وتبنّتها التيارات السلفية؛ الحكم على المرأة بأنّها زانية لو تعطرت، وهنا كانت المرأة بطلة حديث آخر يجعلها موضعاً للغواية: هو حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، ويقول الحديث: "أيّما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية".

ويعود بنا الحديث إلى فتنة النساء؛ فالمرأة تتسبب في فتنة الرجال بعطرها الفواح؛ فتجد نفسها في دائرة ارتكاب الكبائر، ويقول الإمام ابن حجر الهيتمي في كتاب "الزواجر (أي الموانع) عن اقتراف الكبائر": إنّ "الكبيرة التاسعة والسبعين بعد المئتين هي: خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة ولو بإذن الزوج، وكان لهذا الحديث أثر في منع كثير من الأزواج لزوجاتهم من التعطر؛ بل وتعرّض كثير من الفتيات في بعض مصاعد المؤسسات الحكومية لتعليقات "الاستغفار"؛ أي يستغفر بعض الرجال أو النساء حالما تتحسس أنوفهم  العطور النسوية. 

الخطاب الديني ضدّ المرأة يتجلى في الثقافة العامة

الخطاب الديني ليس بمنأى عن تشكيل الثقافة العامة، وتبدأ هذه المفاهيم في النخر في عقول الشباب منذ نعومة أظفارهم، فكثير من الشباب في سنّ المراهقة يرون أنّ التحرش هو الردّ الأمثل على فتنة الفتيات غير الملتزمات بالحجاب الشرعي، وقد تجلت هذه المفاهيم في فيلم قصير أعدته مبادرة نسوية اسمها "كرامة بلا حدود"، وهي مبادرة نسوية مصرية تهدف لمناهضة العنف الجنسي ضدّ المرأة من خلال حملات توعية مجتمعية؛ حيث نزلت تلك المبادرة للتصوير في الشارع مع مجموعة من الصبية لا يتجاوزون 15 ربيعاً، لتسألهم عن رأيهم في ظاهرة التحرش.

اقرأ أيضاً: "داعش" يسبي النساء في الرقة ويقتلهن في مانشستر

فيقول أحد الصبية، بكل ثقة: "إنّ الخطأ هو خطأ الفتيات بسبب ملابسهن"، وآخر يقول: "هناك فتيات محجبات ويقمن الصلوات، وبالتالي لا أحد يقترب منهن"، وصبي آخر قال: "إنّه لا يتحرش بمنقبة"، كما أفاد أحد الصبية: بأنّه "حين يسير مع صديق يتحرش بفتاة محجبة، ينهره لأنّها محجبة"، عدا ذلك فالتحرش في وجهة نظر هؤلاء الصبية لا غبار عليه.

زاد التحرش مع تصاعد الخطاب الأصولي الذي جعل التحرش غزوةً لسبي النساء باستحلال من أسموهن غير الملتزمات

استباحة الفتيات "العورة" في الشارع فكر متأصل، وله جذور أبعد من مجرد انعدام الأخلاق، فهذا الشباب اليافع حاول إضفاء صفة أخلاقية على ما يفعلونه، وهي صفة لم تأتهم من فراغ، بل تجرعوه  من ذويهم؛ وتعلم ذويهم هذا الفكر من خطاب ديني متطرف، وهو خطاب ديني منتشر في أنحاء العالم الإسلامي، خطاب يرى أنّ المرأة غير المحجبة سهلة المنال، كما قال الداعية الكويتي، نبيل العوضي، عام 2009، في مقال له في جريدة "الوطن" الكويتية، ناصحاً الآباء بتحجيب الفتاة من سنّ تسعة أعوام.

لقد زاد التحرش طرديّاً مع تصاعد وتيرة الخطاب الأصولي، الذي جعل التحرش بمثابة غزوة لسبي النساء على طريقة استحلال من أسموهن غير الملتزمات.

شاهد: تصل عقوبة التحرش الجنسي في التشيك إلى الإخصاء.. ماذا عن الدول العربية؟

وهذا الخطاب لم يؤثر في الصغار فحسب؛ بل اعتبار المرأة فتنة تضرّ بالرجل طال الشرطة المصرية كذلك، حين أصدرت المباحث نتيجة تحرياتها في واقعة التحرش بفتاة تبلغ 19 عاماً، وتقيم في مدينة أبو كبير بالزقازيق، في آذار (مارس) 2017 م، التحريات أكدت أنّها كانت ترتدي ملابس قصيرة جداً خلال عودتها من حفل زفاف شقيق صديق لها بنادي الشرقية. ودعنا نضع بعض الخطوط تحت "قصيرة جداً"، فما المقصود بقصيرة جداً في مجتمع يرى أنّ من لا ترتدي حجاباً هي امرأة (عارية)؟! كما أنّ احتواء التقرير على وصف لملابس الفتاة (ملابس قصيرة جداً) كانت إشارة واضحة بأنّ الشرطة لا تنفي المسؤولية الأخلاقية عن الفتاة، وهذه ليست مهمة الشرطة؛ لأنّها ليست شرطة الأمر بالمعروف؛ بل هي شرطة مدنية معنية بسلامة الناس وليس ملابسهم.

فاطمة المرنيسي تقصف الجبهة

هذا الخطاب لم تسلم منه نساء كثيرات؛ بل لم تسلم منه مدافعات عن الأوطان، وهو ما حاولت الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015) الإشارة إليه في دراساتها التحليلية، فأشارت إلى المناضلة الفلسطينية التي كانت تحرس إحدى القواعد في لبنان ليلاً حاملة سلاحها الرشاش، فمرّ عليها رجل حاول ملاطفتها فنهرته، فقال لها: "كيف تريدين إيهامي بأنه عليَّ احترام فتاة تقضي الليل في الشارع وحدها؟"، وقد وردت هذه القصة على مسؤولية الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، في كتابها "ما وراء حجاب"، ص 161، فالمرأة موضع شبهة، حتى إن كانت مناضلة تحمل السلاح!

اقرأ أيضاً: أزمة الجنس.. في المتخيّل الاجتماعي

تغيير هذه النظرة تجاه المرأة ضروري، لكنّه معقد بدرجة كبيرة، ومتشابك ما بين الموروث الديني والثقافي، ويلزمه دعم كبير للتمكين الحقيقي للمرأة في المجتمع ضدّ هذه الأفكار الأصولية، ويظل الخطر الأكبر هو وصول هذه الأفكار إلى المؤسسات الحكومية والشرطية والقضائية؛ أي نخبة المجتمع المفترضة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية