مكاوي سعيد: عاش في الهامش فحمله إلى الواجهة

مكاوي سعيد: عاش في الهامش فحمله إلى الواجهة


03/12/2017

"ظللت فترة طويلة منسياً حتى جاءت تغريدة البجعة"، عبارة من حوار صحفي مع الراحل الذي غادرنا أمس السبت، "مكاوي سعيد" نستطيع من خلالها أن نعرف عالم "ميكي" أو "عم مكاوي"، كما يفضل أن يناديه قراؤه ومحبوه؛ فالهامش الذي كان محور أعماله بين القصة والرواية والمقالات كان عالم مكاوي الفعلي الذي عاش داخله قبل ترشح روايته الأشهر "تغريدة البجعة" للجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" في دورتها الأولى عام 2007، والتي فاز بها بهاء طاهر.

ولد مكاوي في القاهرة عام 1956، وفي نهاية مرحلة تعليمه الثانوي وبداية تعليمه الجامعي بدأت تأتيه أسئلة الأصدقاء عن منطقة وسط البلد وأماكنها، والتي يسكنها مكاوي سعيد، على اعتبار أنّها المكان الأمثل للتنزه والترفيه بسينماتها ومسارحها، غير أنّه فوجئ بعدم إدراكه لذلك الثراء المحيط به، ليقرر في تلك اللحظة أن تبدأ رحلته مع عالم وسط البلد ومقتنياته، وحكايات البشر والمكان.
 

مكاوي شاعراً
بدأ الكتابة شاعراً، لكن سريعاً ما غير وجهته إلى كتابة القصة والرواية بعد إدراكه أنّ مشروعه عن الهامش لن يعبر عنه الشعر بالشكل الأمثل، فهو يريد أن يحكي عن الناس والأماكن والشخصيات التي عايشها طوال سنواته في الجامعة وحياته بمنطقة وسط البلد، ذلك المشروع الأهم، كما يحكي مكاوي نفسه عن كتابه "مقتنيات وسط البلد": "كتابة المقتنيات كانت حلماً راودني قبل حتى أن أشرع في كتابة رواية تغريدة البجعة".

26 عاماً قضاها مكاوي سعيد في الهامش، قبل أن تنقله روايته "تغريدة البجعة" إلى واجهة المشهد

بدأ مكاوي حياته طالباً يسارياً، لكن ليس من منظور أيديولوجي، فقد أدرك أنّه يجب أن ينتمي إلى مجموعة أو تيار داخل الجامعة حتى يجد شعره سبيلاً إلى القراء: "في تلك الفترة كان التصور كي تكون شاعراً أو تجد اهتماماً بأشعارك يجب أن يكون لك أنصار أو تنظيم يروج لك، هكذا دخلت، وكنت أتنقل من هنا إلى هناك، ومرت الأيام والسنوات".
في تلك الفترة عرف مكاوي طريق مقاهي وسط البلد، وهناك تعرف إلى كاتبه المفضل يحيى الطاهر عبدالله: "لم أكن أجلس على مقاهي وسط البلد إلا من أجله". ومن المقهى تبدأ رحلته مع نشر مجموعته القصصية الأولى الركض وراء الضوء عام 1981. لكن في العام نفسه تتوقف رحلة مكاوي في الكتابة بعد وفاة يحيى الطاهر عبد الله عام 1981، ليقرر هجرها ومنطقة وسط البلد؛ فقد مات كاتبه المفضل الذي لم يجلس على مقاهي وسط البلد إلا من أجله.

محاسباً في إحدى الشركات
خلال فترة التوقف، عمل مكاوي محاسباً في إحدى الشركات، وعمل لفترة في مجال السينما وكتابة السيناريو، وبعد ثمانية أعوام من هجر الكتابة قرر مكاوي العودة من جديد بروايته الأولى "فئران السفينة"، التي فازت بجائزة "سعاد الصباح" ونشرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1991.
على الرغم من حصول روايته الأولى على الجائزة، إلى جانب إشادة النقاد بها، إلا أنّها لم تحقق الشهرة المنتظرة، فظلّ مكاوي منسياً حتى 2007 عام  صدور روايته الأشهر "تغريدة البجعة".


26 عاماً قضاها مكاوي سعيد في الهامش، قبل أن تنقله روايته الثانية إلى واجهة المشهد؛ ليصبح واحداً من كتاب الرواية الأشهر في مصر والعالم العربي إن لم يكن في مقدمتهم. فقد أصبح من الطبيعي في تلك الفترة أن تجد قراء التغريدة في كل مكان، يقرأها الشباب وهم في عربات المترو، أو جالسين على المقاهي، أو داخل مدرجات الجامعة، لتنفد طبعتها الأولى خلال شهرين، ثم تتوالى الطبعات، وبعد صدورها بعام تفوز الرواية بجائزة الدولة التشجيعية عام 2008.
 

فيلم قصير عن رحلته
تتوالى إصدارات مكاوي سعيد التي يتلقفها القراء، ما إن تطبع حتى يقرر الناقد السينمائي أحمد شوقي أن يقدم فيلماً قصيراً عن رحلة مكاوي في الكتابة، والذي انتهى منه عام 2012، وفيه يشير مكاوي بشكل واضح إلى أنّ عالم الهامش والحكاية عن سكانه وأماكنه هو شاغله الأكبر، كما حدث في "فئران السفينة" أو "تغريدة البجعة" أو "مقتنيات وسط البلد" أو مجموعاته القصصية.  ويلفت في الفيلم إلى أنّ من يعيشون في الواجهة يكتب عنهم الجميع، لكن هناك من يستحقون أن يخلدوا من سكان الهامش، فهم قدموا الكثير، لكن نسيتهم الآلة الإعلامية، أو نسيهم القراء في خضم مئات الأعمال التي تصدر يومياً بين إصدارات مقروءة أو مرئية أو مسموعة.

رغم انتقادات وجهت لكتابات مكاوي سعيد، والتي رآها البعض ذاتية، إلا أنه كان يصر على الاستمرار في مشروعه

انشغل مكاوي أيضاً في كتبه، وتحديداً كتابه "مقتنيات وسط البلد" بالحديث عن رفاق رحلته وتحولاتهم، خصوصاً نموذج المتحول اليساري الذي انقلب على مبادئه: "حين أتأمل الرفاق الآن، أجدهم في حال آخر، صار معظمهم من الأثرياء والرأسماليين، وصاروا ضد الأفكار والمواقف القديمة نظرياً وعملياً، حتى من بقي على المُثل والمبادئ، منهم فتح ''بوتيك'' لحقوق الانسان ولأني أعرفهم فقد جاؤوا في الرواية".
ورغم انتقادات وجهت لكتابات مكاوي سعيد، والتي رآها البعض ذاتية، وأنه يجب أن يقدم عوالم سردية مغايرة عن تلك التي اشتهر بها، إلا أنه كان يصر على الاستمرار فى مشروعه، حكايات المهمشين، كأنّ شهرته جاءت ملاذاً لهؤلاء الذين لا يعرفهم أحد ليقرر مكاوي أن يخلدهم فى كتبه، وأيضاً لأنه كان واحداً منهم قبل صدور التغريدة.
 

كراسة التحرير
أشهر الحكايات تلك التي أوردها مكاوي فى كتابه "كراسة التحرير" الذي وثق فيه حكايات يومية لثورة القاهرة في 25 يناير 2011 حين ذكر حكاية الصحفي في "الأهرام ابدو" أحمد لطفي، والذي حضر إلى شقته بميدان التحرير أيام ثورة يناير، ليجد الشباب وقد اقتحموها وسكنوها هرباً من الاشتباكات، أو ملاذاً من برد يناير القارس، ثم يقرر لطفي أن يتركهم لتتحول شقته وكأنها مقر حزب معارض يجتمع فيه الأعضاء ليناقشوا خطوات ثورتهم، لطفي هو أيضاً عاش في الهامش لا يعرفه أحد، حتى إذا بلغ العقد السابع من عمره اشترك في دور صغير في فيلم: "الخروج للنهار" للمخرجة هالة لطفي، يؤدي خلاله أحمد لطفي دور زوج مسن قعيد تعاني أسرته الفقيرة جداً العجز في رعايته، ثم يموت في نهاية الفيلم، ويموت أحمد لطفي الحقيقي قبل عرض الفيلم ليصبح نجماً بعد حصول الفيلم على جائزة أفضل فيلم عام 2014.
مات مكاوي أو ميكي أو عم مكاوي في 2 ديسمبر 2017 بعد تسع سنوات قضاها فقط في الواجهة، وأكثر من خمسين عاماً أمضاها في الهامش.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية