محطات الإرهاب كما توثقها "موسوعة العذاب"... إلى داعش والخميني

محطات الإرهاب كما توثقها "موسوعة العذاب"... إلى داعش والخميني

محطات الإرهاب كما توثقها "موسوعة العذاب"... إلى داعش والخميني


11/12/2023

الإرهاب والرشد نقيضان مثل؛ الماء والنار، إلا أنّ كونهما فعلاً أو سمة بشرية في عصور عدة؛ يعني إمكان التحول من إحديهما إلى الأخرى، وقد حدث هذا في أمثلة عدة؛ فهذا أشهر الإرهابيين في العصر الحديث، أسامة بن لادن، كان شخصية معتدلة، بحسب شهادة والدته والمقربين منه، قبل أن يخطفه تنظيم الإخوان المسلمين، من بوابة "الولع" بما سمّي "الجهاد الأفغاني"، أما المتشدّدون والإرهابيّون، الذين عادوا إلى الرشد، فهم كثيرون عبر التاريخ.

منذ العام 79، ما من حركة إرهابية أو متشددة، إلا وكانت منطلقة بدعم من الخمينية، تحت بند "تصدير الثورة"

وكان أشهر الحوادث في هذا السياق قديماً؛ عودة الخوارج عن محاربة الإمام علي، وتكفير فرقائهم المؤمنين، وحديثاً ما من قُطر عربي إلا وحدثت فيه مراجعات، في السعودية ومصر والمغرب وتونس وليبيا، خرج إثرها كثيرون من السجون، وعادوا إلى قيم ومعتقد السواد الأعظم من مواطنيهم، حتى إن نكص عديد منهم، نحو التشدد كرة أخرى.

لكن، هل للإرهاب سنّ رشد معيّن، وهو الذي عرف بطيشه المطلق؟ هذا تساؤل وجيه، إلا أنّه بإسقاط التجارب الإنسانية، الحسنة والسيئة، على "التجربة الإرهابية"، إن صحّ الإطلاق، فإنّه يمكن عدّ التأثر بالزمن، عاملاً قابلاً للنقاش والقياس؛ ففي الناس يزداد العقل ولوازمه مع تقدم السنّ غالباً، وكذلك أرباح الشركات، واستقرار الدول، وتجارب الأمم.

إن كان كذلك؛ فلا مانع من إخضاع الإرهاب للمعادلة نفسها، فنرى بعد ذلك إن كان سرى على قانونها، أم كان له منطق آخر، فكيف نقيس عمر الإرهاب؟ حتى نتوقع طيشه أو رشده، وإن كان نسبياً، أو نخضعه، لمنطق "سفاه الشيخ" الذي لا حلم بعده.

"موسوعة العذاب" لعبود الشالجي

كيف نؤرّخ للإرهاب؟

هناك اختلاف كبير في التأريخ للإرهاب الذي تشهده الساحة الدولية، اليوم، خصوصاً الإسلامي منه، أو الصادر من المنتسبين إلى الإسلام، حتى لا نثير غضب المتحسسين من بعض المصطلحات، فهناك من يعيد الإرهاب إلى الخوارج الأوّلين؛ الذين قاتلوا الخليفتين، عثمان وعليّاً، رضي الله عنهما، وخرجوا على الدولة الإسلامية الأولى، بعيد عقدين تقريباً من وفاة الرسولﷺ.

لكنّ هذا المنحى ينقضه صاحب موسوعة "العذاب"، عبود الشالجي (1911-1996)؛ الذي جمع صنوفاً من أنواع الإرهاب الممارسة في عصور مبكرة من العهد الأموي والعباسي، على يد بعض القادة وأمراء الأقاليم والمتخذين من إرهاب خصومهم وسيلة ردع، تفننوا في ابتكار أساليبها مثل: يزيد بن معاوية، وزياد بن أبيه، والحجاج، وغيرهم، معيداً ذلك إلى شيم العجم الذين تداخلوا لاحقاً مع الدولة الإسلامية.

اقرأ أيضاً: كيف سرقت عمامة الخميني أحلام الإيرانيين؟

وقال: "لم يكن العذاب ممارساً في صدر الإسلام، فالإسلام جاء بالسلام والمودّة والعطف والرحمة، وشعاره أن "لا إكراه في الدين"، واختصر نبي الإسلام جمع ما قام به في كلمة واحدة: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"".

وفي المنحى نفسه؛ هناك من يصنّف نهج الكنيسة في العصور الوسطى، ومحاكم التفتيش في إسبانيا، وبعض موجات الحروب الصليبية، ضرباً من الإرهاب المسيحيّ؛ الذي كان أشبه شيء بنظيره الإسلامي في هذا العصر، على حدّ توجيه الكاتب اللبناني الفرنسي، أمين معلوف.

 

 

وبين المعاصرين، مثل الباحث السعودي مطيع الله الحربي، من أعاد النموذج الحالي من الإرهاب إلى ممارسات الثورة الفرنسية، ذائعة الصيت في ميدان المقاصل والقتل على الهوية، دون محاكمات أو تدقيق، وما تبعها من الاستعمار، الذي وُصف بأنه أحد سمات الإرهاب الرئيسة، ومن هذا الباب؛ نظر بعض الباحثين إلى الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، على أنه أحد المعالم المحرِّضة على ظهور الإرهاب في وضعه الراهن.

دور الخمينية الطائفي في العراق، الذي كان تنظيم داعش بين منتجاته، سهّل على المحيط العربي فهم المآرب الإيرانية فيما بعد

حتى أنّ الأمم المتحدة في دراستها الإرهاب، بعد ذيوعه وانتشاره العام 1972، عدّت "الاستعمار والأسباب ذات الطبيعة الاقتصادية" أهم دواعيه، وإن كان الباحث في كتاب الإرهاب وخلفياته قد استدرك على هذه الدراسة حصرها الأسباب في هذين، معتبراً أنّ الواقع برهن على وجود إرهابٍ مردّه إلى غير السببين المذكورين، مثل: التصورات العقدية، والتأويلات المتطرفة غير السديدة للنصوص.

أما التأريخ الأشهر لظهور الإرهاب في نسخته الإسلامية الحالية، الذي شغل الباحثين من كلّ الأطياف؛ السياسية، والأمنية، والفكرية، والاجتماعية، فهو نشأة "تنظيم الإخوان المسلمين" في مصر، العام 1928، خصوصاً بعد انضمام منظّرهم الأشهر سيد قطب إلى مدرستهم، وإضافته إليها حقناً شديدة الفاعلية في "تسميم العقلية الجمعية" لمنتسبي الحركات الإسلامية ذات النهج الإخواني، أو تلك التي مسّها طائف منها، وتأثرت ببعض جوانبها العاطفية، في مثل ما سمّي "الصحوة"، والجهاد (الأفغاني خصوصاً)، وأسلمة الحياة الاجتماعية، ونسلها المتنامي في كلّ قُطر، وُجد فيه مسلمون حتى في الدول الغربية.

اقرأ أيضاً: لماذا تصرّ إيران على عدم اتهام داعش بهجوم الأهواز؟

وكانت أشهر أيقونات قطب الفكرية المؤثرة في هذا الجانب: مصطلح "الحاكمية"، الذي يخلص في أسهل أبجدياته إلى "التكفير" المفضي إلى هدر الدم، والإرهاب بطبيعة الحال.

المودودي وقطب و79!

غير أنّ الباحث المتعمّق في شؤون الجماعات الإسلامية، علي العميم، نبّه في مقالة له في "الشرق الأوسط"؛ إلى أنّ قطب لم يكن سوى ناقلاً "غير أمين" عن سلفه الهندي المودودي، الذي سبق إلى تحقير التدين الجماعي الفطري الذي كان شائعاً بين المسلمين، قبل أن يستحيل بفعله، هو والمتأثرين به، إلى تدين حركي – سياسي، نفخ فيه كلّ طرف من روحه ما شاء أن ينفخ، حتى عهد داعش.

 

 

جميع تلك التحليلات المؤرخة للإرهاب، يمكن أن تتلاقى، على طريقة الحطب والبنزين الذي يزيد النار اشتعالاً، أو النهر الذي يزيد البحر فيضاناً، إنما الفكرة الجديدة التي كانت مثار اهتمام، هي المحطة المؤثرة جداً في تاريخ الإرهاب السياسي؛ وهي ميلاد "النظام الخميني"، أو فلنسمِّها، كما أطلق عليها صاحب نظريتها، الأمير محمد بن سلمان، "حقبة ما بعد 79"، في إشارة إلى عام استحواذ الخميني على السلطة في إيران، بوصفه التأريخ الأرجح للنسخة الحالية من الإرهاب الإسلامي.

وجاهة هذه الفكرة أو النظرية، ليست مرتبطة بأنّ قائلها شخصية مؤثرة في العالم والمنطقة؛ فالأفكار التي تتردّد يومياً من زعماء وباحثين، ما يتبخر منها أكثر مما يصمد ويجد حظّه من التصديق؛ إنما تعود وجاهتها إلى قوة الحقائق التي تستند إليها، ومنطقية الربط بين "مجموع الوقائع" التي يعرفها الجميع، لكنهم عن ربطها شبه غافلين، قبل أن ينفض ولي العهد السعودي عن تلك الفكرة الغبار.

اقرأ أيضاً: حلف الإمامية والخمينية في اليمن: حاجة حوثية أم استراتيجية إيرانية؟

الجميع، تقريباً، وليس الباحثين والمهتمين فقط، يدركون حجم السوء في الأيدولوجيا الخمينية، حتى قبل أن يصنفها الرئيس الأمريكي بوش، ضمن "محور الشرّ"؛ وقد رأينا، إذ كنّا صغاراً، (عن قرب أو بعد)، للمرة الأولى، قوات الطوارئ السعودية في ضواحي المشاعر المقدّسة والمسجد الحرام، بفضل شغب الخمينية؛ الذي سريعاً ما تطور بعد ذلك إلى دماء وأشلاء، في منى وساحات المسجد الحرام، وأي ذنب بعد استهداف البيت الحرام وحجاجه؟!

الفكرة؛ أنّه منذ العام 79، ما من حركة إرهابية أو متشددة، إلا وكانت منطلقة بدعم من الخمينية، تحت بند "تصدير الثورة"، أو تحاول اقتباس تجربتهم في السيطرة على الدولة، وتفصيلها على الطائفة، ولسوء الحظّ؛ فإنّ الحركة الخمينية، وهي ذات الاتجاه الإثني عشري، تتقاطع في مبادئها الأساسية مع حركة الإخوان المسلمين، وأعيد ذلك إلى ما قيل إنّه تأثّر الخميني نفسه بالمدرسة الإخوانية، واتصاله ببعض رموزها، قبل إسقاط نظام الشاه وبعده.

وإذا كان من جدل أو شكّ في تأثر الخميني ابتداءً بالإخوان؛ فإن التأثر الإخواني، وغيرهم من الطيف الإسلامي الحركي، بالتجربة الخمينية، أكثر من أن يحصى. حتى في بلدان المغرب العربي، البعيدة جغرافياً، كان لذلك صدى وتقليداً، عزّزه النَفَس اليساري هنالك، الذي يتفهّم الأصولية الشيعية أكثر من السنّية.

 

 

على خطى "الخميني"

ناهيك عن حركة جهيمان، والصحوة الإسلامية، والجهاد الأفغاني وامتداده القاعدة، وحزب الله اللبناني، الذي حاول ما أمكنه تسويق التجربة الخمينية بمحاربة إسرائيل، خصوصاً بعد حرب تموز، قبل أن ينكشف قناعه وطموحه في السيطرة على الدولة اللبنانية، وتعويض انسحاب حلفائه السوريين، بعد اغتيال رفيق الحريري باحتلال مواقعهم.

اقرأ أيضاً: تنظيم داعش يتوعّد إيران

أما الموجة الثانية من بروز نهج 79 الخميني؛ فقد ظهرت أكثر عند بزوغ فوضى الثورات العربية، التي حاول الإيرانيون وحلفاؤهم القطريين توظيفها ما أمكنهم، وظلّوا يفاخرون رسمياً بأنّها امتداد لثورتهم، قبل أن تصل حلفاءهم في سوريا.

لكنّ دور الخمينية الطائفي في العراق، الذي كان تنظيم داعش بين منتجاته، سهّل على المحيط العربي فهم المآرب الإيرانية فيما بعد، فصار تدخّلها في البحرين وسوريا واليمن مكشوفاً، ما جعل خيار مواجهتها عسكرياً وسياسياً في الإقليم، خياراً واضح الإستراتيجية، حتى للجمهور من قبل صنّاع القرار.

غير أنّ الربط بين 79 وما تعيشه بعض دول المغرب العربي والخليج، من استماتة الحركيين (وليس المحافظين التقليديين)، في الهيمنة على المجتمع وأسلمة الدولة، وفق النموذج الإيراني، ظلّ غائباً عن التداول الجدير به، لدرجة أنّ الدّعم الإيراني اللوجستي للقاعدة، الذي غدا معروفاً منذ مرحلة مبكرة، لم يحظَ بكثير من الاهتمام، على غرار حوادث معزولة أقلّ شأناً من جانب بعض دول الجوار الأفغاني.

يعد الربيع العربي أقرب النماذج التي تستلهم التجربة الخمينية

وربما يكون الولع بهذا النموذج، هو الذي دفع أيضاً القطريين، ركوب موجة الاستثمار في حركة الإخوان المسلمين، واستقطاب أكبر رموزها القرضاوي، الذي استمات أيام شعبيته في التنظير للقواسم المشتركة؛ بين النظام الخميني وبقية الأنظمة العربية، تحت غطاء الحوار المذهبي.

ولا بدّ من أن يكون المهتمّون قد اطلعوا على دستور الإخوان المسلمين، وما تضمنه من رؤيتهم للدولة الوطنية، فيما قيل إنه إحدى مراجعاتهم وتنازلاتهم عن الحاكمية، ورؤية الخلافة الشمولية، لكنّها رؤية لم ترق للباحثين حتى يومها، ونقاط الاتصال بينها وبين النظام الخميني واضحة، بما في ذلك نصّهم على مبدأ "المرشد"!

اقرأ أيضاً: "داعش" يضع مدونة سلوك لتهذيب التعذيب!

في الآونة الأخيرة، بعد الربيع العربي؛ كانت أقرب النماذج التي تستلهم التجربة الخمينية، ولو من طرف كان خفياً في البداية ثم فشا، التجربة الأردوغانية؛ فالرجل الذي كانت قصّة صعوده في الأصل اقتصادية، أدواته الجديدة في الهيمنة على الحكم، وإقصاء الشركاء قبل المخالفين، وتوظيف الأيديولوجيا الدينية حيناً والقومية والتاريخية تارة أخرى، لا تنقصها الشواهد الخمينية، وهو بانضمامه إلى المعسكر الإيراني وملحقه القطري، رغم التاريخ المضاد، يعطي انطباعاً أقرب لذلك التأويل.

وهكذا؛ فإنّ المتغيرات التي أشير إليها بعد 79، كافية فيما ذهب إليه الزميل، مشاري الذايدي، إلى القول إنّها تؤرخ للإرهاب الحديث الذي عاشت المنطقة والعالم فصوله.

ويبقى السؤال الأول الذي بدأنا به: هل يعود الإرهابي إلى رشده بعد مضيّ نحو 44 عاماً، على 79 المشؤوم، ربما، للمرة الأولى في تاريخ المنطقة نبصر بعض معالم ذلك، بفضل انكشاف اللّغز الإيراني، ومن يسير في فلكه ويخدمه، من حيث يدري ولا يدري، وما بقي إلا مواصلة جهد التفسير والتنوير لإقناع العالم بالحقائق التي أصبحت فوق النكران، وحينئذٍ؛ حتى لو عادت نسخة أخرى من الإرهاب، كما يعلمنا التاريخ، فإنّها لن تكون في مثل كفاءة نسخة اليوم؛ في الخراب والتمزيق، المادّي والمعنوي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية