النقد القاتل

النقد القاتل


25/11/2018

إبراهيم حمزة

في كتابه الضخم "الكبار أيضا يضحكون يحكي أنيس منصور عن أستاذ جامعي كان من مناقشي الدكتور عبد الرحمن بدوي في رسالته للدكتوراه، هو باول كراوس، وهو مستشرق ألماني من أصل تشيكوسلوفاكي، كان أستاذا للغات السامية في جامعة فؤاد الأول (بمصر) سنة 1936 أقام بالقاهرة إلى أن مات منتحرا فيها.
يقول أنيس منصور: "في هذه المناقشة رفع طه حسين أستاذنا عبد الرحمن بدوي إلى السماء، عندما قال إنه أول فيلسوف مصري، أما باول كراوس، فرفعه طه حسين إلى ارتفاع مترين عن الأرض، مترين فقط، فعلى أثر مناقشة حادة وخاصة بين باول كراوس وطه حسين عاد باول إلى بيته بالزمالك وشنق نفسه بحزام (الروب دي شامبر) ولم يكتب سطراً واحداً عن الذي حدث.
وهكذا - مع التسليم بصدق ما ورد في الكتاب - يبدو النقد سبباً مباشراً للموت، الموت الحقيقي وليس مجازاً، وبالرجوع إلى باول كراوس، سنجد له حضوراً طيباً على مستوى الثقافة المصرية، فقد كان يكتب في مجلتي "الثقافة و"الأديب بشكل متكرر، وكانت له نقاشات عميقة وله (رسالة في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام) ثلاثة أجزاء، و(رسالة في فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي لأبي الريحان البيروني) وله في دائرة المعارف الإسلامية دراسات عن المستنصر بالله والرازيّ وابن الراونديّ وابن جبير، ولذا فإن انتحاره يظل أمراً مدهشاً وغامضاً.

الهجرة

صدر ديوان "تذكار الماضي عام 1911م، وكان الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي قد أصدره بعد سنوات من إقامته في مصر، ويقال: إن مقالا كتبه طه حسين عن الديوان، تسبب في خروج الشاعر من مصر إلى أمريكا، وهو كلام خاطئ تماما، فالديوان صدر عام 1911 وطه حسين لم يكتب حتى رحيله إلى فرنسا للدراسة سوى بعض قصائد نشرت بجريدة لطفي السيد، وقد ناقش محمد سيد كيلاني ذلك في كتابه "طه حسين الشاعر والكاتب وفي كتابه "الأيام أشار طه حسين لما كتبه من نقد عنيف في حق "المنفلوطي إرضاءً للشيخ عبد العزيز جاويش، صاحب الجريدة التي يكتب فيها، يقول: "وما أسرع ما انزلق الفتى إلى طول اللسان، وشيء من الشتم، لم تكن بينه وبين النقد صلة.

ويؤكد زهير ميرزا في مقدمة الأعمال الكاملة لإيليا أبي ماضي الصادرة عن دار العودة أن الأخير هاجر لأسباب لا علاقة لها بكراهيته الإقامة في مصر التي صورها في شعره بأنها "مليكة الشرق ويبدو ارتباط النقد القاتل بعميد الأدب العربي طه حسين متصلا، فقد كتب مقالا عند صدور ديوان إبراهيم ناجي (وراء الغمام) عام 1934، وقد غطى العميد نقده القاسي الجائر بغطاء حريري مذهب، حيث يبدأ مقاله المنشور - فيما بعد - ضمن كتابه "حديث الأربعاء بقوله: "ولنعد إلى شاعرنا الطبيب؛ لنهدي إليه أجمل التحية، وأحسن الثناء، ولنعرف له هذا البلاء الحسن الذي أبلاه في خدمة آلهة الشعر في وقتٍ قَلَّ فيه الخدام المخلصون لهؤلاء الآلهة، على أننا إنْ أثنينا على شاعرنا الطبيب لحسن بلائه وصدق نيته في العناية بالشعر ووقفنا عند ذلك، نظلمه أشنع الظلم، ونجور عليه أقبح الجور، فليس الدكتور إبراهيم ناجي رجلًا حسن البلاء صادق النية في حب الشعر فحسب، وإنما هو فوق هذا كله موفق إلى حدٍّ بعيد فيما حاول من إرضاء الشعر وأصحابه، موفق فيما قصد إليه من المعاني، موفق فيما اصطنع من الألفاظ، وموفق فيما اتخذ من الأساليب، معانيه جيدة تصل أحيانًا إلى الروعة.
وقد يصلح هذا الكلام ليوضع على غلاف ديوان، يفخر بهذه الكلمات صاحب الديوان ويسعد، حتى ينتقل "طه حسين انتقالة أخرى، مقارنا بين علي محمود طه وبين ناجي، واصفاً "علي محمود طه بأنه "مهيأ لأن يكون جباراً أما ناجي فهو"شاعر هين، لين، رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، قوي الجناح، ولكن إلى حد، لا يستطيع أنْ يتجاوز الرياض المألوفة، ولا أنْ يرتفع في الجو ارتفاعًا بعيد المدى، وإنما قصاراه أنْ يتنقل في هذه الرياض التي تنبت في المدينة أو من حولها، والتي لا تكاد تبعد عنها كثيرًا، وهو إذا ألمَّ بحديقةٍ من الحدائق أو جنةٍ من الجنات لا يحب أنْ يقع على أشجارها الضخمة الشامخة في السماء، وإنما يحب أنْ يقع على أشجارها المعتدلة الهينة، ويتخير من هذه الأشجار أغصانها الرطبة اللدنة التي تثير في النفس حنانًا إليها، لا إكبارًا لها ولا إشفاقًا منها، هو شاعر حب رقيق، ولكنه ليس مسرفًا في العمق، ولا مسرفًا في السعة، ولا مسرفًا في الحب الذي يحرق القلوب تحريقًا ويمزق النفوس تمزيقًا، شعره أشبه بما يسميه الفرنجة موسيقى الغرفة منه بهذه الموسيقى الكبرى التي تذهب بك كل مذهب، وتهيم بك فيما تعرف وما لا تعرف من الأجواء.
ما كتبه"طه حسين أصاب شاعرنا في مقتل، لكنه امتلك شجاعة الرد، رد المذبوح المتألم البائس اليائس، فقال:"أنت تراني شاعراً هيّناً ليّناً وليس جباراً، فأنت من أنصار الأدب العنيف الأدب النيتشويوكان القرار المؤقت:"وداعاً أيها الشعر، وداعاً أيها الفن، وداعاً أيها الفكر، وداعاً ودمعة مرّة وابتسامة أمر.
وركب البحر قاصداً - كما يروي لنا الأديب الكبير وديع فلسطين - إنجلترا فراراً من هذا النقد العنيف الذي تعرض له ديوانه من طه حسين، لكن لم تطب له الحياة في إنجلترا، حيث أصيب في حادث سيارة وكسرت ساقه، ولم يجد مفراً من العودة إلى مصر.
ظلم ذوي القربى

"إن شعري وأدبي لا يستحقان أي تقدير.. أنا الآن لا أخرج من المنزل إلا قليلا لضعفي، أنا هنا - في بورسعيد - منقطع عن الناس، وقد مضى دهر طويل لم أكاتب أحداً ولم يكاتبني أحد "هذه الكلمات التي تقطر أسىً وألماً كتبتها اليد اليسرى للشاعر الفذ عبد الرحمن شكري، بعد أن سيطر الشلل تماما على يده اليمنى، ربما بسبب أوصاف المازني القاسية له، هذه الكلمات كتبها شكري إلى أحد دارسي شعره، ليختم بنفسه سلسلة طويلة من المظالم لاقاها شكري، الذي عاش ميتا لسنوات خلت من السعادة، بلا زوجة ولا أسرة ولا رحمة.
كان عبد الرحمن شكري عفيف اللسان، وهو يستمع للمازني يكيل له الاتهامات الباطلة، واصفا إياه بصنم الأعاجيب"والمرزوء في عقله"أما أساس هذه الموجة العاتية المتطاولة التي أغرقت شكري، فأردته قتيل الفؤاد، فكان مقاله الذي ذكر فيه شيئا من سرقات المازني، قائلا مثلا: (ولقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانهاالشاعر المحتضر"واتضح أنها مأخوذة من قصيدةأدوني"للشاعر الإنجليزيشيللي"كما لفتني صديق آخر لقصيدة المازني التي عنوانهاقبر الشعر"وهي منقولة عنهيني"الشاعر الألماني ولفتني آخر إلى قصيدة....).
واستمر شكري في سرد سرقاته منهيا مقاله بقولهولا أظن أحدا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه، لكن هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت ومعاتبته في عمله، لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه""- أما المازني فقد حاولتفصيل"ثوب من الموضوعية للأمر، وبحث عما يدين شكري فلم يجد، فقاد هجمته دون إشارة لما قاله صاحبه حول سرقاته وقد أشاد المازني به مرشدا وأستاذا في كتابهسبيل الحياة"، كما أشاد العقاد كثيرا به، وفي كتابهأنا"يقول: لم أعرف قبله ولا بعده إنسانا أوسع اطلاعا على أدب العربية والإنجليزية"
وبقدرة قادر تحول شكري إلىصنم الأعاجيب "وصار خمول شكري وفشله واضحا في كل ما عالجه"هذا المرزوء في عقله ".. متكلف لا مطبوع"جاهل بوظيفة الشعر"الأبكم المسكين"فماذا بعد ذلك؟
لقد عاش شكري في بورسعيد أخريات حياته، ينفق على أسرة شقيقه الذي عاش مريضا ثم مات تاركا أسرة في عنق شكري، فلم يتزوج لأجل مساعدتها، وعاش محروما من كافة متع الحياة، ناقما عليها.

الكلمة سيف

يقول كامل زهيري في مقال له بمجلة العربي نوفمبر 1991 (وفي سهرة عابرة، انطلقت كلمة طائشة كالرصاصة، فاخترقت قلبه، ومات). أما من اخترق قلبه فهو صلاح عبد الصبور، ومن نسبت له هذه الكلمات كان الفنان بهجت عثمان في منزل الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وأصل الحكاية كما ترويها الفنانة معتزة عبد الصبور، ابنة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور:قبل رحيل صلاح عبد الصبور ظهر في حياتنا فجأة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ودعانا إلى حضور عيد ميلاد ابنته‏، وفي بيته كان أمل دنقل وبهجت عثمان‏، ود‏. جابر عصفور وآخرون لا أذكرهم‏، يجلسون في البلكونة بينما الأطفال جميعًا كانوا في إحدى الحجرات يسمعون الموسيقى".‏وأضافت أنه في اليوم التالي لتلك السهرة المربكة‏ (الجمعة‏)‏ كان البيت ممتلئا بالناس‏، صحفيين وكتابا، وللمرة الأولى أعرف أن أبي كان مشهورًا‏، الوحيدة التي كانت ترتدي الأسود هي الفنانة سناء يونس‏كانت صديقة مقربة من أمي وأبي"ويبدو أنهم نبهوا على الجميع ألا يلبسوا الأسود‏، لكن البكاء فضح الأمر‏، ولم أكن أريد - كطفلة - تصديق ما حدث، وفجأة وجدت أمي تصرخ قائلة‏:‏"قتلوه‏". وخلاصة الحكاية أن الفنان بهجت عثمان قد وجه نقدا مباشرا للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس هيئة الكتاب المسؤولة عن تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقال له بهجت: لقد بعت كل شيء بثمن بخس!، إثر قبول عبد الصبور رئاسة الهيئة العامة للكتاب بتكليف من يوسف السباعي وزير الثقافة.
صلاح عبد الصبور الذي قال في مسرحيته البديعة"مأساة الحلاج" (إن الكلمات إذا رفعت سيفاً فهي السيف) قتلته كلمة، لكن نقاء كلمته ظل ساطعاً.

عن "الخليج" الإماراتية

الصفحة الرئيسية