ما وراء وثائقي "الجزيرة الإنجليزية" عن الأقلية التركية في اليونان؟

أردوغان

ما وراء وثائقي "الجزيرة الإنجليزية" عن الأقلية التركية في اليونان؟


20/04/2020

منذ عقود، يتم الحديث، إعلامياً وسياسياً، عن وضع مسلمي اليونان الصعب على الصعيدين؛ القانوني والاجتماعي، وبالفعل، يوجد تاريخ من المعاناة تحمله الأقلية المسلمة في اليونان، لكن الجديد، هو استثمار هذه المعاناة عرقياً، والتركيز على المسلمين الأتراك، بل وغير المسلمين منهم، من أجل تكوين ملف اجتماعي وإعلامي، للترويج إلى معاناة هؤلاء.

المطالبات بفصل النظام التعليمي والاجتماعي بدعمٍ تركي أثار مخاوف اليونان وقلل فرص مسلمي تراقيا بتحصيل حقوقهم بعيداً عن التسييس

الفقر، الظروف غير الملائمة تماماً لممارسة المعتقدات الدينية، وأشياء أخرى، هي محور هذا الملف الإنساني. إلا أنّ طريقة طرحه، جعلت السياسة التركية في مكان المتفرج، والمتألم الساعي لإيجاد حلول لهذه الأقلية التركية، على وجه الخصوص، مع إهمال الدور التركي على مدى قرنين بتأجيج الصراعات في اليونان والبلقان، والدور التركي اليوم، المتمثل بالاهتمام بأقلية مسلمة ذات عرقية تركية، من شأنه إعادة بعض الصراعات إلى الواجهة، فهو لا يبدو تدخلاً لتحقيق مصالح المسلمين، بقدر ما يبدو، توظيفاً لمصالحهم وحاجاتهم، فما هي القصة؟

 

تُراقيا وحصان طروادة
تراقيا منطقة واسعة، تضم مدناً وسهولاً وجبالاً، وتقع في جنوب شرق البلقان، وتضم شمال شرق اليونان وجنوب بلغاريا والجانب الأوروبي من تركيا. كما تطل تراقيا على ثلاثة بحار؛ البحر الأسود وبحر إيجة وبحر مرمرة، وهناك تداخل في حدود تراقيا مع حدود مقدونيا التاريخية. والإقليم اليوم، مقسم سياسياً بين بلغاريا وتركيا واليونان منذ عام 1923.

غاب عن وثائقي "الجزيرة بالإنجليزية" التوثيق التاريخي والواقعي للخلافات التركية اليونانية، التي أضرت بمصالح المسلمين الأتراك

وبالعودة إلى تركيا واليونان، فإنّ تاريخهما المدجج بالصراعات بدأ منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان، وفي العصر الحديث، بدأت الخلافات اليونانية التركية منذ اندلاع انتفاضة ديونيسيوس ضد الحكم العثماني بين العامين 1867 و1774. وتلا ذلك خلال أقل من خمسين عاماً حروب استقلال يونانية أدت في عام 1822 لإعلان اليونان استقلالها عن الدولة العثمانية، وبمرور الزمن اندلعت حرب يونانية تركية بدأت مع الحرب العالمية الأولى، وانتهت ضمن اتفاقية لوزان بسويسرا في 1922. لكن "الخلاف حول جزيرة قبرص وطرد اليونانيين من تركيا في الستينيات، والغزو التركي لشمالي قبرص عام 1974 والمواجهة بين البلدين حول بحر إيجة جعل خلافاتهما لا تنتهي تقريباً"، بحسب تقرير لـ"بي بي سي" منشور في 2019.

صورة من تراقيا حيث أكبر تجمع للمسلمين الأتراك

إذن، التاريخ بين البلدين حافل بالصراعات، ويبدو أنّ لكلّ من الطرفين حججه وأسبابه وادعاءاته حول قضايا عديدة تتعلق بالجغرافيا والسياسة والمجتمع، إلا أنّ هذا التاريخ، تم إهماله من قِبل وسائل إعلامية عديدة مهتمة بالعلاقات التركية اليونانية، كان آخرها برنامج وثائقي عرضته قناة "الجزيرة بالإنجليزية" ضمن برامجها وعلى موقعها الرسمي، وحمل عنوان "تراقيا الشرقية: المساحة المتنازع عليها، والأتراك في شمال اليونان". وقد قام البرنامج، الذي لا تزيد مدته عن خمس وعشرين دقيقة، بتقديم الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمسلمين من العرق التركي في تراقيا، إضافة إلى نزاعاتهم بشأن حرية ممارسة معتقداتهم الدينية علناً، ومطالبتهم بوجود هويةٍ خاصة لهم "يفتقدونها بحسب البرنامج"، إضافةً إلى المطالبة بحقهم في استخدام قوانين الشريعة في معاملاتهم، وإضافة أماكن مفقودة تقريباً من أجل العبادة وممارسة الشعائر الدينية.

مسلمو تراقيا من العرق التركي يتم استهداف حاجاتهم الدينية والاجتماعية من أجل صناعة إقليم تركي في شمال اليونان

إنّ مطالب هؤلاء الناس، ومن ضمنها تحسين وضعهم العام، هي مطالب إنسانية مشروعة، لكن ما أغفله البرنامج، هو التاريخ الذي أوصل هذه الأقلية إلى الحال الذي هي عليه، بدءاً من الحروب التركية اليونانية، وطرد تركيا الكثير من اليونانيين، واحتلال أجزاء من جزيرة قبرص، وغيره مما ذكر آنفاً، مما بنى تاريخاً من الشك بين البلدين، خصوصاً وأنّ البرنامج يتحدث عن إشرافٍ تركي على مطالب المسلمين الأتراك التراقيين. فمن هم أولئك المطالبون بحقوقهم من خلال تركيا؟ وهل هم مواطنون عاديون فقط، أم أشخاصٌ يرسمون دور حصان طروادة، للاستفادة من حاجات الأفراد هناك لإرساء مصالح تركية معينة؟

الديموقراطية كأداة
عدا عن وصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في البرنامج بأنّه "بطل" بالنسبة لمسلمي تراقيا من العرق التركي، فإنّ الفقرات التي تختصر طبيعة البرنامج على الموقع، تتحدث عن الديموقراطية التي تربت وترعرعت في اليونان – في إشارة للفلاسفة اليونانيين – التي تغيب اليوم عن الأقلية التركية، وخلال البرنامج، يتم عرض وجهة النظر الداعمة ليس للأقلية التركية بوصفها أقلية ولها مطالبها، بل وجهة النظر التي تمثل الزاوية التي تنظر إليها أنقرة بهذا الخصوص، على أنّ مسلمي تراقيا يمثلون بذوراً ممكنة من أجل "استقلال إقليم تراقيا" الذي "يرفض سكانه من المسلمين الأتراك إشراف الدولة التي هم جزء منها على أوضاع الإقليم هناك، وذلك وفقاً لـ "يورونيوز" في تقرير نشر بنهاية عام 2017، إذ يذكر التقرير أنّ عدد سكان تراقيا المسلمين "يفوق 110 آلاف بقليل، وهم من أصولٍ تركية، وأصولٍ بلغارية من غجر الروما والبوماك". يسري عليهم "نظام قانوني استثنائي يقضي بتطبيق أحكام الشريعة المتعلقة بتنظيم الزواج والطلاق والإرث بسبب طبيعة معتقداتهم الدينية، وقد تم عمل إصلاحٍ تشريعي يوناني من أجل تخيير الناس في حال أحبوا اللجوء إلى القانون المدني اليوناني" وفق الموقع ذاته، وذلك بسبب حالات وصفت أنّها "غير قانونية، تم من خلالها الاستيلاء على ميراث أو القيام بأمور أخرى لا قانونية من خلال حجة تطبيق الشريعة".

أردوغان في تراقيا.. تسييس حقوق الناس يودي بهذه الحقوق

وفي عام 2019، بحسب موقع "يورو نيوز" ، تم تحسين وضع المسلمين في مدن أخرى، منها العاصمة أثينا التي ينتمي مسلموها إلى العديد من القوميات، وهم ليسوا أتراكاً فقط، وقد ركز البرنامج الوثائقي على المسلمين الأتراك تحديداً، وفي تراقيا بالذات. وبغض النظر عن مدى جودة الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة اليونانية من أجل دمج المسلمين ضمن بيئتهم ومجتمعهم في اليونان، استضاف الوثائقي شخصياتٍ عديدة، على أنّها تمثل الرأي العام للمسلمين الأتراك في تراقيا، منهم عيدن أحمد، وهو مسؤولٌ في اتحاد المعلمين للمدارس التركية في تراقيا، والذي أكد على ضرورة وجود مدارس مستقلة لأبناء المسلمين الأتراك عن أقرانهم من اليونانيين، وذلك برأيه من أجل "الحفاظ على الهوية والثقافة واللغة والدين"، وفيما استنكر عيدن محاولات الدمج اليونانية للطلاب في مدارس موحدة، قال رئيس تحرير صحيفة الأقلية في تراقيا "ميلت" جنكيز عمر، أنّ "تعيين مفتين من قبل الدولة هو أمرٌ ربما يرفضه المسلمون الأتراك في تراقيا، ويفضلون مفتين منتخبين يمثلونهم ويمثلون آراءهم ومعتقداتهم بشكلٍ أفضل". كما أشار إلى حق المسلمين بإدارة هيئاتهم الدينية، وهو ما صرحت به الصحيفة قبلاً، في عام 2018 عندما شهدت قضية ضدها في المحكمة، تم رفعها ضد جنكيز عمر شخصياً "من قِبل مفتيين رأيا في انتقادات الصحيفة لعملهما نوعاً من الافتراء والإساءة" وفقاً لـما نشرته "وكالة الأناضول" في عام 2018.

اقرأ أيضاً: صحيفة يونانية تُفنّد مزاعم تقرير لـ "الجزيرة".. ما مصلحة القناة القطرية في الإساءة لليونان؟

من ناجيةٍ أخرى، تحدث مسؤول في "اتحاد تركيا وتراقيا الغربية في أوروبا" وهو حبيب أوغلو، عن المصاعب التي يعاني منها "المسلمون الأتراك وكيف يتم إهمال ذكر هويتهم التركية بسبب الصراعات اليونانية التركية".
وانطلاقاً مما قاله أوغلو، ومن سبقوه، فإنّ الوثائقي لا يركز على قيام تركيا بتوتير علاقاتها مع اليونان بين حينٍ وآخر، وكان آخر تلك التوترات حصل بعدما ألقت تركيا بأعدادٍ من اللاجئين السوريين على الحدود التركية اليونانية، محاولةً إجبار اليونان كبوابةٍ لأوروبا، أن تتحمل وزر المشاكل التركية في شمال سوريا، حيث لا تحصل تركيا وقواتها هناك على غطاء أوروبي كافٍ.


في المقابل، يتضح من سير البرنامج الوثائقي، أنّ البعد التوثيقي التاريخي، والواقعي، غابا عن مشاكل المسلمين في اليونان، فلتركيا دور تاريخي مستمر، في جعل الأقليات ضحايا لخلافاتها كما يبدو، ومثال استثمارها في الأقلية السورية داخل تركيا واضح أيضاً. أما أوضاع المسلمين الأتراك في اليونان، فيبدو بشكلٍ كبير، أنّ البرنامج كشف عن تخوفٍ يوناني من استقلالية المسلمين الأتراك، ورفضهم تدريس أبنائهم في مدارس موحدة، أو الخضوع للقانون المدني العام، وهو حقهم ربما، لكن ليس تحت إشرافٍ تركي تخافه اليونان؛ لأنه لا يُعبر إلا عن مصالح تركية بحتة، ونوعٍ من السيطرة التي تريدها تركيا من خلال فصل مدنٍ في تراقيا عن محيطها، من أجل مطالب استقلالية مستقبلية، وهو ما لا تقبله أي دولة بشكلٍ عام. ومن المؤسف الحديث أنّ الوضع الاقتصادي في اليونان من أسوأ الأوضاع في العالم، وأنّها بلد لا تحتمل التقسيمات والحروب والصراعات العرقية، لذا كان أجدى بتركيا أن تتحول إلى تقديم دعمٍ عام إلى جارتها اليونانية، غير مشروط بأقلية أو عرقية محددة، مما كان سوف يجلب العديد من المصالح الخَيرة على مسلمي تراقيا، والناس جميعاً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية