الجماعة حين تأكل أبناءها

الجماعة حين تأكل أبناءها


08/05/2018

تحت دخان المظلوميات المصنوعة في تاريخ الإخوان المسلمين، التي اعتمدوها آلية دفاع عن وجود التنظيم، ورغم كشف تجاوزات الجماعة في حقّ المجتمع والدين، تتوارى قضايا لا تقل خطورة في حق أبنائها أنفسهم، تكشف معدن الجماعة الحقيقي.

يتمثل هذا الجانب المنسي من تاريخ الجماعة في "تصفية" الأعضاء من معارضي التنظيم، سواء الذين تجاوزوا في معارضتهم مناقشة مسائل تبدو فرعية لديهم؛ كالعلاقة الملتبسة بين الجماعة تاريخياً وكلّ الأنظمة، أو طريقة البعض في فهم أفكار الجماعة ومبادئها ومشروعها، أو حتى الجدل حول مناهجها التربوية، أو شكل وماهية النظام الأساسي لها، أو لوائحها الداخلية، أو سلوكها الإداري والتنظيمي.

الحديث هنا ليس المقصود  به القتل المادي المباشر الذي يبدو أسهل، لكن عن طرق الاغتيال المعنوي، والحصار النفسي للأعضاء، من أجل دفعهم للانزواء، واتهام النفس بديلاً عن اتهام التنظيم.

خلف تجاوزات الجماعة في حقّ المجتمع والدين تتوارى قضايا لا تقل خطورة في حق أبنائها أنفسهم

تتباين أسباب الانفصال عن الجماعة، أو الخروج منها، وتتدرج، فمن الطبيعي أن ينتقل العضو المخالف لتوجهات التنظيم من مرحلة الخلاف الإداري والتنظيمي مع الجماعة، أو بالأحرى قيادتها، مع مزيد من التأمل والدراسة، إلى إعادة مناقشة مقولاتها التأسيسية وأفكارها الرئيسة ومشروعها، وكل العناوين السابقة، وقد ينتهي به الأمر إلى الحكم بأنّ الخلل في طريقة إدارة الجماعة وسلوكها؛ السياسي والإداري والتنظيمي، لكنّ الفكرة ما تزال تبدو قابلة للحياة، مع بعض التطوير المؤسسي، وإعادة اكتشاف الفضاء المناسب للحركة على ضوء إمكانات التنظيم والهامش المتاح، محلياً وإقليمياً ودولياً.

يحاجج من يقف عند تلك المحطة، بأنّ الجماعة مثّلت، بأفكار مؤسسها، نقلة نوعية لما يسمّى بالمشروع الإسلامي الحضاري، وأنّ بالإمكان استئناف حركتها ومشروعها مع مراجعة لهذا السلوك الذي أوصلها إلى تلك المحطة، عبر إفساح المجال لقيادات جديدة أكثر قدرة على التعاطي مع هذا الواقع المعقّد، الذي أفرزه فشل القطبيين الذين حرفوها عن خطّها البنّاوي، نسبة إلى حسن البنا؛ حيث يعتقد هذا الفريق أنّ الجماعة، منذ نهاية الأربعينيات، تعيش صراعاً مكتوماً يخرج أحياناً للعلن، بين مجموعة النظام الخاص التي امتدت مسيرتها في شكل التيار القطبي، الذي قاد الجماعة منذ السبعينيات، ومجموعة الرعيل الأول التي ربّاها البنّا؛ كفريد عبد الخالق، وصلاح شادي، والتلمساني، ومن تلامذتهم: أبو الفتوح، والعريان، والجزار.

ورغم أنّ كثيراً من أبناء هذا الفريق بقي راضخاً لتلك القيادات القطبية في الجماعة، فقد ناله من القمع الصامت ما نالهم، عن طريق حرمانهم من أيّ مواقع مؤثرة داخل التنظيم، وتهميش آرائهم وأفكارهم، والاستخفاف بهم على طول الخط.

رغم أنّ كثيرين رضخوا مكرهين للقيادات القطبية في الجماعة لكن نالهم من القمع الصامت ما نالهم

من أبرز الأمثلة على تلك الوسائل التحريض المكشوف على عدم انتخاب عصام العريان لمنصب رئيس الحزب، عندما رشّح التيار القطبي سعد الكتاتني في مواجهته ودعمه بكلّ السبل، حتى فاز بالمنصب، الأمر الذي دفع العريان إلى كتابة الاستقالة من الحزب والجماعة، ومنصبه كمستشار للرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي، يقيناً منه بأنّ هذا التيار لن يترك له، أو لرفاقه هامشاً يتحركون فيه، وأنّهم تحت أعين رجال التنظيم يحسبون عليهم أنفاسهم، وقد أقنع حلمي الجزار ومحمد البلتاجي العريان وقتها، بأنّهم -وإن كانوا خسروا معركة- فإنّهم لن يخسروا الحرب.

كان هذا الوهم قبل أن ينجح القطبيون في إنهاء ما تبقى من حضور وتأثير للجماعة بنهجهم في حكم مصر، عبر عام، وتصفية كلّ العناصر المسيّسة داخل الجماعة وتهميشها.

ظلّ هذا الفريق محكوماً عليه بأن يبقى في الظلّ، يدفع الفواتير دون أن يشارك في القرار، وكان هذا أقسى أنواع الاغتيال الذي ساهم به كثيرون ممن سلموا بطاعة تلك القيادة الإخوانية، رغم أنّه لا يثق في قدراتهم أو إمكاناتهم بما يؤهلهم في صنع القرار.

ورغم أنّ بعض هؤلاء يقبعون في السجون، بجريرة جرائم التنظيم، وآخرين هربوا إلى خارج البلاد، إلّا أنّ دعاية التنظيم وقدراته المالية في الداخل والخارج، مكّنته من حصارهم؛ سواء كانوا في السجون أو خارجها، ولعلّ قضية قناة "الشرق" الإخوانية خير مثال على ما جرى لهؤلاء، الذين لا يتمتعون بثقة التيار النافذ في الجماعة.

وأيمن نور مدير القناة؛ مجرد ذراع للتنظيم القطبي الذي ينكّل من خلاله بمن بدت لديهم نوازع المعارضة، أو ناقشوا أفكار المنشقّين، أما من يدينون للتنظيم القطبي بالولاء؛ فقد تمّ استثناؤهم من إجراءات التنكيل، التي وصلت حدّ المطاردة في لقمة العيش، والتهديد بالترحيل، وهو لون واضح من ألوان الاغتيال لهؤلاء المعارضين.

يتخذ الإخوان شكلاً صارماً من القطيعة مع العضو وقد يدفعونه لمقاطعة أهله فرابطة التنظيم لديهم  تعلو على أي رابطة

أما الفريق الآخر؛ الذي تطورت المعارضة لديه من الخلاف التنظيمي إلى الخلاف والقطيعة الفكرية، فقد تحوّل إلى أعداء أقرب في وعي التنظيم، إلى نعتهم بأعداء الإسلام من الكفار والمرتدين، ومن ثم لا سقف للعداء معهم.

وفي هذا السياق تعمل ضدهم "الكتائب الإلكترونية"، التي تم تزويدها سلفاً ببعض المعلومات الشخصية عن هؤلاء الأعضاء، والتي قد لا تخلو، كشأن كلّ البشر، من هنات يتم تضخيمها، وإضافة تهم جديدة إليها؛ كحبّ الظهور، والرغبة في تقلّد المناصب، والسعي للمال أو النساء، والاتصال بالجهات الأمنية؛ فلا يتورع التنظيم عن التفتيش في ضمائر الأعضاء، واتهامها -بكل أريحية- وهو نهج إخواني قديم، مارسه البنا نفسه تجاه المخالفين له.

يتخذ الإخوان شكلاً صارماً من القطيعة مع العضو، ويتم دفع دوائره إلى تلك المقاطعة، إلى حدّ أنّ التنظيم، بسيطرته على نفوس أعضائه، قد يدفع العضو إلى مقاطعة والده أو أمه أو أخته أو أخيه، فرابطة التنظيم تعلو على رابطة النسب لديهم، ولا يعدمون في ذلك الفتوى والأثر.

الخلط بين معلومات صحيحة عن العضو ومعلومات ملفّقة، يحقّق الأثر لدى الجمهور، والإلحاح على ذلك، والاستفادة من وسائط التواصل الاجتماعي يحقق المطلوب، فقط للإبقاء على هذا الكيان، وفكرته قابلة للحياة كما فعل منذ النشأة، كما أن توظيفها تاريخياً من قبل لاعبين كثر، هو ما مدّ في عمرها حتى الآن، فضلاً عن مصالح تشابكت لأعضائه، ما منح الجماعة بضعة أعوام تبقى فيها بالقصور الذاتي، الذي لن يخفي الحقيقة التي تقول: إنها انتهت وإنّها ستموت، بأنفاس بقيت لتعارضها، لا بأموال تنفق للإبقاء عليها، وتشويه أو اغتيال من يعارضها بصدق.

الصفحة الرئيسية