سليمان القانوني.. قاتل ابنه وألعوبة زوجته

سليمان القانوني.. قاتل ابنه وألعوبة زوجته


30/03/2020

وليد فكري

يبالغ العثمانيون الجدد وأتباعهم في تعظيم "رموز" التاريخ العثماني إلى حد عصمهم من الخطا وتحصينهم من النقد، ولكأنما يغفل هؤلاء أن الشخص التاريخي ما هو إلا "إنسان" يخطيء ويصيب فله ما له وعليه ما عليه فلا هو بالشيطان المريد ولا هو بالمَلَك المعصوم..

يتجاهلون حقيقة أن لكل شخص تاريخي جوانب عدة، فيقرأون التاريخ بانتقائية بحيث يغفلون ما يدين هذا الشخص ويقتصرون في دعايتهم لتاريخهم على الترويج لما يعظم سلاطينهم ويصورهم كنماذج خارقة للطبيعة أو كأمثلة للكمال البشري.. فيتحول الشخص التاريخي إلى صنم كأصنام الأولين التي كان العابد لها يصفها بأنها "الآلهة الشُم العوالي"

من الشخصيات التاريخية التي أضفى عليها هؤلاء هالات القداسة وأردية الكمال السلطان العثماني سليمان الأول المشهور ب"القانوني"

الصورة النمطية لسليمان القانوني:
الشائع عن السلطان سليمان القانوني أنه من أعظم سلاطين العثمانيين، أمسك بالحكم بقبضة من حديد وكان نشيطًا في الغزو والدبلوماسية والتقنين، غزا المجر والنمسا وأدب المتمردين عليه في كل مكان، وطد حكم العثمانيين في العراق واليمن وردع الصفويين، مُد في عهده النفوذ العثماني إلى الجزائر وتونس، وناطح إمبراطورية الهابسبورج الشامخة سواء في شرق أوروبا أو في البحر المتوسط.. ووُصِفَ بأنه "ظل الله في الأرضين مجدد دين الأمة المحمدية"

من زاوية القراءة العثمانية للتاريخ فهذا الكلام صحيح وإن أضيفت له بعض المبالغات الخبيثة.. فالدور الأكبر في مواجهة الإسبان في غرب المتوسط كان للمتطوعين من الأجناس المتفرقة بين أروام وأتراك ومغاربة بقيادة الأخوان بارباروسا الذان وإن منحهما العثمانيون صفة عثمانية رسمية إلا أن ذلك كان بعد كفاح وجهاد وبلاء كلا منهما في سبيل حماية شماليّ أفريقيا ومناصر مسلمو الأندلس بينما كان التدخُل العثماني رمزي واستمالة الدولة العثمانية لهما مجرد محاولة للاستيلاء على مجدهما والاستفادة منه لتأكيد الدعاية العثمانية بأن السلطان العثماني هو حامي المسلمين

والحرب بين آل عثمان وآل هابسبورج وإن أخذت شكل "الحرب الدينية" في دعاية الطرفين إلا أنها كانت في حقيقة الأمر مجرد حرب مصالح بحكم توسع العثمانيون في شرق أوروبا التي دخلت في حيازة الهابسبورج بسبب سلسلة من زيجات ومصاهرات المصالح مع الأسر الحاكمة الأوروبية.. فكان اصطدام العملاقان العثماني والهابسبورجي حتميًا بغض النظر عن قضية الدين!

وإن كان هذان التحليلان محل نقاش وجدل وأخذ ورد-بطبيعة الحال-إلا أن ثمة واقعتان مثببتان في كتب التاريخ العثماني-من المدافعين عن الدولة العثمانية قبل أن يكون من أعداءها-تقدمان جانبًا سلبيًا من هذا السلطان بلغ من الخطورة أن قال بعض المؤرخون-ومنهم المتعاطف مع العثمانيين-بأنه أسهم في دخول الدولة العثمانية في طور الانحطاط..

روكسلان الخبيثة ومقتلة ولي العهد وأبناءه:
بطلة هذه الواقعة هي إمرأة اسمها "روكسلان".. إمرأة روسية اشتهرت بالجمال وأنها دائمًا تحمل ابتسامة فاتنة، ضمها السلطان سليمان لحريمه وسماها "خوروم" أي "الباسمة" وتعلق بها إلى حد أنه عاملها كأنها زوجته الوحيدة..

كان ولي عهد السلطنة هو شاه زاده مصطفى، ابن سليمان القانوني من زوجته ماه دوران خاصكي، وكانت روكسلان/خوروم تنظر لهذا الأمر بعين السخط طامعةً في أن يكون وريث العرش من أبناء السلطان منها-وقد كانت أمًا لكل أبناءه الذكور عدا مصطفى-ولما كانت إمرأة قاسية متوحشة لا ينم جمال وجهها عن قبح سريرتها فقد راحت تدبر بهدوء وخبث للإطاحة بشاه زاده مصطفى ليخلو وجس وراثة العرش لابنها الأكبر "محمد"
وما زاد من إصرارها على ذلك حقيقة وجود مادة "قتل الإخوة الذكور" في قانون نامه محمد الفاتح سيفًا معلقًا على عنق إخوة ولي العهد إذا ما تربع يومًا على العرش.

تلفتت روكسلان حولها تبحث عن حليف قوي تتخذه أداة لمؤامرتها فوجدت أمامها "رستم باشا".. فسعت لأن يصل إلى أعلى مرتبة تحت السلطان وهي "الصدارة العُظمى"(رئاسة الوزراء)، والتي كان يحتلها الوزير العتيد صعب المراس إبراهيم باشا والذي كان رجلًا قديرًا ذو نفوذ واسع.. فسعت الخبيثة لتدبير وقيعة بينه وبين السلطان أدت في النهاية إلى قيام هذا الأخير بإعدامه.

ثم توالى على المنصب رجال ضعاف لم يسد أحدهم الفراغ التي تركه غياب إبراهيم باشا، حتى وقعت الكرة في حجر رستم باشا صنيعة روكسلان، والذي استطاع أن يكسب ثقة ومحبة السلطان إلى حد أنه قد صاهره، فتزوج رستم من "مهرماه سلطان" ابنة سليمان المفضلة، وتولى منصب "الصدر الأعظم"..
خلال هذا التدبير كانت روكسلان قد فقدت ابنها محمد بوفاته أثناء توليه ولاية صاروخان، فلم يثنها هذا عن خطتها، ووضعت أملها في ابنها سليم,

كانت الضربة القاضية لتلك المرأة وحليفها رستم باشا هي الوقيعة بين السلطان وولي عهده.. كان شاه زاده مصطفى في سن الثامنة والثلاثين، وقد نُصِب وليًا للعهد منذ كان في السادسة من العمر، وكان عاقلًا منضبطًا مثقفًا ومحبوبًا من العامة والجيش بشكل يبشر بأنه سيكون يومًا ما سلطانًا عظيمًا.

استغل رستم تحرُك السلطان مع ولي العهد على رأس الجيش العثماني لمحاربة الشاه الصفوي "طهمسب"، وأبلغ مولاه أن ابنه مصطفى يراسل قادة الإنكشارية ويحرضهم على الانقلاب على والده، وقدم-رستم-أوراقًا مزورة رتبها مسبقًا مع روكسلان تفيد بوجود مراسلات بين شاه زاده مصطفى والشاه الصفوي، يعد فيها مصطفى الشاه بالمصاهرة والتحالف لو ساعده على التخلص من أبيه السلطان سليمان!

ولما كانت الحليفان روكسلان ورستم قد تمكنا من ثقة وعقل سليمان القانوني، فقد صدق الادعاء بسرعة ويسر، ودون تدبُر سارع باستدعاء ابنه وولي عهده إلى خيمته.. وفي الخيمة تم إعدام الابن خنقًا أمام أبيه ثم نُقِلَت جثته لتُدفَن في مدينة بورصه.. وإمعانًا في التنكيل بضحيتها، سارعت روكسلان بإرسال من يخنق الطفل الرضيع لولي العهد المقتول!

لم يمر مقتل مصطفى مر الكِرام، فقد ثار غضب الجند لما جرى له، فحاول السلطان تهدئتهم بعزل رستم باشا وتعيين أحمد باشا للصدارة العُظمى، فسعت المرأة الدموية للوقيعة بينه وبين السلطان الذي عزله وأعدمه واعاد رستم باشا لمنصبه، ثم فقد السلطان وركسلان ابنًا آخر هو الأصغر "جهانكير" الذي كان شديد التعلق بأخيه الأكبر فمات كمدًا.

فصار الآن للعرش وريثان هما على التوالي سليم وبايزيد.. وأخيرًا توفيت روكسلان/خوروم قبل أن تشهد حسم ذلك الصراع العائلي الدامي

مزيدًا من قتل الأبناء بموافقة السلطان:
لم ينقطع خيط الدم في بيت سليمان القانوني بموت زوجته الأثيرة المتوحشة.. فقد وقعت الوحشة بين ابنيها سليم وبايزيد.. وكان هذا الأخير أميرًا قديرًا مشهورًا بالفضائل والثقافة فضلًا عن خبرته العسكرية من خلال مشاركته في حملات أبيه، وطوافه بولايات السلطنة سواء في بلاد العرب أو غيرها.

ومال السلطان لابنه سليم على حساب بايزيد الذي حاول أن يحارب أخيه لكنه هُزِمَ في المعركة، فهرب بايزيد إلى بلاط الشاه الفارسي لاجئًا إليه..

فأرسل السلطان سفارة للشاه الفارسي-وكانت بينهما معاهدة سلام-يرشوه بمبلغ كبير من المال مقابل أن يتخلص من ابنه بايزيد.

وبالفعل قام الشاه الصفوي بالغدر بضيفه، وقُتِلَ بايزيد وأبناءه الأربعة وبُعِثَت جثامينهم إلى سليمان القانوني الذي بعث إلى مدينة بورصه من يقتل الابن الخامس لبايزيد! وهكذا استقرت ولاية العهد لسليم الثاني..

وأما الوزير الداهية رستم فكان قد وافاه أجله بعد حياة حافلة بالمؤامرات، وقد اشتهر بالارتشاء وبيع المناصب وجمع الثروة من مصادر غير شرعية إلى حد أن المؤرخ العثماني بجوي إبراهيم أفندي يعدد في تركته نحو 100 حِمل من النقود والسبائك الفضية و1000 مزرعة في الأناضول وولايات الرومللي و170 مملوكًا و2900 فرسًا و1160 جملًا و600 سرج فضي و500 سرج مرصع بالذهب و1100 عمامة موشاة بالذهب و860 سيفًا مرصعًا و1500 خوذة فضية، هذا بخلاف المجوهرات والأواني والتحف وما إلى ذلك!
وكل ذلك تحت أنف "ظل الله في الأرضين مجدد الملة المحمدية" السلطان سليمان القانوني!

بمقتل كلا من مصطفى ثم بايزيد خلا العرش لسليم الثاني الذي يذكر المؤرخون أنه كان بداية دخول الدولة العثمانية في مرحلة "الاضمحلال".. حيث لم يكن بكفاءة أخويه القتيلين بل كان خاليًا من مؤهلات الحكم والقيادة
أي أن سليمان القانوني كان قد قضى عمره يوطد أركان إمبراطورية واسعة قوية، ثم أنهى مسيرته بأن أسلم نفسه لألاعيب إمرأة دموية، وتدابير وزير فاسد مرتشي، وتهافت ولي عهد غير كفء.. وقضى بنفسه على من كان كلًا منهما أهلًا لخلافته، ولوث عهده بدماء ابنيه وأحفاده..

ورغم ذلك يجد من يحصنه من كل نقد ويقذف ناقده بالاتهامات في خلقه ودينه، ومن يرفعونه لمصاف العظماء من القادة والملوك والسلاطين المسلمين إلى حد وصفه بأنه "مجدد الأمة المحمدية"!
لا أنكر أن لفترة حكمه جوانب أخرى قد يكون بعضها إيجابيًا (من الزاوية العثمانية بالطبع لأنه من الزاوية العربية مجرد محتل) وبطبيعة الحال فإن من الإساءة للموضوعية التاريخية تناول جانب واحد من شخصية تاريخية..
ولكني أقدمه نموذجًا للتناول أحادث الجانب للتاريخ من قِبَل هؤلاء العثمانيون الجدد الذين ينتقون من سير "رموزهم" فقط ما يخدم دعايتهم للدولة العثمانية وللدعاوى المتهافتة لإحيائها.

عن "سكاي نيوز عربية"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية