موريس أودان: الفرنسي الذي دفع حياته حبّاً للجزائر

موريس أودان: الفرنسي الذي دفع حياته حبّاً للجزائر


04/02/2019

مثّلت الثورة الجزائرية، في منتصف القرن العشرين، أهمّ حركات التحرر الوطني في العالم، وتوجهت لها أنظار الجميع، بمن فيهم أحرار فرنسا، التي احتلت البلاد ما يقرب من قرن ونصف القرن.

اقرأ أيضاً: الجزائر تحارب الإرهاب.. هذه حصيلة العمليات الأمنية
وفي نهايات عام 2018؛ صّرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمقتل المناضل الشيوعي، الفرنسي موريس أودان، على يد القوات الفرنسية بالجزائر، وهي خطوة رحّبت بها عائلته، بعد أن جهلت مصيره طيلة 61 عاماً كان يعتصرها الألم لغموض اختفائه.
ويظلّ التساؤل الأبرز: من هو موريس أودان؟ ولماذا قررت بلاده التخلص منه؟

ولد موريس لويس أودان، في الرابع عشر من شباط (فبراير) العام 1932

النشأة والأفكار
ولد موريس لويس أودان، في الرابع عشر من شباط (فبراير) العام 1932، في مدينة باجة التونسية؛ حيث كان والده رئيس لواء الدرك في المدينة، وقت الحماية الفرنسية على تونس، وترجع أصول والده لمدينة ليون الفرنسية، فقد كان فلاحاً من قرية ميتيجه، وتزوج من والدته، ألفونسين، عام 1923، ذات الأصول المتواضعة، في مدينة كوليا الجزائرية، وقد أعدّ لويس ابنه ليكون جندياً فرنسياً، فأصبح لواءً في القوات الفرنسية في الجزائر، عام 1943، لكن موريس اتّخذ طريقاً مختلفاً، بعد أن قرّر الالتحاق بمدرسة (آتون)، والتخلي عن مهنته كضابط، ليدرس الرياضيات في الجزائر، في مدرسة غوتييه الثانوية، ثم التحق بجامعة الجزائر، وحصل على شهادة البكالوريوس، عام 1953، وأكمل دراسة الماجستير، وتم تعيينه مساعداً للبروفيسور، رينيه دي بوسيل، وبدأ في العام التالي العمل على أطروحته حول "المعادلات الخطية في الفضاء الناقل"، وبعد أن التقى برفيقة دربه "جوزيت" قررا الزواج، وكان كلاهما قد انضمّ للحزب الشيوعي الجزائري، عام 1951، بعد أن كانا عضوين في خلية "لانجفين"؛ التابعة لاتحاد طلاب الشيوعيين الجزائريين، خلال الدراسة الجامعية.

موريس وجوزيت يعدّان من الأقلية الفرنسية المناهضة للاستعمار وقد اتخذا من قضية تحرير الجزائر هدفاً واضحاً لهم

موريس وجوزيت يعدّان من الأقلية الفرنسية المناهضة للاستعمار، وقد اتخذا من قضية تحرير الجزائر هدفاً واضحاً لهم، وهو ذات الموقف الذي اتخذه الحزب الشيوعي الجزائري، الذي ضمّ العديد من الفرنسيين، وقد تمّ حظره من قبل المحكمة الفرنسية، عام 1958، ليتحوّل إلى العمل السرّي، وقد شارك أودان أيضاً في اجتماعات رابطة الطلاب المسلمين، الذين رحّبوا به وحرصوا على انضمامه إليهم، وعام 1956؛ انضمّ شقيقا موريس،؛ شارلي أودان، كريستيان بونوو، إلى حركته في مناهضة الاستعمار، وفي آذار (مارس) العام 1957؛ انضمّ زعيم شيوعي آخر إليهم؛ وهو "بول كاباليرو"، أحد أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي، حين قدم إلى الجزائر لتلقّي العلاج من قبل الطبيب المغاربي جورج حجاج، أحد أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري.

اقرأ أيضاً: الجزائر: التحالف الرئاسي يرشّح بوتفليقة لولاية خامسة
بدأت مطاردة أودان في حزيران (يونيو) العام 1957، بعد معركة الجزائر العاصمة، في انفجار مروع نفذته جبهة التحرير، أسفر عن مقتل 9 فرنسيين وإصابة 92 آخرين، اعتقلت القوات الفرنسية على إثره 3000 جزائري، وأخفتهم، ولم يتمّ التعرف إلى جثثهم حتى الآن، فيما ذهبت القوات لإلقاء القبض على موريس أمام زوجته وأطفاله الثلاثة، الذين لم يروا والدهم من وقتها، ليلة الحادي عشر من حزيران (يونيو) العام 1957.

اختفاء وغموض

عام 2014؛ صرّح الرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا أولاند، حول قضية اختفاء موريس أودان؛ مفيداً بأنّه مات في المعتقل، وكانت قد أغلقت السطات الفرنسية ملف قضيته عام 1966، بعد إقرارها بأنّه فرّ هارباً من السجن، ولم تتعرف إلى مكانه.

بدأت مطاردة أودان في حزيران عام 1957 بعد معركة الجزائر العاصمة في انفجار مروع نفذته جبهة التحرير

جاء هذا بعد تحقيق أجرته الصحفية الفرنسية، ناتالي فونز، ونشر في جريدة "nouvelobs"، عام 2012، عقب حصولها على وثيقة من جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، موقّعة من ضابط في الجيش الفرنسي، مفادها أنّ "الأستاذ الشاب موريس أودان أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الجزائر، اعتقل من قبل قوات المظليين، في الحادي عشر من حزيران (يونيو) 1957، وتم اقتياده إلى مركز التحقيق في الآبيار على مرتفعات الجزائر، وقد قضى نحبه على يد جندي فرنسي"، هكذا كشفت أول وثيقة تم العثور عليها كذب ادّعاء الجيش الفرنسي، حتى ظهر تصريح أولاند، للمرة الأولى، بخصوص هذه القضية، بعد زيارته لساحة أودان في الجزائر العاصمة، التي أقامها الجزائريون تكريماً لنضاله وذكراه، كما أنّ عائلة أودان لم تتوقف عن التنقيب خلف ما حدث له.

اقرأ أيضاً: إسلاميون يخوضون انتخابات الرئاسة الجزائرية.. ما هي حظوظهم؟
ظلّت جوزيت تذهب لكلّ رئيس يتمّ تنصيبه؛ بدءاً من الجنرال شارل ديجول، حتى إيمانويل ماكرون، لتبحث عن الحقيقة، وتطالبهم بكشف غموض اختفاء زوجها، حتى استجاب أولاند، واعترف ماكرون، الأمر الذي عدّته العائلة خطوة جيدة لتعترف فرنسا بما ارتكبته في حقّ الفرنسيين، سيما من أصل جزائري، وفي هذ الأمر، تحدثت المؤرخة الفرنسية المتخصصة في حرب الجزائر، سيلفي تينو، لوكالة "فرانس 24"، حول قصة موريس، موضحةً أنّه منذ اختفائه لم يره أيّ شخص، ولم تعرف أسرته أيّة معلومات عنه، سوى الخطاب الذي تركه الناشط الشيوعي، هنري آليج، يذكر فيه أنّه رآه في مركز الشرطة، وتبدو عليه آثار التعذيب، لكن تمّ الإفراج عن هنري قبل أن يعرف بمقتل أودان".

كما صرحت المؤرخة بأنّ "العسكريين قد استدعو زوجته في مطلع تموز (يوليو) عام 1957، وأخبروها بأنّ زوجها قد هرب من المعتقل، لتنهار جوزيت باكية، وتخبرهم بأنّهم قتلوه".
وقد أوضحت ميشيل أودان (ابنة أودان) أنّ السلطات وجهت إلى والدها عدة تهم، هي: إيواء جبهة التحرير الوطني، وتأييد استقلال الجزائر، والانضمام للحزب الشيوعي الجزائري المحظور، كما أنّه اتُّهم بمشاركته في التفجيرات التي قام بها المقاومون الجزائريون.

 انضمّ للحزب الشيوعي الجزائري، عام 1951

الاعتراف والمصارحة
بعد تصريح الرئيس الفرنسي، ماكرون، أجرت صحيفة "الغارديان" البريطانية لقاء مع ميشيل أودان (ابنة موريس)، تحدثت فيه عن وضوح مصير والدها، والذي يمثل بالنسبة إلى العائلة أكثر من علمهم بمصير والدهم، قدر ما يتمنونه من فتح ملف التعذيب الذي انتهجته فرنسا في حرب الجزائر، وهو الذي تنكره فرنسا إلى اليوم؛ حيث أنكر ماكرون وجود تعذيب في الجزائر، وصرّح بأنّ قتل أودان جاء في إطار قانوني في ذلك الوقت، الذي اقتضته ظروف الحرب ومواجهة الإرهاب الجزائري، على حدّ زعمه، ورغم التعقيدات التي شهدتها حرب الجزائر التي اقتربت من قرن ونصف، إلّا أنّ فرنسا ما تزال تمارس الإنكار، حتى في تعداد الشهداء الجزائريين، وتقول إنّهم لم يتجاوزوا الـ400000 ألف، بينما تذكر السجلات الجزائرية أن عددهم أكثر من مليون ونصف المليون شهيد.

في عام 1958 نشر المؤرخ الفرنسي بيير فيدال ناكيه تحقيقاً يفيد بأنّ الهرب من المعتقل كان مستحيلاً وأنّ موريس قضى تحت التعذيب

منذ عام 1957؛ قُدمت العديد من الأدلة الصحفية والقانونية التي تفيد بمقتل أودان، ولم يتم الاعتراف بها، لكنها مثّلت خطوة على طريق الاعتراف، الذي استغرق 61 عاماً، من ضمن هذه التحقيقات ما نشرته صحيفة "لوموند"، في آب (أغسطس) من العام ذاته،  بعنوان "أين اختفى موريس أودان"، مستشهدة برسائل هنري آليج، ورسائل موريس إلى جوزيت، وتوالت البيانات التي أصدرتها جوزيت، حتى تمّ عقد لجنة للبحث عنه، في تشرين الثاني (نوفمبر)، مكوّنة من زوجته جوزيت، والبروفيسور في الرياضيات بنيامين ويلهال، وألبرت شاتليه، وعدة أصدقاء للمفقود، مجتمعين بانتظام حتى عام 1962، وقد دفعت قضية موريس زوجته، إلى دعم أسر المختفين من المناضلين الجزائريين، ومساعدتهم في تصعيد قضاياهم إلى المحكمة.

اقرأ أيضاً: الانتخابات الرئاسية في الجزائر تشق أكبر الأحزاب الإسلامية
وفي عام 1958؛ نشر المؤرخ الفرنسي، بيير فيدال ناكيه، تحقيقاً يفيد بأنّ الهرب من المعتقل كان مستحيلاً، وأنّ موريس قضى تحت التعذيب، وقد نفّذ الاغتيال الجنرال شاربونييه، أحد ضباط المخابرات، وكان يعمل بقيادة الجنرال ماسو، لكن في عام 2000؛ نشرت جريدة "لوموند" تحقيقاً آخر، يفيد بأنّ "الجنرال شاربونييه لم يكن متواجداً في مقرّ التحقيق وقتها"، ما يعفيه من المسؤولية، لكن جاء اعتراف ابن الملازم شاربونييه، الذي أصبح جنرالاً، بعد وفاة والده، بحسب حوار أجرته معه الجريدة، أفاد بأنّ والده هو من قتل أودان؛ حيث كان غنيمة كبيرة بالنسبة إلى الجيش الفرنسي.

اقرأ أيضاً: أكاديمية جزائرية للغة الأمازيغية: حضر السياسي وغاب اللغوي

ويؤكد بيير أودان الابن، في لقاء أجراه مع صحيفة "نيويوك تايمز"؛ أنّ استمرار سعيهم وراء اعتراف فرنسا بارتكاب جرائم حرب بحقّ الجزائريين أمر لا بدّ من أن تفعله فرنسا لتتصالح مع ماضيها، ولتردّ بعض حقوق الضحايا الذين قضوا نحبهم ظلماً، وهم كثر، لكنّه على علم بأنّ من فعل ذلك بأبيه وحرمه منه، لن يُعاقب على فعلته؛ لأنّه ارتكبها تحت مظلة قانونية خلقها الاستعمار.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية