المسلمون في أوروبا وقضيّة الاندماج: لماذا يتفاوت الأمر من دولة إلى أخرى؟

المسلمون في أوروبا وقضيّة الاندماج: لماذا يتفاوت الأمر من دولة إلى أخرى؟

المسلمون في أوروبا وقضيّة الاندماج: لماذا يتفاوت الأمر من دولة إلى أخرى؟


26/02/2024

للمسلمين في أوروبا حضور بارز يتزايد عاماً بعد عام، وصار في الآونة الأخيرة مزعجاً لما يطرحه من تحدّيات على المجتمعات الأوروبية الممزقة بين الوفاء لمبادئ حقوق الإنسان التي أرست دعائمها منذ عشرات السنين، وبين الخوف من ذوبان هويتها. يترجم هذا الخوف حركات احتجاجية كما في ألمانيا مثلاً، أو في مواقف سياسية في هذا البلد أو ذاك، حتى استوى مفهوم جديد في الأوساط الثقافية والأكاديمية: الإسلاموفوبيا، الخوف من الإسلام.
نماذج الرؤية وأسسها
من هذا التحدي، كان منطلق عالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي، في كتابه "الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج" الذي ترجمه الباحث التونسي عز الدين عناية، وأصدره مشروع "كلمة" بالإمارات العربية المتحدة، لتحليل واقع الإسلام والمسلمين في أوروبا من حيث نظرة الأوروبيين إليه، من خلال جملة من النماذج التي شكلت مفاصل الكتاب وأثثت صفحاته، للإجابة عن سؤال مركزي حدده الكاتب منذ البدء: "لماذا صار الإسلام في أوروبا مسألة شائكة في الفضاء العمومي؟".

كتاب "الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج"

 

اعتمد الكاتب في مقاربته التحليلية للإسلام منظوراً إليه أوروبياً منهجاً مقارناً في خمسة فصول غطّت مختلف النماذج الأوروبية كما صنفها الكاتب، منطلقاً من مقارنة بين النموذجين الفرنسي والألماني المختلفين في نظرتهما إلى المسلمين الذين يعيشون فيهما اختلافاً عائداً إلى ما قامت عليه الأمتان الفرنسية والألمانية.
الإسلام بين لائكية فرنسا وعرقيّة ألمانيا
في فرنسا التي ترسخ فيها النظام الجمهوري للدولة، لا تقوم الهوية على أنموذج مغلق يلغي غير أهليّي فرنسا، وإنما يتسع ليشمل غيرهم أيضاً استئناساً بمبادئ حقوق الإنسان التي تم إعلانها في العام 1789 مع الثورة الفرنسية. لذلك فإنّ مفهوم الانتماء واسع، ويمكن أن يضم كل الذين يعيشون على التراب الفرنسي، رغم الاحترازات على الإسلام بسبب عنصرين هما كونية حقوق الإنسان وعقلانية الدولة الحديثة، وهما عنصران مازالا إلى اليوم يحولان دون "الاعتراف التام بالإسلام في الحياة العمومية للجمهورية" (ص. 44). أما في ألمانيا فإنّ الأمر مختلف، لأنّ الهوية فيها قائمة على أساس العرق، وبالتالي فالحصول على الهوية الألمانية أصعب بكثير، مهما كانت مساهمة المسلم اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً. ويقف الكاتب بعد تحليل سيرورة النظرة إلى الإسلام والمسلمين في فرنسا وألمانيا وما شهدته من تحولات مثل الاعتراف أخيراً بالاختلافات التي تطبع المواطنين الفرنسيين المسلمين، واعتراف ألمانيا بالإسلام بوصفه ديناً من جملة أديان أخرى تتعايش في البلد.

اقرأ أيضاً: الإسلام في أوروبا: اختراق "القارة العجوز" وصعود الإسلاموفوبيا
مفهوم الانتماء واسع، ويمكن أن يضم كل الذين يعيشون على التراب الفرنسي

التعايش في بريطانيا وهولندا
وخلافاً للأنموذجين الفرنسي والألماني، يرى الكاتب أن سياسة المملكة المتحدة، قد سمحت ببروز "جماعات" عرقية تكونت تدريجياً من اليد العاملة المهاجرة التي تنتمي أساساً إلى أصول أفريقية كاريبية أو إلى شرق آسيا. وسعت السياسة البريطانية "لتشكيل مجتمع متنوع الأعراق، تتميز فيه العلاقات بين مختلف الإثنيات بالانسجام" (ص. 63)

الدول الاسكندنافية تختلف عن بقية الدول إذ اختارت منذ البدء التأسيس لتعددية ثقافية مستندة إلى مسار العلمنة المترسخ فيها.

غير بعيد عن النموذج البريطاني سارت تجربة الإسلام في هولندا؛ إذ يعود تاريخها الذي حكمه الانقسام البروتستانتي الكاثوليكي في القرن السابع عشر، فتشكلت خريطة البلاد على قسمين: الكاثوليك في الجنوب والبروتستانت في الشمال. ورغم هذا الانقسام فإنّ هولندا نجحت في أن تكون "حالة نادرة على نجاح التعايش الديمقراطي بين أفراد يدينون بنظامي عقيدة مختلفين، تنتهي أصولهما إلى المسيحية" (ص. 75) كما ساهمت العلمنة في التقليص من حدة العامل الديني وما يفرضه من انقسام ديني داخل المجتمع الهولندي. وبرزت فيه مع موجات الهجرة في النصف الثاني من القرن العشرين وأجيالها المتعددة، "جزر عرقية ثقافية" كما يسميها الكاتب تتأسس على الجاليات المسلمة. ويخلص الكاتب إلى محدودية "سياسة الاعتراف بالاختلافات، ترك لدى الشباب المسلم هناك انطباعاً قوياً بأنهم مصنفون في خانة "المواطنين غير المتلائمين أصلاً مع قواعد النظام الديمقراطي ومع دولة القانون" (ص. 86)
التجربة البلجيكية
ومن النماذج التي حاول باتشي رصد الاختلافات بينها، أنموذج بلجيكا التي يمثل فيها الأتراك والمغاربة المسلمون حضوراً بارزاً، ولكن الفرق بينها وبين فرنسا مثلاً في علاقتها بالمهاجرين أنها لا ترتبط معهم بماض استعماري. وقد لعبت فيها جملة من الأحداث دوراً مهماً في التسريع بإصدار قانون عام خاص بالإسلام، وهو ما تم فعلاً في العام 1996، فصار بإمكان المسلمين انتخاب 51 عضواً في أربع دوائر انتخابية.
أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) هزت صورة الإسلام

آثار الحادي عشر من سبتمبر في البلدان الإسكندنافية
أما في البلدان الإسكندنافية، فإنّ الأمر يختلف عن بقية النماذج، ذلك أنّ هذه الدول اختارت منذ البدء التأسيس لتعددية ثقافية مستندة إلى مسار العلمنة المترسخ فيها. فاعترفت السويد مثلاً بالمساواة بين المواطنين السويديين والمواطنين الجدد، وتركت لهم حرية الاندماج في الثقافة السويدية أو الاحتفاظ بالثقافة الخاصة، كما ضمنت لهم حق المشاركة اجتماعياً وسياسياً. غير أنّ هذا النموذج صار "مرهقاً"- بعبارة الكاتب – إذ ظهرت بعض المشاكل غير المنتظرة وعلى رأسها حصول المواطنين الجدد أحياناً على مناصب تثير حفيظة بعض السكان الأصليين، بالإضافة إلى الثورة الإيرانية التي أثرت في علاقة إيران بأوروبا وجعلت الموقف من الإسلام في البلدان الإسكندنافية يشهد تحولاً طيلة عشرية الثمانينيات من القرن العشرين، وظهرت فيها موجة من الأحزاب تحت اسم "الديمقراطية الجديدة" تبني أسسها على الحد من تدفق المهاجرين من دول إسلامية.

اقرأ أيضاً: المهاجرون في أوروبا: تحديات الاندماج وعائق الهوية
يلقي الكاتب الضوء في محطة أخيرة على الأنموذج المتوسطي ممثلاً في إسبانيا وإيطاليا؛ ففي الأولى تم الاعتراف بالإسلام ديناً يضاف إلى تكوينها التاريخي بحكم الصلات القديمة في الأندلس الذي استمر قروناً. فالمساجد تتمتع بالحماية القانونية وتعقد إجراءات الزواج بمراعاة تعاليمه ويدرس الإسلام في المدرسة... ولكنّ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) هزت صورة الإسلام، ثم إنّ "الاعتراف القانوني بالإسلام" لم يعنِ "اعترافاً اجتماعياً آلياً بالتعددية الدينية في إسبانيا" (ص. 152)
المسلمون في أوروبا اختبار للتعددية
يحلل الكاتب مسألة اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية تحليلاً عميقاً أحاط فيه بالأسس التي انبنت عليها هذه المجتمعات، وحفر في تاريخها المعاصر والوسيط في علاقتها بالإسلام. لذلك خلص إلى أنّ "حضور الإسلام في أوروبا اليوم، يشكل اختباراً لقياس مدى قدرة ثقافة الأوروبيين على قبول التعددية الدينية الجديدة" (ص.174).

اقرأ أيضاً: المدارس الإسلامية في أوروبا: تكبيل الاندماج وتحفيز التطرف
إنّ كل حوار لمناقشة مسألة الإدماج لا ينبغي أن يعدم محورين رئيسين وهما احترام الهوية الدينية للآخر، ومراعاة منظومة حقوق الإنسان الكونية، وهما أمران يؤكدان أنه من غير المعقول اليوم اعتبار مسلمي أوروبا أجانبَ.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية