عندما يكون التعليم أداةً للقمع في مزرعة الزعيم الخالد

عندما يكون التعليم أداةً للقمع في مزرعة الزعيم الخالد


05/05/2020

"بعد وفاة القائد العظيم الخالد حافظ الأسد رحمه الله... عاهدنا الرفيق الدكتور بشار حافظ الأسد على أن نكون الجند الأوفياء المتابعين بكل همّة ونشاط تعليمنا لأبنائنا التلاميذ في مدارسنا حتى نحقق جيلاً مستقبلياً واعياً... جيل سوريا بشار حافظ الأسد... حيث إنّ المعلمين وصفهم الرئيس القائد الخالد حافظ الأسد: المعلمون بناة حقيقيون... المعلم هو غاية الحياة وهو منطلق الحياة".
المقدمة أعلاه هي اقتباس من كلام مدير مدرسة جعيفية الماشي، خلف صالح الماشي، والذي يشغل أيضاً منصب أمين الحلقة الحزبية (حزب البعث) في قرية جعيفية الماشي، والذي يكون عمّه ذياب الماشي، زعيم قرية الماشي، وعضو بالبرلمان السوري منذ عام 1954؛ بهذه المقدمة يبدأ حديثه أمام عدسة كاميرا، يقف خلفها المخرج السوري الراحل، عمر أميرلاي، (1944-2011)، من فيلمه الأشهر "طوفان في بلاد البعث" إنتاج 2003.

"طوفان في بلاد البعث"

لم يُعرض فيلم "طوفان في بلاد البعث" في سوريا آنذاك، إنما كان في طريقه للمشاركة في مهرجان قرطاج السينمائي، بعد عامين من إنتاجه، إلا أنّ المخابرات السورية لاحقت أميرلاي وفيلمه إلى المهرجان، وتسبّبت في منع الفيلم من المشاركة، وبعد احتجاجات وضغوطات من سينمائيين عرب، عُرض الفيلم، لكن خارج المسابقة الرسمية.

جاء عنوان الفيلم "للعبث يا طلائع"، كمحاكاة ساخرة لنشيد "طلائع البعث"، الذي يردّده الطلاب في المرحلة الابتدائية

الطوفان، لم يكن فيلماً روائياً عن "الواقع"، إنّما كان -كسائر أعمال أميرلاي- فيلماً وثائقياً، كما كان موضوع الفيلم الأساسي، وهو انهيار سدّ زيزون في محافظة حماه، وبحسب التقرير المنشور في موقع "ميدل إيست أونلاين"، بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 2002؛ "أفادت التقارير من موقع الكارثة؛ بأنّ قرية زيزون تضم 140 مسكناً، غمرتهم مياه السدّ، الذي يحمل الاسم ذاته، ويقع في منطقة الغاب، على بعد 90 كلم شمال غرب حماه (210 كلم من دمشق)".
وفي بداية فيلم "الطوفان"، يشير أميرلاي، نقلاً عن خبير بالسدود، عن احتمال انهيار باقي السدود التي شيِّدت بالتزامن مع "الحركة التصحيحية"، أو ما يعرف بـ "انقلاب البعث" 1970 في سوريا.
انهيار سدّ زيزيون
ونتيجة لذلك؛ حمل فيلم "الطوفان" من خلال حدث انهيار سدّ زيزيون، وحكاية قرية جعيفية الماشي التي صور فيها أميرلاي فيلمه، والتي تحكمها "عائلة الماشي"، صورة مجازية عن سوريا التي حكمها "نظام الأسد" على مدار 33 عاماً (من عام 1970 حتى ظهور فيلم الطوفان عام 2003).

ليلقي فيلم الطوفان الضوء على منظومة التعليم في سوريا، من خلال لقائه بمدير المدرسة في القرية خلف صالح الماشي، وتصوير مشاهد ولقطات من داخل مبنى المدرسة، الذي لا يحمل بشكله الهندسي، وتصميمه سوى شكل مبنى داخل ثكنة عسكرية أو سجن، وأطفال يرددون شعارات "طلائع البعث"، و"حزب البعث"، والتمجيد بالرئيس الحاكم للبلاد، كأن يقول خلف صالح الماشي أمام الكاميرا: "هؤلاء الناشئة والأطفال، عندما ننادي بمبادئ حزب البعث الاشتراكي؛ تُغرس غرسة في الأرض الطيبة، تُغرس هذه المبادئ في هذا الطفل، ويتعود هذا الطفل على حبّ الوطن، وحبّ القومية العربية، وينادي بالوحدة والحرية والاشتراكية، وتعلّمه حبّ تراب هذا الوطن، كما قال الرفيق القائد المناضل حافظ الأسد، رحمه الله: لن نفرط في ذرة تراب واحدة من هذا تراب هذا الوطن؛ هذه المبادئ تعلّمنا حبّ الوطن".
النظام القمعي
تغلغل منهج النظام القمعي في طريقة حكمه في البلاد داخل كلّ تفصيلة في البلاد، والنظام التعليمي في سوريا، كان أحد المنظومات المستهدفة، لتمرير الصورة التي يريد، بحسب تعبير خلف الماشي، "غرسها" في عقول مختلف الأجيال في سوريا، لكن بعيداً عن الصورة الوردية والزائفة التي يرسمها خلف الصالح لمنظومة التعليم، من خلال خطاباته "البعثية"، إلا أنّ أدوات القمع كانت موجودة وتُمارس في حقّ التلاميذ، على يد مدراء وأساتذة داخل مدارس سوريا.
ورغم أنّه، قانونياً، يُمنع ضرب الطالب أو التلميذ، لكن لم تكن تُتَّخذ إجراءات عملية، تعاقب المدرّس أو المدرّسة على ضرب التلاميذ، وعلى وجه التحديد أستاذ مادة العسكرية، الذي غالباً ما يكون ضابطاً أو مساعداً في الجيش، أو رجل أمن في المخابرات، وجميع من في المدرسة يهابه؛ من طلاب وأساتذة؛ إذ كان أستاذ مادة العسكرية يمثل رعباً للطلاب، خاصة في الحصص الخاصة بـ "التدريب العملي"، الذي ينسى أثناءه أستاذ العسكرية أنّه في المدرسة، ويتعامل مع الطلاب وكأنّهم عساكر في الجيش، وعليهم أن يطعيوا أوامر "قائدهم".

ذكريات بشعة

ظلت ذاكرة السوريين تحمل ذكريات مؤلمة وبشعة عن مرحلة التعليم في سوريا، بدلاً من أن تحمل هذه المرحلة ذكريات جميلة.
ومؤخراً؛ ظهر فيلم روائي قصير، تمّ تدواله بشكل واسع على مواقع السوشيال ميديا، تحت عنوان " للبعث يا طلائع" من تأليف وإخراج: يمان عنتابلي (21 عاماً)، تناول الفيلم مجدداً منظومة التعليم في سوريا، التي لم يختلف حالها كثيراً، منذ أن أُلقيَ الضوء عليها في فيلم "طوفان في بلاد البعث"، ورغم أنّ الطوفان أغرق "بلاد البعث" في الدماء، وفاض بأبنائها، ودفع جزءاً كبيراً منهم للنزوح خارج البلد، في رحلة شتات طويلة لم تنتهِ حتى هذه اللحظة، إلّا أنّ القمع في المدراس السورية لم يتوقف.

ظلت ذاكرة السوريين تحمل ذكريات مؤلمة وبشعة عن مراحل التعليم، بدلاً من أن تحمل هذه المرحلة ذكريات جميلة

جاء عنوان الفيلم "للعبث يا طلائع"، كمحاكاة ساخرة لنشيد "طلائع البعث"، الذي يردّده الطلاب في المرحلة الابتدائية في المدرسة، والذي يبدأ بـ "للبعث يا طلائع... للنصر يا طلائع"، كما أنّ افتتاحية الفيلم يرافقها لحن النشيد الشهير.
تدور أحداث الفيلم، الذي تبلغ مدته (12:10 دقيقة)، داخل صفّ دراسي لطلاب في المرحلة الابتدائية؛ إذ يحضر إلى غرفة الصفّ طالب جديد، كان لاجئاً هو وعائلته في السويد، ليسأله الأستاذ: "لماذا عدتم إلى سوريا؟" ليجيبه الطالب: "أكيد الكلّ مستغرب ليش رجعنا... أي رجعنا على سوريا الياسمين... سوريا العشق... سوريا الهلال مع الصليب، وصوت الجرس مع الأذان، وزحمة الصبح، ووجه الفقير، وعلم فيو نجمتين، وناس بتحب وطنها، ومتمنية تسمع آخر رصاصة ببلدها حتى لو كانت بجسدها، ناس بتآمن أنو الوطن ليس فندقاً نغادره عندما تسوء الخدمة، وطن بتعيش على البصلة كرماله! السويد فيها غاز، فيها مازوت، فيها كهربا، فيها مترو، وفيها حدائق وملاهي وفنادق وأبراج، بس بتعرفوا شو ما فيها؟ ما فيها كرامة، ما فيها، هيك قال لي أبي".

سوريالية الخطاب

ورغم سوريالية هذا الخطاب، الذي كان السوريون يسمعونه من سوريين مؤيدين للنظام السوري، لكنّ مشهد الطفل وهو يلقي خطاباً ما، بنبرة شخص بالغ وفصيح، أضعف قليلاً من المستوى الفني للفيلم، إلا أنّ الحدث الثاني هو الحدث الأقوى في الفيلم؛ ففي أثناء لعب الأطفال بكرة القدم، داخل غرفة الصف، قبل بدء حصة الديانة بخمس دقائق، يضرب أحد الأطفال الكرة باتجاه "الهدف" الذي يكون واقعياً، حائط السبّورة، فيصيب من غير أن يقصد صورة بشار الأسد المعلقة على شمال السبّورة، فتسقط أرضاً ويتحطم زجاج الصورة، ليقرّر أستاذ القومية وأستاذة الديانة والمدير معاقبة الطلاب جميعهم، عقوبة جماعية، وتخصيص عقوبة مضاعفة للطالب الذي تسبَّب بتحطيم زجاج الصورة، مع توثيق مشهد العقاب بكاميرا موبايل أستاذة الديانة.
وينتهي الفيلم بمشاهد حقيقية لمقاطع فيديو انتشرت في الأعوام الأخيرة، عن تعذيب الطلاب في المدارس.

بالطبع، لا يمكن مقارنة الفيلم الوثائقي "طوفان في بلاد البعث" لأميرلاي، بفيلم " للعبث يا طلائع" على المستوى الفني، لكنّ الأخير حمل رسالة مفادها أنّ القمع مستمر، وسيستمر، ولن يتغير، طالما المنظومة نفسها، بأدواتها وعقليتها، ومن ورائها النظام السوري، باقية وتتمدّد.
فالطفل العائد من رحلة اللجوء من السويد، شمله العقاب الجماعي، رغم أنّه لم يكن هو المذنب، حتى إنّه لم يشارك باقي الطلاب في اللعب، لكنّه ينال العقاب، وأثناء تلقيه ضرباتٍ على يديه من عصى مدير المدرسة، نسمع كلماته التي كان يردّدها عند دخوله غرفة الصف، وتحديداً عندما قال: "السويد ما فيها كرامة"!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية