الإلحاد وما بعد الإسلاموية .. هل ثمة علاقة؟

الإلحاد وما بعد الإسلاموية .. هل ثمة علاقة؟


07/07/2021

في سياق الاشتغال على ظاهرة الحركات الإسلاموية، خلصنا إلى أنّ بعض نتائج مرحلة الانفصال على المشروع؛ أي الانتقال من مقام الإسلاموية إلى مقام "ما بعد الإسلاموية"، والتي قد تفضي بصاحبها إلى معاناة مع الذات، اصطلحنا عليها بالضرائب، وأحصينا منها أربع ضرائب على الأقل: نفسية وأخلاقية وروحية وعقلية.

اقرأ أيضاً: نتائج عكسية للأسلمة: الإلحاد يتعاظم في تركيا

مؤكد أنّ هذه الضرائب مؤسّسة على فرضية، قابلة للنقد والنقض، لولا أننا لم ننطلق من فراغ في معرض الاشتغال على هذه الظاهرة، بقدر ما انطلقنا من معاينات على أرض الواقع المادي والرقمي، على حدّ سواء؛ بل حتى لو لم يتم الانتباه إلى هذه الحالات وتفاعلاتها على أرض الواقع المادي، فإنّ الواقع الرقمي يعج بالأمثلة الدالة.

يعيد العقل الإسلامي الحركي النظر في جهازه المفاهيمي عندما يشرع في الاشتغال على الفوارق بين الدين والتديّن

نحن نذهب إلى أنّه في حال كانت هذه الفرضية صحيحة، فإنها تساعدنا على قراءة ردود أفعال العديد من الإسلاميين السابقين، في سياق التفاعل النقدي من المرحلة السابقة، والتي قد تصل إلى مقام الإلحاد، وهذا هو الهدف من المقالة؛ أي التوقف عند بعض الأسباب التي نعتقد أنها يمكن أن تفسر لنا هذا التحول من النقيض إلى النقيض: من الانتماء إلى مشروع إسلامي حركي، يريد أسلمة المجتمع والنظام والدولة، يدافع عن الدين، بصرف النظر عن مضامين الدفاع وآليات تصريفه المشروع، نحو مقام الإلحاد؛ بل والتفرغ لسبّ المسلمين، سواء بشكل ذاتي، أو قل تطوعي، أو بشكل يطرح علامات استفهام حول السياق والتوظيفات الخارجية، ومن باب عدم الانتصار لخطاب "تفتيش النوايا"، وذلك يتميز به أي مشروع أيديولوجي، بما في ذلك المشروع الإسلامي الحركي، فإنّ هذه المقالة تهم الصنف الأول من الإسلاميين؛ الذين أصبحوا من أتباع الإلحاد، ومن المنخرطين في ما يُشبه تصفية حسابات مع الدين، ولكن من منظور ذاتي، وبالتالي، لا نتحدث قط عن التيار الثاني المنخرط بشكل أو بآخر في ما يُشبه إستراتيجيات، وما إلى ذلك.

اقرأ أيضاً: بعد اتهامهم بالإلحاد... ملاحقات أمنية تطال شباباً عراقيين

يمكن في هذا السياق استحضار ظاهرة الإسلاموي المغربي الذي مرّ من تجربة إسلامية حركية في زمن المراهقة مع جماعة إسلامية في القنيطرة، قبل مروره بأزمات نفسية أفضت إلى اعتناقه مذهب الإلحاد والإقامة في ألمانيا اليوم، مع طبعه، في مطلع 2019، كتاباً بعنوان "مذكرات كافر مغربي"، حظي ببعض الترويج خلال النسخة الأخيرة من المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء.

تعج المواقع الرقمية بالخطاب الإلحادي ولكنها حالات فردية أكثر منها تنظيمات أو مشاريع أو مؤسسات

يمكن حصر مجموعة من أسباب هذا التحول الذي نعاينه عند العديد من أتباع الإسلاموية (سلفية جهادية، إخوان، ...إلخ)، مع أهمية وضرورة استحضار عامل نعتقد أنه يُجسد قاسماً مشتركاً في هذه الأسباب، وهو العامل الذاتي أو الشخصي الخاص بالملحد المعني، ولو أن تأكيد ذلك يقتضي الاشتغال على كل الحالات المعنية، من خلال العودة إلى ما مَيّز مرحلة الطفولة والمراهقة على الخصوص.
يهمنا التوقف عند ثلاثة محددات على الأقل
1. المحدد الاعتقادي؛ ومردّه تبعات المرحلة الاعتقادية للمتديّن في مرحلة الانتماء للإسلاموية المعنية؛ حيث يسقط من حيث يدري أو لا يدري في مأزق التماهي بين الدين والتديّن؛ أي بين الإسلام المتعالي والإسلاموية النسبية، فتكون فشل التجربة الإسلاموية أشبه بفشل الإسلام في الجهاز المفاهيمي للمتديّن المعني.

وليس صدفة أن العقل الإسلامي الحركي يُعيد النظر في جهازه المفاهيمي عندما يشرع في الاشتغال على الفوارق بين الدين والتديّن، فالدين هو الأصل، وهو المنزه عن التحريف، يُؤخذ منه ولا يُرد، من قبيل النهل من القرآن الكريم، لأنه كتاب مُنَزّل ومنزه؛ بينما التديّن، بما في ذلك التديّن الذي ينتمي إليه الفاعل الإسلامي الحركي، يبقى تديناً بشرياً، يُؤخذ منه ويُرد.

اقرأ أيضاً: العراق.. الأحزاب الدينية تُطارد الشباب بتهمة الإلحاد

2. المحدد الأخلاقي، وهو محدد متفرع عن المحدد السابق، أي متفرع عن المحدد الاعتقادي، فبمقتضى اعتقاد المتديّن الإسلاموي أنّ الإسلاموية التي ينتمي إليها تجسد الإسلام على أرض الواقع، بما يُفسر قابلية ممارسة النقض ضد باقي الإسلامويات، فالأحرى باقي الأيديولوجيات، فإنّ معاينته لممارسات عملية في التنظيم الإسلامي، تعادي الأخلاق والدين، فإنه يتوهم أنها لصيقة بالدين، بينما يتعلق الأمر بممارسات لصيقة بالتديّن، ومرد هذا التوهم كما سلف الذكر، اعتقاده المغلوط، حتى لا نتحدث عن اعتقاد فاسد، أن هذا التديّن يُجسد الدين.

نجد أن الإلحاد السائد في المغرب والمنطقة يهم ظواهر إلحادية معرفية أو ثقافية أكثر منها ظواهر إلحادية حقيقية

3. المحدد النفسي، وهو محدد نعاينه بشكل لافت في عدة حالات عربية، وهو المحدد ذاته الذي يُخول لنا الحديث عن حالات إلحاد معرفي أكثر منها حالات إلحاد ديني صرف، بخلاف السائد مع الظاهرة الإلحادية في السياق الأوروبي، وميزة هذا المحدد؛ أنّ المتديّن المعني، في مرحلة أخذ مسافة من الإسلاموية التي كانت ينتمي إليها، وإعلان القطيعة النظرية والتنظيمية، يتطرف في هذا المسار، إلى درجة تبنيه ممارسات نقدية حادة، لا تخرج عن توجيه النقد للدين وللتديّن، كما لو كان ينتقم لنفسه، بينما في الواقع يكاد يكون في حالة تصفية مع الذات.

بسبب الثقل الكبير لهذا المحدد مقارنة مع المحددين سالفي الذكر أعلاه، نذهب إلى أن الإلحاد السائد خلال الأعوام الأخيرة في المغرب والمنطقة، يهم ظواهر إلحادية معرفية أو ثقافية أكثر منها ظواهر إلحادية حقيقية، وبالتالي تبقى معرضة لأن تكون ظواهر مجتمعية عابرة، وهذا يذكرنا بالظواهر ذاتها في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مع ما كان يُميز ظاهرة "حركة إلى الأمام" في المغرب مثلاً، مع العديد من رموزها وكذلك العديد من الرموز اليسارية بشكل عام، قبل أن يتضح بعد عقود لاحقة، لاعتبارات نفسية وثقافية وسياسية أيضاً، أنه لا مستقبل لهذا الخطاب في المنطقة، ما دامت تضم تديناً محافظاً بشكل عام، بصرف النظر عن ارتفاع مؤشر التديّن الإسلامي الحركي (السلفي والإخواني والجهادي، ...إلخ)، لأنّ هذا التديّن يجسد أقلية بدوره.

اقرأ أيضاً: شباب مغاربة من التشدد والتطرف إلى الإلحاد

صحيح أنّ المواقع الرقمية تعجّ بالخطاب الإلحادي، ولكنها حالات فردية أكثر منها تنظيمات أو مشاريع أو مؤسسات، وبالتالي ليست مؤشراً نوعياً دالاً على ارتفاع حقيقي لمؤشر الإلحاد، لأن السياق الثقافي بشكل عام، ومعه السياق الديني والهوياتي في المنطقة، لا يسمح بانتشار كبير للخطاب الإلحادي؛ بل إنّ هذا الانتشار متواضع حتى في الدول الغربية الأوروبية على الخصوص، فالأحرى أن يكون كذلك في دول المنطقة العربية والمجال الإسلامي.

بقيت إشارتان ضروريتان:

ــ أولها؛ أننا توقفنا عند المُحددات الذاتية المغذية لظاهرة الإلحاد، ولم نتحدث عن المحددات الموضوعية التي تساهم في بزوغ الظاهرة، وهي محددات خارجية، وفي مقدمتها المحدد الديني، ونقصد به التفاعل العكسي السلبي مع جزء من الخطاب الديني التقليدي، في شقه المتشدد على الخصوص. نقول هذا بصرف النظر عن صعوبة الظفر بأرقام حقيقية حول نسبة الإلحاد من جهة، وطبيعته من جهة ثانية، هل يتعلق الأمر بإلحاد ديني حقيقي أم إلحاد معرفي أو ثقافي؟ مع التأكيد أنّ هذا المحدد الخارجي يهم الملحدين بشكل عام، بمن فيهم أتباع الإسلاموية سابقاً، لولا أننا في هذا المقال نتحدث عن هذا التيار بالذات.

اقرأ أيضاً: عندما اتهم رشيد رضا طه حسين بالإلحاد والكُفر!

ــ تتعلق الملاحظة الثانية بظاهرة نعاينها خلال الأعوام الأخيرة، وهي انخراط إسلاميين (إخوان وسلفية) في التصدي لظاهرة الإلحاد، وهذه مفارقة نظرية، تحيلنا على مأزق اللامفكر فيه في الجهاز المفاهيمي لهذه المشاريع، على اعتبار أنّ هذا الخطاب يتحمل جزءاً من المسؤولية في ولادة ظاهرة الإلحاد، عبر تحريم الفلسفة والمنطق، والعداء للمرأة والفنّ، ...إلخ، والآن، نجده يشتغل على التصدي للإلحاد، ولو تطلب الأمر الاستعانة بأدبيات الفلسفة، أو قل، كيف لمن تسبب أحيانا في المساهمة ولادة الإلحاد أن ينخرط في التصدي النظري له؟

هذه بعض الوقفات الأولية مع المحددات الذاتية المغذية لظاهرة الإلحاد عند بعض الأتباع السابقين للظاهرة الإسلاموية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية